يعتبر مارشال هودجسون، على قلة شهرته، من أهم من كتب عن الإسلام وأوروبا والتاريخ العالمي في القرن المنصرم، فبشكل عام يتناول هودجسون في كتاباته ثلاث موضوعات أساسية:
أولا؛ موقع كل من أوروبا والحداثة في التاريخ العالمي، وينطلق هودجسون من ذلك لتحدي الخطابات السائدة حيال المركزية الغربية والتعددية الثقافية.
ثانيا؛ يسعى هودجسون لوضع الحضارة الإسلامية في سياق التاريخ العالمي الأوسع.
وثالثا؛ يدلل هودجسون على أنه ثمة تاريخ واحد هو التاريخ العالمي إذا لا يمكن فهم أي من السرديات التاريخية الجزئية إلا بوضعها في سياقها الأشمل وهو التاريخ العالمي.
المسلمون كجزء من التاريخ العالمي
وقد كتب هودجسون عدة كتب أهمها كتابه: “مغامرة الإسلام: الضمير والتاريخ في حضارة عالمية”[1]، والذي نُشرت طبعته العربية العام الماضي عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، إلى جانب كتابه الأكثر أهمية والأقل شهرة للأسف: “إعادة التفكير في التاريخ العالمي: مقالات عن أوروبا والإسلام والتاريخ العالمي”[2]، والذي لم يُترجم بعد.
يقول هودجسون: “إن المجال الخطابي الوحيد لكل البحث الإنساني ذي المعنى الذي يمكن أن يصمد أمام النقض والدحض هو في النهاية الإنسانية جمعاء”، ومن هنا سعى هودجسون لتلافي تحيزات المركزية الغربية والتحيز للواقع الراهن ومنعها من تشويه أساس البحث التاريخي، ولذلك قارن هودجسون بين تطور الحضارة الإسلامية في محطات محددة في تاريخها بتاريخ الحضارة الأوروبية الغربية لتجاوز طغيان فكرة الاستثناء الغربي الذي وسم غالب الكتابة الاستشراقية عن الإسلام، وقد أدى وعي هودجسون المنهجي وعدم رضاه عن المصطلحات الدارجة إلى نحته لمصطلحات جديدة مثل مصطلح “إسلاماتي” (Islamicate)، بل وجادل هودجسون في الفصل الثالث من كتابه “إعادة التفكير” والمعنون: “المنهج التاريخي في الدراسات الحضارية” بضرورة ابتكار مصطلحات جديدة، وبأهمية الوعي الذاتي في الدراسات التاريخية.
يستهل هودجسون الجزء الأول من الكتاب: “أوروبا في سياق عالمي” بفصل عنوانه: “العلاقات البينية للمجتمعات عبر التاريخ” حيث يتناول المسارات التاريخية التي ارتبطت فيها مصائر المجتمعات الإنسانية معا.
وفي الفصل الثاني والذي جاء بعنوان “في منتصف الخريطة: الأمم ترى نفسها مركز التاريخ” يتناول هودجسون كيف ينعكس الوعي الذاتي للأمم على مخيلها الجغرافي.
وفي الفصل الثالث: “التاريخ العالمي ومقاربة عالمية” يتساءل هودجسون حيال اعتبار التاريخ الأوروبي هو التاريخ العالمي بأسره.
وفي الفصل الرابع: “التحول المتراكب الغربي العظيم” يتناول هودجسون مشكلة الحداثة وكيف يمكن وضعها في سياق تاريخي، وهل باعتبارها عملية عالمية تجذرت في أوروبا أم باعتبارها تمظهرا أوروبيا؟
وفي الفصل الخامس: “المنهج التاريخي في الدراسات الحضارية” يتعرض هودجسون للأخطاء والأخطار التي يمكن أن يتعرض لها الباحث في التاريخ العالمي إذا لم ينتبه ويفكر جيدا في بعض القضايا المعرفية والمفاهيمية.
أما في الفصل السادس فيقدم هودجسون خارطة طريق مختصرة للنقاط الأساسية في منهجه، والتي تتعلق بتناوله للتاريخ العالمي.
يضم الجزء الثاني من الكتاب: “الإسلام في سياق عالمي” أربعة فصول، وفي الفصل السابع “دور الإسلام في التاريخ العالمي” يقدم هودجسون مقاربة عامة ومذهلة لتاريخ الحضارة الإسلامية.
