تمثل حركة نقل الأفارقة من بلادهم إلى المستعمرات الإسبانية في أمريكا الشمالية، والتي بدأت في القرن السادس عشر، نقطة سوداء في سجل تاريخ الحضارة الغربية الأسود، الذي امتلئ باستعباد البشر وسرقة ثرواتهم وسلبهم من كل مقدراتهم وطاقاتهم.
فمنذ ذلك الوقت وقع الأفارقة ضحايا لحملات استعباد وعنصرية، واجهوا خلالها أقسى معاملة وحشية استلبت منهم أي اعتبار إنساني أو حقوقي، وعانوا من الجوع والقسوة والعنف والظروف غير الآدمية على مدار مئات السنين.
ولم يكن النظام الاستعماري والرأسمالي يسمح بأي خرق لتجارة العبيد، ولذا كانت أي إشارة لمقاومة هذا الاضطهاد تُقابل بواسطة البيض بالردع الفوري الذي يصل إلى القتل في كثير من الأحيان، ورغم ذلك استمرت انتفاضات السود ومقاومتهم للعنصرية منذ فجر الاستعمار الإسباني لأمريكا الشمالية.
بلغت ذروة نضال السود في حقبة الستينيات من القرن الماضي، لكنه لم يكن منطويًا تحت راية واحدة، فقد تجلى في تلك الحقبة تياران مختلفان نشأ بينهما صراع ضمني وصريح، صراع بين المنادين بالمساواة وإلغاء القانون العنصري في الولايات المتحدة عبر الوسائل السلمية والدستورية، وبين المنادين بالثورة على النظام والدعوة لانفصال السود بشكل كامل عنه.
كان التيار الأول هو التيار الإصلاحي المسمى بحركة الحقوق المدنية والذي تزعمه مارتن لوثر كينج، والثاني هو التيار الثوري والذي يتزعمه مالكوم إكس أو الحاج مالك شباز.
حاليًا يصف بعض المحللين التيارين بأنهما كانا مكملين لبعضهما البعض، أي أن اختلافهما كان اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، بينما يصفهما آخرون بأنهما كانا متضادين ومختلفين في الاستراتيجيات والأهداف والتكتيكات اختلافًا كليا، والأمر الذي يعنينا هنا هو: كيف نظر مالكوم إكس إلى هذا الخلاف بغض النظر عن رؤيتنا نحن له؟ وهل كان يرى نفسه جزءً من حركة الحقوق المدنية أم تيارا منفصلا عنه؟
تباين النشأة: طفل مدلل وآخر محروم
قد تنبع معتقدات مارتن لوثر كينج ومالكوم إكس من حقيقة أن طفولتهما كانتا مختلفتين إلى حد كبير، بالنظر إلى أن الأول عاش في منزل مريح للغاية وجاء من الطبقة المتوسطة بينما عانى الآخر من أسوأ ما في المنزل المحروم، كان الأول متعلما في حين كان الآخر يعلم نفسه بعدما تلقى قدرا ضئيلا من التعليم، جاء مارتن لوثر كينج في الواقع من عائلة كانت معروفة في منطقتهم في أتلانتا، في حين أن مالكوم إكس كان ابن الشوارع والحواري والعصابات.
ربما يمكن للمرء أن يقول إن مارتن لوثر كينج تمتع بأفضل ما قدمته الحياة في ذلك الوقت وخاصة وجود الوالدين المحبين.ك، من ناحية أخرى؛ كان مالكوم إكس شخصا عانى في وقت مبكر من الغضب بسبب مشاهدة منزله يحترق يليه مقتل والده، ثم عانت والدته من انهيار أدى إلى تفكك عائلته.”، استنادا إلى طفولتهما وسنوات نشأتهما (القضايا العرقية والفرص التعليمية ومستوى الراحة المنزلية ووجود الآباء المحبين)، ربما يمكنك معرفة أين ترتكز معتقداتهما؟
عبر تطور الأفكار وتعاقب الأزمنة، التزم مارتن لوثر كينج بأخلاقيات طاعة الأنظمة القائمة، لذا تمثلت غاية تصوراته في اندماج السود مع البيض، وإلغاء قوانين الفصل العنصري، والتعايش بسلام في مجتمع واحد.
أما مالكوم إكس، ابن العصابات والمطاردات وتجربة السجن والإجرام، فكان مؤمنًا بالثورة والانفصال الكامل عن النظام، وبضرورة استقلال السود عن البيض، ويمكننا قراءة موقفه من التيار الإصلاحي عبر تقسيمه إلى مرحلتين أساسيتين: مرحلة تنظيم “أمة الإسلام” ومرحلة التصالح.
مرحلة أمة الإسلام: اتهامات بالعمالة للبيض
في بداية نضاله الحقوقي انضم مالكوم إكس لتنظيم “أمة الإسلام” الذي تزعمه إليجاه محمد، كان هذا التنظيم يؤمن بمعتقدات شاذة مثل نبوة إليجاه رغم أنه كان يدعي الإسلام في المجمل، وانطلق نشاط إكس وخطاباته الثورية من هناك.
كان مالكوم إكس في هذه الفترة يعادي مارتن لوثر كينج ومن يسير على خطاه من الإصلاحيين، وبلغ انتقاده له إلى حد أنه كان يصفه بالخيانة وأحيانًا بالعمالة، قائلًا بأن البيض لديهم مصلحة في تصدير كينج من أجل احتواء غضب السود.
