يهدف هذا الكتاب وفق محرره محمد جاد تتبع قصة الصعود للنخب النيوليبرالية المسيطرة على الاقتصاد المصري الحالي، وكيف ساهمت الدولة والفساد كمكون بنيوي في ذلك، وهل يخدم النموذج الرأسمالي التنمية، أو هل هو ناجح حتى في توليد الدخل؟، وغيرها من الأسئلة التي يمكن أن تكون بداية نشاط بحثي مستقبلي يعيد السياسة لمرافقة الاقتصاد، ويخرج بنا من نطاق حديث المحللين الذي يحتفي بالنمو الاقتصادي، بغض النظر عن أسبابه، ودوافعه، ومن المستفيد منه[1].
يحاول الكتاب رسم صورة مبدئية عن التطورات التي حدثت في الاقتصاد المصري خلال القرنين الأخيرين مع التركيز على الخمسين عامًا الأخيرة، وكيف رسخت الرأسمالية أقدامها، منطلقًا من الحاجة إلى إعادة طرح سؤال قديم متجدد حول «من يملك مصر» في الوقت الراهن؟
وتحديدًا يسعى الباحثون المشاركون في الكتاب إلى تتبع قصة تطور الرأسمالية المصرية منذ حقبة الانفتاح الاقتصادي، وينقسم الكتاب لمسرحية خيالية بعنوان المحاكمة، هي عبارة عن سجالات بين أهم المفكرين الاقتصاديين العالميين والمصريين حول تحديد المسؤول عن الفقر والتخلف الاقتصادي المصري خلال العقود الماضية، يتخللها تحديد للمفاهيم المستخدمة في الكتاب.
يتبع هذه المحاكمة فصل تمهيدي بعنوان ديناميكيات الرأسمالية في مصر، ثم ثلاثة أقسام وسبعة فصول، القسم الأول تحت عنوان «صناعة الرغبة» والذي يرصد تطور آلة الدعاية الرأسمالية وقدرتها على إعادة تشكيل رغبات المستهلكين للسكن والغذاء في مصر وقدرتها على تحقيق التراكم الرأسمالي من وراء ذلك.
والقسم الثاني تحت عنوان «جراحة زرع الوجه» والذي يرصد حلول القطاع الخاص محل الدولة في صناعات مثل السيارات والمنسوجات مع تعميق التخلف وكذلك قطاع الاتصالات الذي تحقق فيه القلة أرباحًا خيالية بينما تظل السيطرة للدولة في جوانب محددة.
أما القسم الثالث فيأتي تحت عنوان «الريع والكازينو» والذي يتتبع تطور الرأسمالية في مجال الاستثمارات المالية والنفطية، وقدرة القطاع الخاص على تعظيم مكتسباته في هذين المجالين خلال العقود الأخيرة، وتحويل البلد لكارتلات مالية وريعية.
ديناميكيات الرأسمالية في مصر
يطرح محمد جاد كاتب الفصل تصورًا حول كيفية دوران الماكينة، وأين العطب ومن يستغل من؟ حيث يرى أن النظام في عهد محمد على حاول الوثب للحاق بركب التطور الرأسمالي الغربي، وتدخلت الدولة في عهده لتحديث الزراعة، وإنشاء الصناعات الحديثة، وفرضت الحماية التي تمنع المنافسة الأوروبية، لكي تضمن لصناعاتها الوليدة الاستمرار في النمو، كما سعى محمد علي إلى تخليق طبقة من كبار الملاك الزراعيين تكون عونًا له في حكمه، إلا أنه من جهة أخرى قضى عى طبقة التجار المحليين والحرفيين والصناع المهرة، وبذلك عرقل نمو الطبقة الوسطى المشتغلة بالصناعة والتجارة، وهي الطبقة التي أرست أصول الرأسمالية في أوروبا.
وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان حكم أسرة محمد على تحت إمرة الخديوي إسماعيل يواجه أزمة ديون متفاقمة، كانت هذه الأزمة هي البداية الفعلية لميلاد الرأسمالية المصرية في نظر بعض المؤرخين، حيث اضطر إسماعيل تحت ضغط الاحتياج للسيولة في 1871 لمنح حقوق ملكية الأراضي لكبار المزارعين مقابل تمويل الديون.
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى ساهم صعود الروح القومية في تحفيز البرجوازية المصرية على التطلع لتحديث الاقتصاد،وخلق أنماط من التراكم الرأسمالي أكثر ارتباطًا بالتصنيع، كان العنوان الأبرز لهذه التطلعات هو تأسيس بنك مصر في العشرينيات، عززت السياسات الحمائية للدولة المصرية خلال حقبة الثلاثينيات من فرص الصناعة المصرية في التطور.
وفي النصف الثاني من القرن العشرين، صارت النماذج التنموية والتحديثية الغربية هي المسارات المرسومة شبه الحتمية لمعظم البلدان الفقيرة، وبحسب جاد كان انقلاب يوليو 1952 أفضل تمهيد لإطلاق قوى التحديث في الاقتصاد المصري، فبعد سنوات من مقاومة البرلمان لتبعات الحد من الملكية الزراعية -لأن البرلمان كان يهيمن عليه طبقة من كبار الملاك الزراعين- بدأت مصر في تنفيذ الإصلاح الزراعي بأوامر القيادة الجديدة.
