بدا أن طوفان الأقصى انطوى على ما هو أعمق من فكرة الحرب، أقلّه أن التاريخ لم ينته بعد، فالطوفان أثبت “الإمكان” وقدم لنا تجليات عصر جديد: إمكاناته، وفرصه، وتطور رهاناته.
كما أنه أسدل الستار عن بارادايم قديم (نموذج فكري عن التغيير)؛ اختزل التغيير في السلطة والصدام، ويبدو أن القديم استنفد نفسه ومقدراته وموارده، وها نحن نتقدم تجاه عصر الشعوب والشبكات، لا عصر الأنظمة والدول! عصر الشبكات والفواعل الجديدة في التغيير؛ لذا لن يكون من الباب المبالغة قولنا إن العائق الأصيل في عملية التغيير هو “طريقة تفكيرنا” وهذه بديهة لن أعود عنها.
تبقى المقدمة فقيرة المعنى إذا لم تحدد أساس انطلاقها، وهي مقولة للفيلسوف كارل ماركس في أطروحاته عن فوبرياخ “اقتصرت الفلسفة على تفسير العالم بطرق مختلفة.. لكن المهمة هي تغييره”. نعم موقفنا الآن من الثقافة والعلوم والآداب أننا لسنا -أو بمعنى أدق حري بنا ألا نكون- مشاهدين أو مستهلكين، وكل هذه أدوات تغيير لا انعزال.
حول سؤال: ما العمل؟ وضمن هذا العصر الجديد الذي يشهد فرصا جديدة، وإلى المهتمين بالتغيير، وإلى الآملين فيه والحالمين به، إلى من يبحث له عن دور يتجاوز عدد المشاهدات ومسارح الجماهير، إلى هؤلاء أتوجه.
مجتمعات تضامنية
“ليست الدولة شيئا يمكن تدميره بالثورة، بل هي حالة علاقة معينة، كائنات بشرية، نمط سلوك إنساني، ونحن ندمرها بنسج علاقات أخرى، بالتصرف على نحو مغاير” جوستاف لانداور
تركزت الجهود في المرحلة السابقة على تحشيد الجهود الإعلامية والبشرية للإطاحة بالسلطة؛ فحدث انسداد سياسي جرى تحييد المجتمع فيه تحييدا كاملا، ودون الخوض في تفاصيل أو تعقيدات تفسيرية؛ تكمن الخطوة الأولى نحو التغيير في استعادة المجتمع المدني وتأسيس روافع اجتماعية تسمح بديناميكيات جديدة لحيويته، وفي مثل هذه الأوقات يصبح العمل التطوعي هو ذروة العمل الثوري، فعلينا أن نضع البرامج التي تخلق بيئة العمل التطوعي؛ من قيم التضامن والتراحم والمبادرة وإسباغ المعنى التغييري عليه، وعلى ذلك يكون الاهتمام بأطفال الشوارع والأيتام والمرضى والفقراء عملا ثوريا؛ لأنه يصنع وجودا جديدا في وجود سلطة ليس لديها التزامات تجاه من تحكمه.
إن إمكان حدوث تغييرات مفاجئة يبدو أكثر احتمالا من ذي قبل، خصوصا أن دول المنطقة هشة ونظريتها الأمنية تقوم على الوجود الأمني والصور الذهنية لا تضامن المجتمع، لذا يجب أن ينصرف التركيز على ثقافة فض المنازعات ومجالس الصلح، وتخفيف آثار العنف المجتمعي الواقع عبر وجهاء أو رجال دين. وهنا لابد أن تعاد تدريجيا ريادة دور العبادة في حل مشكلاتنا الحياتية، وعلاج الآفات الأخلاقية، وينبغي أن توضع لها البرامج التأهيلية. يجب أن تحل المشكلة من الداخل، أي تقويض أسس الفوضى التي تعتمد عليها الأنظمة في التشنيع على التغيير.
وما يهم في تلك الخطوات أن تقام المبادرات في صورة واجب فردي؛ يسهل بعد ذلك أن تقام تشبيكات جماعية ومناطقية لكن دون أن تأخذ هذه الخطوات أية عناوين سياسية، ويكون الهدف هو خلق بيئة اجتماعية جديدة لها سمات تُخلق وتطور بنفسها ومتجذرة في الشارع، وتخلق بنفسها شروط استقلالها في الذاتي، فخيار الاستقلال عن التبعية ينبع من مجتمع مستقل تربى على ذلك.
كانت هناك لحظة تاريخية في طوفان الأقصى؛ تتعلق بالأطفال “عنوان المستقبل” لماذا تجاوبوا مع المقاطعة الاقتصادية ضد داعمي الكيان الصهيوني؟ إن المقاطعة دخلت في عمق الثقافة الشعبية لأجيال تقضي معظم أوقاتها أمام التقنية.
علينا أن نفهم هؤلاء الأطفال، أي نوع من الإنتاج الثقافي والنفسي سنقدمه لهم ليزيد من عقلانيتهم وتحررهم، لا بد وأن نعرض أنفسنا لهم في سياقات يتقبلونها.
