لقد ارتبط الوجـود الإنساني ارتباطا فعليا في مجال الأدب بالألم كونه لصيقا بالجانب المحسوس للذات البشرية، باعتباره بعدا سيكيولوجيا عصبيا نفسيا، قائما على ذلك الحس المرهف بالخطر الذي يتهدده، إذ إن هذه الطبيعة الحسية لدى الإنسان تستشعر وجودا قائما على الحس والإدراك الفعلي، والوعي والكينونة والوجود، فيكون المسار إلى اتجاه الذات نحو فعل الكتابة والتعبير عن مخالج نفسها بطرق مختلفة، كالبوح وإيضاح رؤيتها الداخلية للأشياء والموجودات وكذا الأحداث عبر مشاعر، فتفجرها بطرق إبداعية عديدة، كالشعر والنثر والنقد وغيرها من الفنون الإبداعية.
في كثير من الأعمال الإبداعية تتفرغ مجموعة من التجارب الإنسانيــة بشعور الألم ودلالاته، إذ يتمثل بشكل أو بآخر في ذلك التعبير الرمزي المعنوي المعبر عن الوجود الإنساني، كونه وعيا قائما على الثنائية الضدية (الوجود والعدم)، وكون هذا الإنسان يعيش بالألم ويوجد به على حد تعبير نيكولا غراهام الذي يرى بأن تجربة الألم هي تجربة معاشة من الجانب البيولوجي، فضلا عن كون هذا الألم يعد خبرة بشرية يجسدها السلوك الإنساني ويقولها النسق الخطابي، وهذا ما نجده عند الفيلسوف النمساوي سيغموند فرويد الذي يرى بأن كل السلوكيات الناتجة عن الذات البشرية في بعدها المضمر قائمة على مبدأ العلاقة بالواقع، وطاقة الألم التي يستوعبها اللاوعي ليصعدها الوعي عن طريق أشكال من التعبير، وأنماط من التفكير والإبداع، إنها طاقة إنسانية تقوم على الإحساس وترقى إلى الظهور كأنظمة خطابية وسلوكيات وثنائيات ضدية، بمظهرين يتجليان في علاقة الإنسان بالغير وبنفسه.
وهكذا تتكلل الكتابـة مجموع التجارب الواقعية والنفسية القائمة على مجابهة الألم بالألم، وعندما نتحدث عن الألم فإننا قد نجد الألم الصموت والألم المكبـــوت والألم المنطـــوق عبر صيحات ترددها الذات بأصدائها في نسق من العلامـات اللغوية ودلالات تخييل الألم انطلاقا من منطلقات سلوكية لا واعية تنتج وعيا بالألم، مثل الخوف بالألم، وتوطين الألم، والبوح بالألم، والتعود على الألم، وأخلاق الألم، ومقاومة الألم، وقد يتجاوز الأمر بذلك إلى التمتع به والرغبة في عيش تجربــة الألم وتفريغها عن طريق التعبير والكتابــــة الإبداعيــــة المختلفة العرض والتصور، إذ إن كل تجربة إنسانية قائمة على ألم معين تتم عبر تأويــــلات حسية مجــردة، وإخراج ما يؤلم الذات الكاتبة المعبرة إلى الوجود الفعلي وتوثيقه بطرق عديدة.
تتجلى لنا بعض التجارب الكتابية الحاضنة لأحاسيس وتيمات الألم في تلك الجموع الأدبية المعبرة عن التجارب الواقعية والمتخيلة من مثل الكتابة عن تجربة سجنية، والتي تدخل ضمن خانة أدب السجـــون كتجربة (الزنزانة رقم 10 لأحمد المرزوقي، وتلك العتمة الباهرة للطاهر بنجلون)، كلها رموز كفاح معاشة في تجارب مختلفة النظير كالشقاء والبلاء، والعناء، والتضحية، والفداء، والخوف، والبكاء، والخشية، والعذاب، والمكابدة، والوجع، والحزن، والمأساة.
ولعل شعور المرارة الذي تعيشه الذات البشرية المبدعة المعبرة قائم على تخلصها منه عن طريق التقاســم ومشاركة الآخرين تلك التجارب والأحاسيس، لتجد في مقابل ذلك الذات المتلقية تعبيرا غير مباشر عن همومها وأحزانها، مشكلة لها بذلك متنفسا، نظرا لأن الكاتب يستدعي عن قصد أو بدون قصد تلك الأحاسيس والأحداث المعبر عنها في عمله الإبداعي الذي يكون على شكل سرود محكية بحبكة قد تلائم كل ذات متلقية حسب الوضعية التي يعيش فيها ومعها، فيكون بذلك قد عبر عن نفسه وعن ذات الجماعة أو أفراد معينين.
