فاجأت ثورة 25 يناير في مصر الكثيرين بسبب الاعتقاد السائد بأن المؤسسة العسكرية طغت على المسار السياسي منذ نشأة الجمهورية، في كتابه، جنود وجواسيس وحكّام: طريق مصر إلى الثورة، يفند حازم قنديل هذا الانطباع من خلال قراءة مختلفة تدمج السلسلة الكاملة من حلقات التاريخ السياسي في الفترة ما بين 1952 و2012، في سرد تحليلي واحد ونموذج نظري متميز.[1]
بعد ثلاثين عامًا من القمع في عهد مبارك، ما الذي دفع الشعب المصري للثورة في عام 2011، وكيف تمكن من الإطاحة بديكتاتور يحكم بقبضة من حديد في غضون أسبوعين؟ الإجابة السائدة في العلوم السياسية للشطر الأول من السؤال هي، أن الثورة ظاهرة طارئة لا يمكن التنبؤ بها، بينما يكمن الاختلاف في تحليل العوامل التي جعلت من قابلية نجاح الثورة أمرًا ممكنًا.[2]
لعل أبرز تلك التفسيرات هو سلوك “الجهاز القمعي” (الجيش والمؤسسة الأمنية) في مواجهة المتظاهرين، في الحالة المصرية والتونسية والجزائرية، فإن الجيش تردد في إطلاق النار وتخلى عن دعمه للرئيس لكونه أكثر انضباطًا وأقل اعتمادًا نسبيًا على بقاء رأس الهرم في السلطة.[3]
بشكل مماثل، يؤكد قنديل على ضرورة معاملة الجيش باعتباره متغيرًا لا ثابتًا: قلة من المراقبين “أخذوا الجيش على محمل الجد كمؤسسة ذات مصالح مميزة، ووصفوه بدلًا من ذلك على أنه مكمل للنظام.”[4]، أي أن الجهاز القمعي عمومًا لا يعمل لصالح النظام الحاكم بل يعمل معه ووفقًا لمصالحه لحكم الدولة.
ولكنه في الوقت ذاته يقدم تفسيرًا جديدًا لطبيعة الجهاز القمعي، بما في ذلك دوره في تحديد الشكل السياسي للدولة، وسلوكه في المنعطفات الاجتماعية والسياسة المصيرية، كالمظاهرات الحاشدة في ميدان التحرير.
بداية، يميز الكاتب بين مصالح المؤسستين العسكرية والأمنية كجناحين مستقلين للجهاز القمعي، وقد تتداخل مصالح الأجهزة السياسية والمؤسسة الأمنية والقوات المسلحة، أو ما يسميه الكاتب “ثالوث السلطة”، إلا أنها تختلف اختلافًا جوهريًا وتتنافس في الغالب فيما بينها على المزيد من النفوذ في الدولة.
يركز قنديل على تفاعلات هذه الأنظمة الثلاثة، بحجة أن المؤسسة العسكرية، على عكس المنظور السائد، أصبحت مستبعدة تاريخيًا من قبل كل من الجهازين السياسي والأمني، وباعتباره العضو الأقل حظّا في الكتلة الحاكمة، رأى الجيش في الثورة فرصة مثالية لإعادة تأكيد مصلحته، وليس تهديدًا لسلطته ومكانته.[5]
إعادة النظر في الحقبة الناصرية
يناقش الفصلان الأول والثاني أصول الصراع على السلطة بين الجيش والنخبة السياسية في عهد عبد الناصر (1956-1970)، حيث يرسم قنديل التاريخ المصري منذ انقلاب عام 1952 باعتباره مدفوعًا أساسًا بهذا الاقتتال المؤسسي بين القوات المسلحة وتحالف الجهازين السياسي والأمني، نرى في هذا السرد أن معظم العسكريين بعد عام 1952 كانوا من مؤيدي التحول الديموقراطي في البداية بما فيهم عبد الناصر، ولكن هذه التوجه كان في مواجهة الجهاز الأمني الذي وفر حياة مهنية واعدة لبعض الضباط الطموحين من خلال التشبث بزمام السلطة، لهذا السبب، فإن الجمهورية أمست “دكتاتورية بدون ديكتاتور”، أي أن عبد الناصر لم يكن الحاكم الفعلي، أو الوحيد، ما بين 1956 و1967، ولم يكن الأمر كذلك بيد عامر، بل بيد شركائهم الأمنيين، هنا يبرز دور التحالف ما بين عبد الحكيم عامر وشمس بدران وصلاح نصر في فرض حصار سياسي على أغلب مناورات عبد الناصر، الذي لم يكن يتخيل العسكر كشريك مستقبلي له في الحكم.[6]