المثقفون في عالم بلا ثقافة
لست في معرض الحديث عن ما ينقص المثقفين اليوم، بل أذكر ما الذي عليهم فعله؟ إن ما استغورته حرب طوفان الأقصى من إمكانات؛ تضعنا أمام الحاجة إلى فهم العالم ضمن مقولات سياسية واجتماعية جديدة، لكن بالأحرى ما الذي على المثقفين فعله إزاء مجتمع انعزل عنه نظامه إلى درجات غير مسبوقة؟ إن أوجاع المجتمع وتطلعاته وآلامه لا يجوز تعهيدها وإسنادها إلى سلطات ميؤوس من إنسانيتها عبر خطابات إعلامية معارضة؛ لأننا إزاء هياكل سلطة معزولة عن المجتمع، وبرلمانات تحولت إلى هيئات بصم، لذا لن نمتلك إلا أن نطرح فضاءً شبكيًا، نطرح فيه مشكلات المجتمع لا للنحيب بل لإنتاج الحلول التي تعزز من دور الفرد ودور الأسرة، ويسود في هذا الفضاء الشبكي الجديد ما يصطلح تسميته “ديموقراطية التداول”. وعند هذه النقطة يبدأ التحضير للتغيير الحقيقي، فالتفاعل في حد ذاته غاية، أي أن تتفاعل شرائح المجتمع وتتعلم كيف تطرح إشكالاتها وحلولها، ويحترم كلٌّ منها رأى الآخر، وذلك يؤسس إلى كيانات افتراضية أكثر شرعية من المسرح الرسمي.
لن تستطيع أي سلطة أن تمنع تدفق الأفكار والحلول من خارج الدول إلى داخلها عبر هذه الفضاءات والديموقراطيات الجديدة، وسنكون بصدد عقلانية جديدة تُخلق من رحم التضامن؛ متجاهلة السلطة وتتراكم معها الممارسة الديموقراطية عمليا، وتطور مفاهيم المجتمع السياسية. الآن نتحدث عن مجتمع بدأت تستنبت فيه قوى بنائية جديدة.
ليتنا نفطن الآن إلى مدى تسليع العملية التعليمية، وتدميرها، ووقوع الأسر تحت نير متطلباتها المادية، فنكوّن جيوشا من المتخصصين في كافة المجالات، وننشئ جامعات إلكترونية جديدة بمعايير دولية أو على الأقل دورات علمية مجانية، سواء كان ذلك بمجهود فردي أم جماعي، علينا أن ننتج حلولا، علينا أن نحوّل عواصمنا من عواصم استهلاك إلى عواصم ثقافية جديدة، ونسمح بتدفق الأفكار والعلوم والمعارف والوعي السليم إلى أجيال ترفض الامتثال ومحاولات التطويع الثقافي.
إن تكوين منابر لمناقشة القضايا العامة سوف يمكّن -في الأخير- هذه المنظومات الشبكية من الفوز بالمشروعية لتمثيلها المجتمع أكثر من النظام نفسه، وستسمح بميلاد نخب جديدة أكثر تأثيرا في الشارع.
المعارضة السياسية في المنفى
تعكس طبيعة الاختلافات الموجودة عند المعارضة في الخارج أزمة نخبة تعيش طواعية في الهامش ولم تدخل بعد إلى النص وإلى السياق، وأولى مراحل دخولها هو تطوير قيم فوق أيدلوجية؛ ولو بأجيال ووجوه جديدة.
فالعمل في شبكات لكونه شرط العصر لا يعني هدم التنظيمات الهرمية، كما أن توحيد مفاهيمنا واتفاقنا وتعاوننا على مبادئ فوق أيدلوجية لا يعني نسف الأيدولوجيات. فكثافة الأيدلوجيا لا تعني القدرة على تحريك الجبال، بل عدم رؤيتها وهي تتحرك.
لنبدأ إذًا بمؤتمرات وندوات وملتقيات من كافة الأطياف السياسية؛ لتحديد مضامين الفهم الذي نريده عن التغيير وعمقه، وعن المجتمعات وشروط إنضاجها، وعن خيارات التعامل مع السلطات، والقدرة على التكيف المرحلي ضمن هياكل فرص دائمة التغير، وعلى المعارضة أن توجِد قنوات للتواصل الفكري والسياسي مع الداخل؛ دون التورط في أي حراك اجتماعي لم تنضج شروطه بعد.
على المعارضة أن تترك المثالية في هذا العالم وتقرأه بواقعية تجعلنا نرى الأمور على حقيقتها، فمؤتمر دافوس قد يكون أهم من منظمات الأمم المتحدة، وقراءة العالم بوصفه وحدة واحدة تجعلنا نحصر الفواعل من غير الدول، ونقرأ العالم في مناطق ارتكازه الحضارية والثقافية والسياسية. كيف يكون لنا حضور فيها؟ هل نستطيع مستقبلا أن نكون ضمن آلة اتخاذ القرار العالمي؟ أو على الأقل أن نمارس تأثيرا عليه، يعتمد ذلك على قوة الأفكار.