لعل ما يمكن تجريده والإفصاح عنه قد يبين لنا أن الذات الفردية لا يمكن عزلها عن ذات الجماعة بأي حال من الأحوال، كون هذه الذات تعاني عبر تاريخ طويل من قضايا اجتماعية، واقتصادية، ونفسية، قائمة بذلك على الارتباط بظروف مختلفة ولها خيوط تربطها مع مآسي عديدة جراء تذبذب الأحداث والأوضاع السياسية، والتخلف الاقتصادي، والتمزق العاطفي، في مختلف المجتمعات العربية، لذا فالرغبة لدى المبدع العربي مؤكدة وملحة في التعبير عن أحزانه وأحزان شعبه وجعل اتساماته الكتابية موقوفة على قضايا اجتماعية، وعاطفية، ووطنية شعبية.
كل هذا يضعنا موضع تأكد حول سبب نيل العديد من الكتاب المشاهير جوائز أدبية على كتاباتهم الإبداعية التي رافقتها تيمات وسمات الحزن والألم ولذة التعبير من إلمامهم بأحزان بيئتهم، والانغماس في هموم شعوبهم ما جعل هذه الأعمال تلقى إقبالا كبيرا، من مثل أعمال نجيب محفوظ وغيره من عمالقة الأدب العربي، وكذلك أعمال الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي التي حظيت بمكانة شاهقة في ساحة الأدب الروائي كون تجاربها مليئة بسمات حزن وألم انغمست بأحداث شعبية تعلقت بهموم الشعب الجزائري.
وكذلك نجد أيضاً كتاب مغاربة أبدعوا فأحسنوا الإبداع من مثل أحمد بوزفور، ومحمد زفزاف، ومحمد شكري، فهذا الأخير على سبيل المثال بأعماله الروائية الشهيرة، أبرزها رواية “الخبز الحافي” التي نقل بها تجربة سردية محبوكة مثلت الواقع الحزين وعرت عنه وعن الألم الذي رافقها، وشعور اللذة في نقل مآسي عاشها وعاشت فيها طبقة كبيرة من الهامش الذي نشأ وترعرع فيه.
إنها نماذج باذخة حية لكتاب وروائيين حققوا نجاحات باهرة لم يكن ليتحقق لهم ذلك النجاح لولا اقتحامهم لمحيطهم الاجتماعي والسياسي وانغماسهم في أحزان شعوبهم المهمشة أصلا، إن أمتنا العربية تعيش أعراســـــا من الأحــزان والمآسي جراء ما نعيشه من قضايا وظواهر نلامس فيها الألم والتهميش، وقضايا الإنسانية ومآسيها ونلامس فيها أيضا لذة التعبير عن هذه الآلآم بطرق سرد مختلفة تجد نفسها تتفنن في سرود ومحكيات قد تجمع أحيانا بين واقع ومتخيل لتضيف له ما تضيف من المتعة في التلقي والقراءة وملامسة شعور المتلقي، وغالبا ما نجد الأعمال قائمة ومعتمدة في بناء سرودها على ما هو واقعي ومعاش في بلاد العرب التي لامست الأحزان والمآسي في عيشها وسيرورة زمانها، إنه الشيء الذي يجعلنا نتساءل كيف لا تكون أعمال كتابنا العرب الإبداعية باذخـــة حزنا نظراً لكونها تحمل ما تحمل من الآلام والمرارة؟
وإننا أمام متلقي يتجه ويهوي به اهتمامه إلى ما يعبر عنه وعن ظروفه مما ينسجم مع أوضاعه وحالاته النفسية، ولذلك فإنه لا يمكن لأي أدب أو عمل فني مبتكر من طرف أي كاتب أو مبدع كيفما كان صداه الإبداعي أن يقارن أو يرقى إلى مكانة كتاب عبروا عن أحزان وهموم شعوبهم وآلامهم فأصابوا التعبيــــر وأتقنوا حبكة سرد التجارب التي جمعت بين لذة التعبير وآلام الشعور في كتابات إبداعية محبوكة بامتيـــاز.
تعليقات علي هذا المقال