ومع أن مالكوم إكس قد أسهم في تحسين وضع حركة الحقوق المدنية، إلا أنه كان شديد الانتقاد لها، حيث وصف لوثر بالخائن والعميل لدى البيض، بل اتهمه بقتل قضية السود حيث قال في إحدى مقابلاته التليفزيونية: “يدفع الرجل الأبيض للراهب مارتن لوثر كينج ويقدم له الإعانات، ليتمكن لوثر كينج من تعليم السود بأن يكونوا ضعفاء”.
وقال في خطبة عامة أخرى: “عندما يضع قادة حركة الحقوق برنامجًا، فإنك لن تجد أي تحرك، والوقت الوحيد الذي تراهم فيه هو الوقت الذي ينفجر فيه الناس، في ذلك الوقت يقتحم القادة ويوجهون للسيطرة على الأمور، أنتم لا تستطيعون أن تذكروا لي قائدًا واحدًا تسبب بانفجار شعبي، إن القادة يأتون لاحتواء الانفجار، هذا هو دورهم، إنهم موجودون كي يكبحوكم ويكبحوني ويكبحوا الكفاح ويبقوه في مسار محدد فلا يخرج عن السيطرة”.
وفي المقابل كان رواد التيار الإصلاحي يسخرون من مالكوم إكس، قائلين بأنه يمثل ظاهرة صوتية فقط لا غير، ويمتلأ خطابه بالمشاعر الحماسية دون تقديم خطوات ملموسة لتحرير السود من القوانين العنصرية، فهذا الإصلاحي جاكي وربنسون يسخر من إكس قائلًا: “إنه أصبح مناضلًا في شوارع وحواري هارلم وقتما كان النضال غير خطر”.
وفي نفس السياق كان الإصلاحي جيمس فارمر يقول مهاجمًا مالكوم: “إنه ظاهرة صوتية ولا يفعل شيئًا”، أما كينج نفسه فقد قال عن إكس: “إن كلامه يجلب البؤس على السود”، وحتى بعد موت إكس استمر كينج في الهجوم عليه قائلًا: “لقد أدى دورًا كبيرًا بالإشارة إلى المشكلة وتسليط الضوء عليها، لكن للأسف كانت مشكلته الكبرى هي عدم قدرته على تقديم حل واضح”.
مرحلة التصالح: الأسود الجيد والأسود السيئ
بعد رحلة الحج التي غيرت كثيرًا من أفكار مالكوم إكس، ورحيله عن تنظيم أمة الإسلام عام 1964م، انفتحت الآفاق أمامه وصار أكثر مرونة في الجانب النضالي وابتعد عن بعض الآراء الراديكالية التي تنص على انفصال السود وتفوقهم العرقي على “الشياطين” البيض كما كان يسميهم، كما رضى أن يلعب دورًا على الهامش، وقبل بفكرة أن التيارين الإصلاحي والثوري تياران مكملان لبعضهما البعض وليسا متضادين.
آمن إكس بضرورة تكامل الأدوار بين التيار الإصلاحي والتيار الثوري، ورضي بأن يلعب دور كبش الفداء لحركة الحقوق المدنية، حيث طالب الحكومة الأمريكية بالانفصال الكامل للسود عن البيض، وإلزام الحكومة بتوفير الأرض المستقلة والمقومات اللازمة لقيام ذلك الانفصال، وهو مطلب أصعب بكثير من مطلب التيار الإصلاحي الذي رفع شعار الاندماج مع البيض في نفس المجتمع.
تطورت استراتيجية مالكوم إذن من معاداة لوثر إلى التقارب معه، وهو ما وضحه في اللقاء الوحيد الذي جمعهما سويًا عندما شارك إكس في أحد مؤتمرات كينج الصحفية، وطلب منه الصحفيون التعليق على قانون الحقوق المدنية، فقال إكس: “إذا رفض الرجل الأبيض هذا القانون فإني موجود هنا لأذكره بالبديل للدكتور كينج”، وهو ما علق عليه كينج قائلًا: “إذا لم يُسنّ القانون فإن أمتنا ستدخل في ليل مظلم من الاضطراب الاجتماعي”.
وقد تأكدت تلك الاستراتيجية عند إكس في حديثة لزوجة كينج قائلًا بأنه يحاول أن يساعد كينج بتقديم بديل يُسهّل على البيض قبول عرض كينج، وقد قال في خطابه في ذلك اليوم: “أنا لا أدافع عن العنف، ولكن إذا داس الرجل الأبيض على أصابع قدمي فسوف أدوس على أصابع قدمه، يجب أن يعدّ البيض أنفسهم محظوظين لكون مارتن لوثر كينج هو الذي يجمع السود حوله، لأن هناك قوات أخرى تنتظر أن يفشل لتتولاهم”.
وفي موقف آخر يرويه أليكس هيلي، أن مالكوم إكس قال له: “قل لأخيك -الذي انتخب حديثًا عضوًا في مجلس الشيوخ بكونجرس الولاية- ألا ينسانا، قل له إن عليه وعلى أمثاله من السود المعتدلين الذين وصلوا أن يتذكروا دائمًا أننا نحن المتطرفين من مهدوا لهم الطريق”.
وهكذا قدم مالكوم إكس نفسه كبديل غير مرغوب للحكومة الأمريكية، يضغط عليها من خلال انتفاضته وثوريته من أجل تمرير مطالب المنظمات السلمية الإصلاحية لحركة الحقوق المدنية، ولو جاء ذلك على حساب شعبيته ومكاسبه الخاصة.
تعليقات علي هذا المقال