فواعل جدد.. ظاهرة اليوتيوبرز
ربما يكونون حاليا أكثر تأثيرا من الإعلام الرسمي والمعارض، فهؤلاء الناس يحتكون بما هو يومي ومُعاش وواقعي في حياة الناس. ويجب الاستمرار في تعميق هذه الظاهرة باعتبارها تصنع رموزا مجتمعية خارج حدود السلطة وقدرتها على الضبط.
قدرتنا الآن على صنع الظاهرة أو التواصل معها يعني الدخول في صلب الثقافة الشعبية؛ ومن ثم خلق أنماط سلوك جديدة، وهي شبكية لا تكتفي بتكوين الذوق أو تنوير المشاهدين، بل تضع أنماطا للسلوك يعني الدخول قدما في عملية التغيير.
تحكي لنا ملابسات “مقاومة إسناد الإعلامية” أنها في غضون أسابيع وصلت إلى آلاف المشاركين، الذين من المفترض أنهم غادروا مقاعد المشاهدين في الحرب إلى خانة الفعل. قرروا أن يكونوا جزءا من المعادلة.
ما فعلته “مقاومة إسناد” لا يتعدى أنها وضعت الحقائق تحت الشمس، كما تحدثت وسائل إعلام عبرية (أنها أكلت رؤوس الإسرائيليين)، وعلينا الآن أن نحولها من مقاومة إسناد إلى قضية، وإلى ما هو أكثر استدامة.
خيار المقاطعة ليس أمرا هينا، فهو يضرب الاقتصاد العالمي في صلبه، ومفاهيم الاقتصاد تنبني على المنفعة، بينما نرى مع خيار المقاطعة أن الاقتصاد ينبغي أن يقوم على القيم، فما يعنينا ليس جودة المنتج، بل مواقف المنتج الأخلاقية هي التي تعنينا بالأساس.
يكمن دور “اليوتوبررز” في دوام تسليط الضوء على كل ما هو إنساني في المجتمعات لدعمه وترميزه، وإسباغ المعنى والقيمة عليه، وتحديد أنماط السلوك، أي خلق الموضة في عالم يربو إلى القيم.
نحو أممية جديدة
مع طوفان الأقصى تجلت قوة حضور جديدة عالميا، تجسدت في طلاب جامعات غربية وناشطين من كافة الأديان والتوجهات والمشارب، كانت لديهم قوة تحريك داخلية عجزت آلة القمع عن إيقاف حراكها، وذلك يمثل حضورا جديدا للضمير العالمي.
إن واجبنا أمام هذا الحراك الجديد لا أن نمتدحه بالأغاني والخطب، بل نتواصل معه. يجب على الجاليات العربية في الغرب أن تتعرف إلى هؤلاء؛ تمهيدا لتواصل دائم معهم؛ قائم على التخندق في مربع حماية المستضعفين. إن هذه الظاهرة تمثل أولئك “الذينَ يأمُرون بالقسْطِ منَ النَّاس” تتمثل في قوة أخلاقية تحتاج إلى مأسسة وتواصل، فنحن في عصر ينتقل فيه الناشطون للاحتجاج من دولة إلى أخرى، وقد يكون هذا التواصل بمثابة تواصل مع قادة الغرب في المستقبل البعيد، فهؤلاء طلاب جامعات عريقة في تشكيل النخب العالمية، تَفاءلْ بأن من تتواصل معه الآن قد يصبح رئيسا!
ينصح كارن روس في كتابة ثورات بلا قيادات: “وبجملة تلك الأفعال والتحركات يمكن لأفق جديد أن ينفتح لإمكان مسعى إنساني أكثر إثارة وإلهاما مما يقدمه أسلوب التفكير الراهن.. لا يجوز تمكين ساستنا المتخاصمين من تحديد قدرتنا على التعاون، نحن أكبر من ذلك بكثير، وهذه الإمكانية لا يمكن تحديدها بل تفعليها فقط”.
خاتمة
إننا لم نقدم بعد لطوفان الأقصى مثلما قدم هو لنا، لقد قدم لنا أنفسنا، وقدم لنا إمكاناتنا وفرصنا للنهوض وإنضاج التجارب؛ لذا كانت لحظة الانكسار هي نفسها لحظة التحول الجديد.
إن المنطقة العربية كلها ترتهن لتغييرات مفاجئة وجذرية، لكن ما يجعل التغيير ممكنا هو قوة المجتمع، وإذا حدث تغيير؛ فإن ما يحميه هو نضج المجتمع لتحمل شروط هذا التغيير.
هكذا حاولنا في المقال تجاوز تحديات استبداد الدول بتجاهلها وصنع فرص جديدة للشعوب، وما حاولنا فعله هو تحديد ما العمل في ضوء إمكاناتنا المتاحة؛ ضمن ضرورات العصر التقني الجديد للتغلب على تحدياتنا، أو ليعاود التاريخ سقوطه.
“إذا كان الإنسانيّ في الإنسان لم يتفتت بعد؛ فإن الشر لا يستطيع انتزاع النصر” فاسيليا جرو كان في رواية الحياة والقدر
تعليقات علي هذا المقال