هناك اعتقاد سائد لدى بعض الناس في عالمنا العربي بأن الفن نوع من الرفاهية. وهذه النظرة تجاه الفن غير قادرة على رؤية الأدوار الفعالة التي يجب أن يقدمها. فهل الفن حقا ضرب من الرفاهية؟ أم أن ثمة تأثير له في ثقافة ووعي المجتمع؟
الفن والمجتمع الإنساني
ثمة اختلاف حول تعريف الفن. إذ إن مجال الفن هو مجال مفتوح تتنوع فيه الأعمال وتتطور عبر الزمان ولذلك يصعب تحديد تعريف واحد للفن. بيد أنه وبشكل عام يمكننا اعتبار أن الفن هو تعبير إنساني يدل على مرحلة من مراحل الوعي فمن خلاله يعبر المؤلف عن أفكاره ومفاهيمه الإبداعية أو مهاراته الفنية. وبالتالي يمكننا اعتبار الفن وسيطًا بين أفراد المجتمع الواحد وبين المجتمعات وبعضها البعض. فالرموز والإشارات التي يستعملها الفنان في أعماله الفنية بمثابة لغة تواصل وأدوات يستطيع من خلالها نقل أفكاره والتي تتضمن بالطبع قيما اجتماعية أو دينية أو أخلاقية أو أيديولوجية.
بل إن الفنانين يلعبون دورًا لا يمكن للسياسيين أو حتى العسكريين القيام به. إذ إنهم يخاطبون الجزء اللاواعي في عقول الشعوب وهو ما يُمكنهم من نقل أفكارهم والمساهمة في تشكيل ثقافة المجتمع وتطوير طريقة تفكيره. ومن هذه الزاوية تتبلور مهمة الفنّان المتمثلة في قدرته على تحويل أفكاره إلى عمل يحمل في طياته أبعاد متعدّدة ورؤى تعبيرية تترجم عنها. فالفن ليس إعادة إنتاج للواقع وحسب ولكنه إعادة عرض للواقع ذاته. وهو ما كان يسميه الفيلسوف الفرنسي جان بوديار “ثقافة الصورة” وما عبر عنه بيكاسو بقوله: “نعرف جميعًا أن الفن ليس الحقيقة إنه كذبة تجعلنا ندرك الحقيقة”
وقد أدرك السياسيون مبكرًا هذا الدور فسعوا لامتلاك وتوظيف الفن. وعلى سبيل المثال عندما اجتمع المفوضون في مؤتمر فيينا في بداية القرن التاسع عشر استدعوا بيتهوفن ليُلحن لهم. وعندما سعت الولايات المتحدة لكسب الدعم في أثناء صعودها كقوة عظمى كانت ترسل الفنانين مثل الملحن آرون كوبلاند والمغنية والممثلة كارمن ميراندا لتعزيز السياسات مع دول الجوار. وإلى الآن لازالت تلعب هوليود دورًا كبيرًا في التأثير الثقافي ورسم الصورة الذهنية للولايات المتحدة الأمريكية.
الفن وتدمير المجتمعات
تعمل الفنون كذلك على ترسيخ الأيديولوجيا المختلفة داخل المجتمع بل إن مجال عملها بالأساس هو تقوية المعتقدات الروحية وترسيخ القيم والعادات والتقاليد والمثل الأخلاقية باعتبارها وسيلة من وسائل تنظيم المجتمع شأنها في ذلك شأن القوانين الوضعية والعرفية. لذا، نجد أن الطغاة دائما ما يتجهون نحو الفن لتقديم نسخ منحطة وأعمال مبتذلة في سبيل تغيير الموروث الثقافي والحضاري للمقهورين من تحتهم.
وهذا التغيير دائمًا ما يكون تدريجيًا أي تغيرًا بطيئًا قد لا يشعر به أبناء الجيل الواحد وإنما يتجلى أثره عبر الأجيال المتعاقبة والتي ستكتشف النسخة الجديدة من السردية التي بناها الفن. وبالطبع فإن الفن ليس العامل الوحيد في عملية التغيير المجتمعي لكنه يلعب دورًا رئيسيًا عبر ما يٌقدم من خلاله وما يترسخ بواسطته في عقول ونفوس الجماهير.
