في عام 2014، نشر وزير الخارجية الأمريكي ومستشار الأمن القومي السابق هنري كيسنجر كتابا بعنوان “النظام العالمي: تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ”، تطرق خلاله لكيفية تشكل النظام العالمي المعاصر، وفي ثنايا الكتاب قال كيسنجر: “ألف سيد قطب خلال وجوده في السجن كتاب معالم في الطريق، وهو إعلان حرب على النظام العالمي القائم، ما لبث أن غدا نصا تأسيسيا للحركة الإسلامية المعاصرة”[1]، فيما يستضيف الإعلام العربي وبالأخص المصري ندوات ينتقد خلالها شيوخ ودعاة ومفكرون وساسة أفكار سيد قطب، ولا تخلو ملفات القضايا السياسية عادة من تحريز كتب لسيد قطب باعتبارها دليل إدانة ضد من يُعثر عليها عنده، وذلك رغم رحيل قطب عن عالمنا قبل أكثر من نصف قرن، وبالتحديد في عام 1966 إثر إعدامه مع اثنين من رفاقه، وهو ما يشير إلى أن قطب لازال يؤرق خصومه ويلهم المتأثرين بفكره، ويثير حالة من الجدل والنقاش ربما لم يحظ بها كاتب إسلامي آخر منذ منتصف القرن العشرين حتى الوقت الحالي.
السيرة الذاتية: بين الأدب والسياسة
وُلد سيد قطب[2] عام 1906 بقرية موشا في محافظة أسيوط بصعيد مصر في ذات العام الذي وُلد فيه حسن البنا لكنهما لم يلتقيا خلال حياتهما، وعاش قطب نحو 14 سنة في القرية التي كان أبوه أحد وجهائها، وتأثر باعتناق والده لأفكار الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل، وقد جعل والده من منزله مقرا لاطلاع أهل القرية على جريدة اللواء التي يصدرها الحزب، ومن ثم انخرط والده في ثورة 1919 التي امتدت أحداثها إلى أسيوط، وبذلك نشأ قطب في بيئة مسيسة تهتم بالشأن العام وتطوراته وتسعى للانخراط فيه.
ومع تراجع الاضطرابات التي رافقت ثورة 1919 انتقل سيد في عام 1920 إلى القاهرة بعد عامين من توقف دراسته ليقيم عند خاله بهدف استكمال مراحل تعليمه، وانضم قطب حينها إلى حزب الوفد الذي جسد آنذاك أماني المصريين في التحرر من الاحتلال البريطاني.
تخرج قطب من كلية دار العلوم في عام 1933، وعمل مدرسا في وزارة المعارف، وفي القاهرة أتيحت أمامه فرص للاحتكاك بشكل أكبر بالشأن العام، والتداخل مع كبار الأدباء وبالأخص عباس العقاد الذي أصبح قطب من خواص تلاميذه، ومن ثم نشر قطب بداية من عام 1934 مقالات وبحوثا نقدية وأدبية في أبرز الصحف والمجلات الصادرة في ذلك الوقت مثل البلاغ والرسالة والأهرام والمصور وروز اليوسف، وخاض معارك أدبية طاحنة من أبرزها معركته دفاعا عن مدرسة أستاذه العقاد في مواجهة مدرسة مصطفى صادق الرافعي.
ثم جاء حادث 4 فبراير 1942 الذي أجبر الإنجليز خلاله الملك فاروق على تعيين حكومة جديدة برئاسة الزعيم الوفدي مصطفى النحاس، ليمثل نقلة جديدة في حياة قطب، فاستقال من حزب الوفد اعتراضا على توليه السلطة تحت حراب الإنجليز رغم نشأته كحزب يطالب بالاستقلال، ولم يجد قطب في الساحة العامة حزبا يعبر عن خياراته السياسية فاعتزل العمل الحزبي ما يزيد عن عشر سنوات، وأقبل على دراسة القرآن من زاوية أدبية ثم نشر كتابه “التصوير الفني في القرآن” عام 1945، وبدأ يتجه نحو الفكر الإسلامي ويبتعد عن العقاد ومدرسته، ثم سافر لأمريكا في عام 1948 في بعثة استمرت عامين أوفدته خلالها وزارة المعارف للتخصص في التربية وأصول المناهج، وتأثر قطب خلال وجوده في أميركا بأمرين أولهما حديث المستشرق البريطاني “هيوارث دن” معه عن خطورة جماعة الإخوان المسلمين على مصالح الغرب ودعوته له للتصدي لأفكارها، وثانيهما فرح بعض الأمريكيين بخبر مقتل حسن البنا في عام 1949، فبدأ قطب يقترب تدريجيا من جماعة الإخوان باعتبارها تمثل إزعاجا للغرب، وقد نشر كتابه الأول في الفكر الإسلامي عام 1949 بعنوان “العدالة الاجتماعية في الإسلام”.