يعطي قنديل الأولوية لفاعلية المؤسسات ككل بدلًا من الجهات الفردية، على الرغم من أن الفاعلين الفرديين رفيعي المستوى غالبًا ما يتخذون قرارات نيابة عن هذه المؤسسات، ولمواجهة عامر وسلطة الجيش، شكّل عبد الناصر الاتحاد الاشتراكي العربي في 1962، لربط الفئات الاجتماعية بالنظام الحالي من خلال الفوائد المادية، ولكن بما أن أغلب ترقيات الجيش كانت بيد عامر، وبما أن المؤسسة الأمنية كانت في يد شريكه نصر الذي نجح في التصدي لمحاولات عبد الناصر في اختراق جهازه الاستخباراتي، فإن رئيس الجمهورية وبالرغم من شعبيته لم يمتلك ناصية حكمه، وفشل في عام 1962 في تنحية عامر الذي ترأس “دولة الظل” في مصر، وبالتالي يلقي قنديل باللوم على التصعيد الذي أدى إلى حرب عام 1967 مع إسرائيل، على أنه دعاوى عامر لزيادة هيبة الجيش بعد أدائه السيئ في أزمة السويس عام 1956، وحرب اليمن في الستينيات، لذا لم يتمكن عبد الناصر من بسط نفوذه في الجيش إلا بعد وفاة ( انتحار) عامر، حيث غير في هيكلية الضباط، وأقصي عددًا منهم من تشكيلات الحكومة، ساهمت هذه التعديلات بزيادة احترافية المؤسسة العسكرية، ولكنها مهدت أيضًا لتحويل مصر، من خلال التغلغل المتزايد للمؤسسة الأمنية على حساب الجيش، إلى دولة بوليسية.[7]
التحول التاريخي في تركيبة النظام الحاكم
يحكي الفصلان الثالث والرابع قصة توسع قوات الأمن الموالية سياسيا، والتحوّل القسري للجيش من مؤسسة ذات توجه حربي إلى مؤسسة اقتصادية في عهد السادات (1970-1981)، حيث كان هذا التحوّل نتاجًا للتكتيكات غير المألوفة التي اتبعها السادات في حرب 1973، بعد تصفية خصومه السياسيين، وإعادة تشكيل الأجهزة الأمنية المتعددة تحت إدارة مركزية واحدة، ومضى السادات على خطى عبد الناصر الأخيرة في إبعاد الجيش عن السياسة، وتعزيز دور وزارة الداخلية على حسابه في الأدوار القمعية، من خلال تقصٍّ دقيق لمختلف الروايات والمذكرات العربية والأجنبية، كما يبين قنديل دور السادات في تحويل مسار حرب أكتوبر من نصر مؤكد إلى هزيمة “استراتيجية” بالتنسيق مع كيسنجر، حيث كان الهدف من منع الجيش من التقدم هو حرمانه من كسب أي أمجاد من انتصاره كيلا يغدو تهديدًا لتحالف الأجهزة السياسية والأمنية، كما يعزو قنديل اقتراب السادات من الولايات المتحدة بعد عام 1973 كخيار متعمد لمساعدة مصر على تقوية أجهزتها الأمنية على حساب جيشها، نفس التفسير ينطبق على سياسات السادات للتحرر الاقتصادي في ظل الانفتاح، حيث قدم السادات حوافز للنهوض الاقتصادي للرأسماليين السياسيين من الحزب الوطني الديمقراطي لضمان ولائهم للنظام، في الوقت نفسه دفع السادات الجيش إلى الانخراط في القطاع الصناعي بعيدًا عن دوره المعتاد، لكنه ومن خلال سياسات الانفتاح، دمر موطئ قدمه الاقتصادي تدريجيا وباعه إلى الطبقة الرأسمالية السياسية.[8]
هذه السياسات استمرت في عهد مبارك وزادت من تهميش دور الجيش، حيث انخفض الإنفاق العسكري من 33% من الناتج المحلي الإجمالي في السبعينيات إلى 2% فقط بحلول عام 2010.[9]
يتتبع الفصلان الأخيران تطور المعترك المؤسسي حتى ثورة يناير 2011، إلى جانب لقطة مقرّبة للتوترات الاجتماعية التي أحدثتها السياسات الاقتصادية للسادات ومبارك، خلافًا لمرحلة حكم عبد الناصر، فإن من تبعه من الرؤساء لم يواجهوا منافسة مؤسسية حادة لقراراتهم، لكنهم كانوا أكثر عرضة لضغوط الفاعلين الخارجيين إقليميًا ودوليا، الخطر الوحيد لمبارك كان تنامي شعبية رئيس الأركان (ولاحقًا وزير الدفاع) عبد الحليم أبو غزالة داخل الجيش وبين عامة الشعب، إلى أن تمكن مبارك من عزله في 1989، ومن خلال هذا المنظور، يمكن فهم رغبة المؤسسة العسكرية في التعاون مع الجماهير للإطاحة بمبارك، وبالنسبة لقنديل، كانت الثورة بمثابة جولة جديدة أعادت تشكيل مجال القوى في مصر، وتكمن المهمة الأساسية في فهم تبعات عدم عودة الجيش إلى ثكناته بعد الثورة، ويعزو الكتاب عدم قدرة الجيش على الاستفراد بالحكم لخوفه من الاضطرابات الاقتصادية في حال محاولته اقتلاع الجهاز السياسي الأمني، ولغياب الإرادة أو الخيال السياسي من سلك الضباط لتوفير خارطة سياسية جديدة.[10]