وإذا نظرنا إلى الواقع المصري فإن مسرحية مدرسة المشاغبين تعتبر نموذجًا مثاليًا على ذلك الدور. إذ إن هذه المسرحية التي تعتبر من أشهر المسرحيات المصرية كان خلفها قصة. ففي أوائل السبعينيات قدمت فرقة الفنانين المتحدين لصاحبها سمير خفاجي مسرحية “مدرسة المشاغبين” وكان النص مأخوذًا عن الفيلم الأميركي “To Sir, with Love”. وعلى الرغم من أن الفيلم كان متزنًا في طرحه عندما قدم محاولة لفهم طبيعة طلاب المدارس في مرحلة المراهقة وتمردهم على الأساتذة. لكن ما حدث في النص العربي كان فيه مساحة واسعة من تحجيم دور الأساتذة وإعطاء دور أكبر للطلبة المشاغبين وتقديم الكوميديا من خلال المواقف المضحكة التي يوقع فيها الطلاب أساتذتهم وهو ما انعكس جليا في المدارس المصرية مع الوقت بصورة أو بأخرى.
ليس ذلك فحسب بل لا يمكننا فصل مثل هذا العمل الفني عن الوقت الذي تم تقديمه فيه أي نكسة ١٩٦٧م. إذ كان ثمة احتياج عند المشاهدين للضحك ومن خلال هذا الإطار قامت المسرحية بتقديم هذه الجرعة من الضحك للمشاهد وهو ما جعلها تلاقي نجاحًا ساحقا. لكنها -كما سلف- هدمت هيبة ووقار المعلم بل إن بعض الدعاوى قد رُفعت في حينها لوقف عرض المسرحية على التلفاز لتأثر الطلبة بها ومحاولة الإساءة للمدرسين ويقال أن قد رصدت بالفعل حالات ضرب المدرسين لأول مرة في تلك الفترة.
تمامًا كما يمكننا أن نلاحظ الآن مثل هذا مع ظاهرة البلطجة وربطها بما يقدمه الممثل المصري محمد رمضان في أعماله السينمائية المختلفة بداية من فيلم “ريجاتا” و”عبده موته” و”قلب الأسد” وصولا إلى فيلم “الألماني”.
هذه الصورة التي عززتها السينما المصرية في أعمال مختلفة كان أبرزها فيلم “إبراهيم الأبيض” ولعل جريمة مقتل الشاب المصري محمود البنا التي هزت الرأي العام عام ٢٠١٩ أحد الأمثلة على ذلك الربط حيث قُتل الشاب على يد صديقه محمد راجح باستخدام “مطواة قرن غزال” بعد انتقاد محمود لسلوك راجح تجاه إحدى الفتيات.
وهو الحال نفسه عندما نقارن ارتباط الجمهور بالمطربين وتأثرهم بهم وبكلامهم ولِباسهم، مع حالة الخلاعة التي تُكسى بها الحالة الغنائية في مصر من جهة أخرى. ومثل هذا الارتباط يؤثر -بصورة أو بأخرى- في شريحة كبيرة من المجتمع وبالأخص شريحة الشباب؛ على مستوى اللغة التي تتفاعل بها مع بعضها البعض أو تقاليدها اليومية.
الدور الحقيقي للفن
إذ أخذنا مثالًا آخر من الحالة المصرية وهو فيلم “أريد حلًا ” وما أحدثه من ضجة كبيرة في السبعينيات بعد عرضه. بل إنه ساهم في تغيير قوانين الأحوال الشخصية المعمول به في ذلك الوقت؛ فإننا نلمس الأثر المباشر لمثل هذا العمل.
إذاً الصورة ليست أحادية فالمعادلة: أن الفن كالسكين سلاح ذو حدين إما أن يستخدم لرفع وعي الشعوب وتعزيز الهوية الثقافية والاجتماعية وتسليط الضوء على مشاكل المجتمع أو يستخدم لنشر الفساد والرذيلة ويكون معول من معاول الهدم. وهذه المعادلة ترتبط بصناع الفن وقبله بالنظام السياسي الذي يتحكم فيه ويسيطر عليه.
هل الفن رفاهية؟
بالعودة إلى السؤال الذي سألناه في مطلع المقال: هل الفنون هي نوع من أنواع الرفاهية؟ فالحقيقة أنه وعلى الرغم من المظهر الترفيهي للفنون إلا أنها من المحركات الرئيسية لوجدان الشعوب وبها يٌخلق الوعي ويُبعث الفكر. وفي مجتمعات العالم الأول يمثل الفن وسيلة مهمة من وسائل التعليم والتثقيف ونشر الوعي وإدخال الفنون في النظام التعليمي لترسيخ مبادئ الهوية الاجتماعية عند النشء أمر راسخ في هذه المجتمعات.
لا يمكننا إذا النظر إلى الفنون بصورة سطحية أو باعتبارها أداة ترفيه وهروب من الواقع بل يجب أن نمعن النظر في كونها وسيلة لإصلاح الواقع المعاش ذاته.