وفي ظل كتاباته النقدية للأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العهد الملكي، اقترب قطب من تنظيم الضباط الأحرار، وعينه عبدالناصر عقب الإطاحة بالملك كمستشار لمجلس قيادة الثورة وخصص له مكتبا في مقر المجلس، كما شغل قطب منصب السكرتير العام لهيئة التحرير التي سعت لإقامة ظهير شعبي للنظام الجديد، لكن سرعان ما اختلف قطب مع توجهات نظام يوليو التي وجد أنها تبتعد عن الإطار الإسلامي، واستقال من مناصبه في فبراير 1953، ثم انضم إلى الإخوان المسلمين في ذات العام ليعمل ضمن قسم نشر الدعوة، ويشرف على مجلة “الإخوان المسلمين” التي أصدرتها الجماعة بالإضافة لبعض الأنشطة الثقافية، ثم طالته اعتقالات 1954 حيث حُكم عليه بالسجن 15 عاما، لكنه خرج بعفو صحي إثر وساطة الرئيس العراقي عبدالسلام عارف، ثم قاد قطب تنظيما جديدا عقب خروجه من السجن حيث حاول إعادة إحياء جماعة الإخوان لكن اكتُشف التنظيم في 1965، وأُعدم قطب في عام 1966 بتهمة السعي لقلب نظام الحكم، وترك خلفه نحو 29 كتابا في الفكر الإسلامي والأدب والنقد فضلا عن مئات المقالات.
تأثر قطب أولا بأجواء تربيته المنزلية، وبالأخص شخصية والدته التي زرعت في نفسه شعورا بالتفرد والاستعلاء، كما علمه والداه حب الدين والقراءة ومساعدة المحتاجين والجدية، وهو ما انعكس على إتمام سيد لحفظ القرآن في العاشرة من عمره.
خلال الفترة من 1920 إلى 1945 امتد اطلاع قطب وثقافته من دراسة الأدب والنقد وصولا إلى الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم مقارنة الأديان، والأحياء، فضلا عن النظريات العلمية المعاصرة مثل “النسبية” لاينشتاين والتحليل الذري ومباحث الضوء، وهو ما انعكس لاحقا على نقاشاته لأطروحات العديد من المنظرين والفلاسفة الغربيين مثل جون هكسلي وبرتراند راسل.
وقد ساهم توجه قطب لدراسة القرآن لأغراض أدبية بعد اطلاعه على الثقافة الغربية في شعوره بخواء الغرب في تقديم إجابات عن الأسئلة الجوهرية المتعلقة بالإنسان والكون والحياة، والتعلق بالثقافة المادية مع غياب الجانب الروحي، ومن ثم تعلق قطب أكثر بالقرآن، وأخذ يدرسه بهدف تكوين تصورات متماسكة عن الهدف من الخلق، ودور الإنسان في الحياة، والمنهج الذي يكفل للبشرية السعادة ويمزج بين الروح والمادة. وفي النهاية اعتبر قطب أن الإسلام هو المنهج الذي يحقق كرامة الإنسان ويحقق له التحرر المطلق في حدود إنسانيته وعبوديته لله.
نحو ثورة إسلامية
انشغل قطب في الثلث الأخير من عمره بدراسة كيفية بعث الأمة المسلمة من جديد كي تؤدي دورها في استنقاذ البشرية من المعاناة التي تعيش فيها، وتبنى قطب منهجا لاستنباط الفكر الإسلامي يقوم على الاستلهام من الكتاب والسنة، والاسترشاد بتعامل جيل الصحابة مع الوحي، ودعا لنبذ دراسة العقيدة وفق النموذج الكلامي الذي يحول الدين لقضايا جدلية باردة ويستند إلى المنطق الإغريقي.
وشدد قطب على ضرورة التعامل مع الوحي بروح التلقي للعمل، والاكتفاء به كمصدر للتلقي مع نبذ مناهج الفكر الغربي التي سيطرت على عقول العديد من المفكرين المسلمين حتى كتب بعضهم عن اشتراكية الإسلام، وديموقراطية الإسلام تأثرا منهم بالأفكار السائدة في زمنهم، واعتبر قطب أن الإسلام نموذج رباني فريد له أصوله التي تختلف عن المناهج البشرية التي ربما تتقاطع معه في أجزاء هنا أو هناك.