وفي الفصل الثامن: “النمذجة الثقافية في عالم الإسلام والغرب” يواصل هودجسون مقارنته المهمة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية.
أما في الفصل التاسع: “وحدة التاريخ الإسلامي المتأخر” يجادل هودجسون بوجود وحدة أساسية للتاريخ الإسلامي في حقبة ما بعد المغول على خلاف التقاليد العلمية المتجذرة.
وفي الفصل العاشر: “الحداثة والميراث الإسلامي” يعلق هودجسون متأملًا وضع المسلمين في العالم المعاصر.
ويختم هودجسون الكتاب بجزء ثالث عن “التاريخ العالمي كمجال معرفي” يضم ثلاثة فصول.
في الفصل الحادي عشر: “موضوعية البحث التاريخي الممتد: حدوده ومتطلباته الخاصة”، والفصل الثاني عشر: “شروط المقارنة التاريخية بين العصور والأقاليم: حدود صحتها”، والفصل الثالث عشر: “الدراسات البين-إقليمية كضم للحقول المعرفية التاريخية: المترتبات العملية للتوجه البين-إقليمي بالنسبة للباحثين والعامة”، يناقش هدجسون مسألة الموضوعية في البحث التاريخي ويقدم تأملاته حيال المقارنة التاريخية، كما يجادل هودجسون بأن التاريخ العالمي هو المجال المعرفي الرئيسي (the master discipline) الذي وحده ما يضفي المعنى على البحث التاريخي على مستويات أقل عمومية.
لقد لعب الاستشراق كمجال معرفي دورا أساسيا في مد الهيمنة الغربية على الشرق الأوسط وعلى غير الغربيين عموما، وقام الاستشراق على فكرة التفوق الأخلاقي والثقافي للحضارة الغربية على العالم بأسره، وعلى هذا الأساس فإن تاريخ الغرب هو قصة الحرية والعقلانية، بينما تاريخ الشرق هو قصة الاستبداد والجمود الثقافي.
لقد كان التاريخ الإسلامي بالنسبة لهودجسون نقطة استراتيجية لتوجيه نقد عميق للخطاب الاستشراقي، حيث جادل هودجسون بأن كلا من الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية أخوات، حيث تمتد جذورهما معا في نفس القيم الثقافية والدينية الأساسية الإيرانو-سامية التي تقاطعت مع الميراث الغامض للتوسع الصيني غرب آسيا.
الإسلام والغرب: اختلاف أم تشابه؟
كان الإسلام هو “الآخر” الأكثر غنى على نحو هائل والأكثر نجاحا الذي عرف الغرب نفسه في مقابله، ومن ثم عند النظر إلى تاريخ عالم الإسلام والغرب من المنظور التاريخي، فإن كليهما يصنعان دراسة خلابة عن نشأة مجتمعين مختلفين على نحو مميز، ولكن في ذات الوقت متشابهين، فكلاهما يضمان خلطة خاصة من التقاليد الهيلينستية، والتوحيد النبوي في غرب آسيا، والامبراطوريات البيروقراطية المعتمدة على الزراعة، ولذلك فإن تاريخ الحضارة الإسلامية تقريبا بالضرورة يدعو لإعادة دراسة التاريخ الأوروبي على نحو يضع تطورها في سياق تاريخي، وفي إطار هذه العلمية ينزع حالة الاستثناء عن الغرب.
كيف يضع هودجسون الحضارة الغربية والإسلامية مفاهيميا في سياق التاريخ العالمي؟ جادل هودجسون بأنه من منظور تاريخي عالمي فإن تاريخ الحضارة هو بالضرورة تاريخ متمركز حول آسيا. فمثلا مجموعة المجتمعات المدينية التي امتدت عبر أفرو-أوراسيا هي آسيوية في غالبها، كما أن أربعة من الحضارة الخمس الأساسية آسيوية.
ولذلك بالنسبة لهودجسون فإن المنظور الذي ينطلق من العلاقات بين-إقليمية هو أكثر صحة ومنطقية من الاقترابات التي تضع الغرب في مركز التاريخ، فضلا عن ذلك، لاحظ هودجسون أن أوروبا الغربية لم تصل للمستوى الثقافي الذي وصلت له حضارات أفرو-أوراسيا الأخرى إلا بعد العام ١٥٠٠ تقريبا.