دلالات وهوامش نظرية
تمكن قنديل من خلال كتابه من توفير قراءة بديلة لسلوك الجيش وفهم أفضل لمصالحه، بحيث يسلط الضوء على التفاصيل التاريخية لطريق مصر إلى الثورة بأسلوب واضح يمكن لأي مهتم في التاريخ السياسي الحديث لمصر أن يستمتع بقراءته، وفي كتابه اللاحق، ثالوث السلطة: الجيش والأمن والسياسة في تغيير النظام، يبين قنديل المسارات المختلفة التي نبعت من الاقتتال المؤسسي في كل من إيران وتركيا[11]، ومع ذلك؛ فإن النموذج الذي يقدمه قنديل يعتمد في بعض الأحيان بشكل مفرط على الصراع المؤسسي باعتباره المحرك الرئيسي للسياسة في مصر.
في سرد الكتاب، تبدو مصر معزولة تمامًا عن الاتجاهات الإقليمية والأيديولوجية والاقتصادية الأكبر، كتأثيرات القومية العربية، السياسة الاقتصادية للخليج، أو المشاعر المؤيدة للقضية الفلسطينية، ففي مقدمته، يشرح الكاتب رؤيته النظرية بأن هذه التأثيرات يجب أن تمر من خلال إحدى مؤسسات الحكم الثلاث[12]، سواء في فهم قدرة النظام الاستبدادي في مصر على تخطي التحوّل الديموقراطي أو استمرارية المسار الثوري، فإن القوى الاقتصادية والإقليمية في النماذج التفسيرية الأخرى تحظى بمركزية أكبر.[13]
أخيرًا؛ وفي الإطار المؤسسي للكتاب، فإن الكتاب لا يولي الحراك الشعبي تاريخيا كانتفاضة الخبز (1977)، أو حركة كفاية (2004)، أو الجمعية الوطنية للتغيير (2010)، أو الإخوان المسلمين، أو المجتمع المدني، القدر الكافي من الاهتمام، وهو ما قد يحد من فهم طبيعة مصالح هذه المؤسسات بحد ذاته.
المصادر
[1] Hazem Kandil, Soldiers, Spies and Statesmen Egypt’s Road to Revolt (London: UK: Verso, 2012). كان قنديل يعمل على هذا الموضوع لمدة خمس سنوات (كطالب دكتوراه في علم الاجتماع السياسي في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس) عندما حدثت الثورة.
[2] Jason Brownlee, Tarek Masoud, and Andrew Reynolds, “Why the Modest Harvest?,” Journal of Democracy 24, no. 4 (2013): 29–44.
[3] Eva Bellin, “The Robustness of Authoritarianism in the Middle East: Exceptionalism in Comparative Perspective,” Comparative Politics 36, no. 2 (January 2004): 139; Eva Bellin, “Reconsidering the Robustness of Authoritarianism in the Middle East: Lessons from the Arab Spring,” Comparative Politics 44, no. 2 (January 1, 2012): 127–49.
[4] قنديل، جنود وجواسيس وحكام، ص 5.
[5] قنديل، ص 2–5.
[6] قنديل، ص 40–55.
[7] قنديل، ص 55–91.
[8] قنديل، ص 113–162.
[9] قنديل، ص 183.
[10] قنديل، ص 193–226.
[11] Hazem Kandil, The Power Triangle: Military, Security, and Politics in Regime Change (New York, NY: Oxford University Press, 2016).
[12] يشرح قنديل هذه الرؤية بشكل بسيط في هامش المقدمة، ولكنه يتوسع فيها بمقدمة كتابه اللاحق.
[13] Lisa Blaydes, Elections and Distributive Politics in Mubarak’s Egypt (Cambridge: New York: Cambridge Univ. Press, 2010); Jamie Allinson, “Counter-Revolution as International Phenomenon: The Case of Egypt,” Review of International Studies 45, no. 2 (April 2019): 320–44.
تعليقات علي هذا المقال