وبخصوص كيفية تطبيق المنهج الإسلامي، قال قطب إن الدين لا يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية غامضة إنما يعمل من خلال أن (تحمله جماعة من البشر، تؤمن به إيمانًا كاملًا، وتستقيم عليه بقدر طاقتها وتجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم كذلك، وتجاهد لهذه الغاية بكل ما تملك .. تجاهد الضعف البشري والهوى البشري في داخل النفوس، وتجاهد الذين يدفعهم الضعف والهوى للوقوف في وجه الهدى… وتبلغ – بعد ذلك كله – من تحقيق هذا المنهج، إلى الحد الذي تطيقه فطرة البشر، والذي يهيئه لهم واقعهم المادي)[3].
ووفق تقييم قطب للواقع الذي عاش فيه منتصف القرن العشرين، فقد توقع الانهيار الوشيك للاتحاد السوفيتي لشدة مخالفته لنواميس الفطرة البشرية رغم أن الاتحاد السوفيتي برز آنذاك كقوة متضخمة في نظر خصومه قبل أتباعه، فيما حذر قطب من أن انفراد الغرب وبالأخص أمريكا بالهيمنة سيجعل العالم يعيش في ويلات قوة لا تحترم سوى المادة، وتعمل لمصالحها دون النظر لمصالح بقية البشر، وهو ما تحقق لاحقا بعد رحيله بربع قرن.
امتداد تأثير قطب
تأسست الجماعات الإسلامية في مطلع القرن العشرين بعد انهيار الدولة العثمانية في عام 1924، وعمل حسن البنا بعد تأسيسه لجماعة الإخوان على نشر فكرته مع التركيز على العمل العام وضم أكبر قدر ممكن من الطاقات والأعضاء، ووجه البنا سهامه بشكل رئيس نحو الاحتلال البريطاني وظاهرة الاستعمار، لكن لم يطل به العمر لوضع إطار فكري يرسم مساحات التقاطع والتلاقي مع الأنظمة السلطوية والمكونات الأخرى في العالم الإسلامي التي ترفض التحاكم إلى الدين في أمور البشر الحياتية، ولا تعتبره مصدرا لتلقي التصورات والتشريعات والقوانين، وهنا جاء سيد قطب ليضع إطارا يرسم الحدود بين من يتبنون الإسلام كمنهج وشريعة وعقيدة وبين غيرهم، ورفض قطب الالتقاء في منتصف الطريق مع المناهج الأخرى، وركزت أفكاره الثورية على المفاصلة المنهجية والعقدية مع الآخرين وليس على مساحات التقاطع والتشابه، وهو ما أكد عليه في العديد من كتبه مثل “معالم في الطريق” “وهذا الدين”، و”خصائص التصور الإسلامي ومقوماته” كما استفاض فيه في كتابه الأضخم “في ظلال القرآن”.
وضوح أفكار قطب وبساطتها وقوتها نبعت من أسلوبه الأدبي الراقي، وارتباطها بآيات الوحي، فقطب لم يطرح أفكاره بشكل مجرد ثم يستدل لها لاحقا بالآيات والأحاديث، إنما جعل آيات القرآن هي المركز الذي تنبع منها أفكاره مع استدلاله بالتفسيرات الواردة عن الصحابة في كتب تفسير معتمدة مثل الطبري وابن كثير.
وجاء رفض قطب التراجع عن أفكاره مقابل العفو عنه ثم إعدامه ليرسم له صورة بطولية أبرزته كمفكر ثوري متمسك بمبادئه يمزج بين التنظير والحركة العملية، وتحول قطب إلى أيقونة للقوى الإسلامية الراغبة في التغيير في أنحاء العالم، كما أصبح مجرد الاطلاع على كتبه تهمة في جل الدول التي يتواجد بها مسلمون وتحكمها أنظمة استبدادية.
المصادر
[1]– هنري كيسنجر، النظام العالمي: تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ، دار الكتاب العربي، 2015، باختصار يسير.
[2] التفاصيل الخاصة بسيرة حياة سيد قطب اعتمدت فيها على ما أورده د. صلاح عبدالفتاح الخالدي في كتابه (سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد) ط5. دار القلم، سوريا، 2010.
[3] – سيد قطب، هذا الدين، دار الشروق، ط. 15، ص5.
تعليقات علي هذا المقال