تساءل هودجسون كذلك عن صحة صورنا المادية عن التاريخ وليس فقط تصوراتنا العقلية، وتناول بالنقد منظور مركاتور السائد في عالم اليوم في رسم الخرائط، يضع منظور مركاتور الغرب في منتصف الخريطة، ومن ثم فإنه يشوه على نحو منظم صورة الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية، على سبيل المثال؛ على الرغم من أن أوروربا تساوي في المساحة تقريبا الهند وجنوب شرق آسيا، فإن أوروبا تدعى قارة، بينما تدعى الهند شبه قارة، أما جنوب شرق آسيا فلا شيء من ذلك.
أحد أهم إسهامات هودجسون هو إعادة تقييمه للتاريخ الحديث وموقع أوروبا فيه، وذلك في الفصل الرابع: “التحول المتراكب الغربي العظيم”، كان هذا التحول عملية تغيير معقدة ذات أبعاد عالمية أدت، ابتداء من القرن الثامن عشر إلى تحويل الغرب أولا ثم بقية الأقاليم.
تجاوز هودجسون المركزية الغربية لنظرية التحديث السائدة، حيث كانت الحداثة التي يخلط المؤرخون بينها وبين التغريب، بالنسبة لهودجسون عملية عالمية، وعلى الرغم من أن الغرب تصادف أنه كان أول مجتمع يتجاوز محددات الحضارة الزراعية، يصر هودجسون على أن هذا التطور لابد أن يوضع في إطار تاريخي عالمي، وبالنظر إلى التكافؤ العام بين المجتمعات المدينية في أفرو-أوراسيا وإلى نزوع الابتكارات الثقافية للتراكم، ويجادل هودجسون بأنه كان من الحتمي أن تحدث قطيعة راديكالية مع الشروط الزراعية في مكان ما على الكوكب عاجلا أو آجلا، وإن لم يحدث هذا في الغرب فإنه غالبا كان سيحدث إما في الصين أو العالم الإسلامي.
يرى هودجسون الحداثة باعتبارها عملية عالمية منذ البداية، وفي حين أن الغرب كان في مركز هذه التغيرات، فإن وقوعها في مكان ما كان سيحول على نحو جذري شروط التقدم في كل مكان.
وفي إطار إعادة تقييمه للحداثة يصر هودجسون على أنه في الزمن التاريخي فإن انقطاعات التاريخ الغربي وليس استمراريته هي الأكثر إثارة للنظر، ويلاحظ هدجسون بأن المنحنى الصاعد من اليونان القديم إلى عصر النهضة ثم الأزمنة الحديثة مجرد خدعة بصرية، وفي واقع الأمر كانت أوروبا في معظم تاريخها مجرد جزء خارجي غير مهم لآسيا.
فضلا عن ذلك؛ فإن عصر النهضة لم يكن تدشينا للحداثة، بل كان دوره أنه رفع أوروبا للمستوى الثقافي السائد في الحضارات الرئيسية الأخرى، وقد قام عصر النهضة بهذا الدور على نحو ما من خلال استيعاب التطورات الموجودة في الحضارات الآسيوية الأخرى.
إن قائمة المخترعات التي تطورت خارج أوروبا قبل أن يتم توطينها فيها تطول، وهي تضم الأسلحة النارية، والبوصلة، والدفة، والعلامة العشرية، والجامعة، وأخريات كثيرة.
في ضوء هذا كله؛ تبدوا التجربة الأوروبية أقل أصالة، ولا يعني هذا نفي وجود تطورات أوروبية أصيلة، ولكن في سياق ثلاث ألفيات من الحياة المدينية الزراعية في منطقة أفرو-أوراسيا كانت هناك نزعة لتحقيق تكافؤ بين المراكز الحضارية، ومن ثم كانت الاختراعات والابتكارات تنتقل من مكان لآخر.
المصادر
[1]. Hodgson, Marshall GS. The Venture of Islam. University of Chicago press, 1974.
[2]. Hodgson, Marshall GS. Rethinking world history: essays on Europe, Islam and world history. Cambridge University Press, 1993.
تعليقات علي هذا المقال