بصفة عامة جاء رجال يوليو 1952 بطموحات مشابهة لما تطلعت إليه البرجوازية المصرية في بدايات القرن الماضي، من حيث دفع الصناعة نحو التمصر، وتبنى النظام رؤية تقوم على أن التصنيع مدخل رئيسي لتحقيق التقدم والتنمية، الطبقة الحاكمة الجديدة رأت أن تحقيق هذه الرؤية يستلزم الإطاحة بالعديد من رموز تلك البرجوازية، وفي المقابل كان النظام يرتاب من النفوذ السياسي للرأسمالية الصناعية، وترسخت لديه رؤية بأن القطاع الخاص لا يميل للصناعات ذات الطابع التنموي، ويبحث عن الربح السريع.
وهنا جاءت قرارات تأميم البنك الأهلي وبنك مصر جناحي القوة المالية الرئيسين في مصر في 11 فبراير 1960، ما مثل نقطة التحول في تطور التحالف بين البرجوازية الصناعية المصرفية الكبيرة والجهاز العسكري.
بعد هزيمة المشروع الناصري في 1967، وبعد سنوات قلائل كانت الحكومة تحت حكم أنور السادات تستخدم للمرة الأولى تعبير «الانفتاح الاقتصادي» في بيانها في أبريل 1973، عندما تحدثت عن أن «سياسة الدولة تقوم على ضرورة الانفتاح على العالم الخارجي».
وانقلبت سياسة التصنيع لإحلال الواردات في الستينيات إلى سياسة الاستيراد لإحلال الصناعة الوطنية في سنوات الانفتاح، عبر موجة طويلة من تفكيك منظومة الإنتاج الناصرية، والاتجاه بسفينة الاقتصاد إلى عالم السوق الحر، الذي تكتفي فيه الدولة بلعب دور المراقب، وترفع فيه الحواجز أمام دخول البضائع المستوردة والاستثمارات الأجنبية.
وعند التعرض لعهد مبارك يشير جاد إلى محاولة مصر تغيير مسار التطور الرأسمالي منذ حقبة الانفتاح متخلية عن نظرية التبعية، لتسعى وراء الاشتباك في المنافسة العالمية على تقسيم الأدوار في العمل والإنتاج، حيث سعى مبارك إلى تقديم حوافز للرأسمالية في الثمانينيات وفي التسعينيات عبر قوانين الاستثمار، ومن خلال توحيد ضريبة الدخل في 2005، وحوافز أخرى، متسائلًا هل ساعد ذلك مصر على اللحاق بركب الرأسمالية؟
ثم يجيب جاد عن هذا السؤال عبر تتبع ومقارنة مصير مصر مع زميلاتها في الصف الرأسمالي من الدول التي كانت في نفس مستوى الدخل في العام 1987، وكيف أصبحت في العام 2017 أي بعد 30 عامًا، مشيرًا إلى أن مصر كانت قابعة معظم الوقت تقريبًا في الشريحة الدنيا من مجموعة الدول ذات الدخل المتوسط، بل وهبطت إلى شريحة الدخل الأدنى في بداية التسعينيات، بعد أزمة الثمانينيات المالية التي كادت تقود اقتصاد البلاد إلى الإفلاس.
في نفس الوقت صعدت المكسيك من الشريحة الدنيا في الطبقة الوسطى إلى الشريحة العليا خلال تلك الفترة، وحافظت البرازيل والأرجنتين على وضعيهما في الشريحة العليا من ذات الطبقة في معظم تلك الفترة، وكافحت دول آسيا لتخلق دخلًا كافيًا لأعداد سكانها المهول، فكان نجاح الصين في أن تصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم كافيًا بالكاد لتنتقل من شريحة الدخل الدنيا إلى الشريحة العليا في الطبقة الوسطى، بينما تطورت كوريا الجنوبية، حيث الكثافة السكانية الأقل، من الشريحة العليا في الدخل المتوسط إلى شريحة الدخل المرتفع.
وكانت بولندا في 1987 عند نفس ترتيب مصر في الدخل، لكنها الآن بين بلدان الدخل المرتفع، وكذلك انتقلت تركيا وجنوب إفريقيا من نفس موقعنا إلى تصنيف بلدان الشريحة العليا في الدخل المتوسط.
ويعزي جاد التخلف المصري إلى الطبيعة الريعية للاقتصاد المصري، حيث كان معدل النمو طوال العقود الماضية متذبذبًا، بسبب تأثر الاقتصاد القوي بتطورات أسعار الطاقة العالمية، سواء انتعاش الدخل القومي في فترات ازدهار الأسعار (مثل الموجة التي تلت حرب 1973)، أو تضرره من الانخفاض القوي لهذه الأسعار (مثل ما جرى خلال الثمانينيات)، وهو ما يسلط الضوء على الطابع الريعي للاقتصاد، وما يثيره من معضلات في مواجهة التطور الرأسمالي في مصر، حيث إن الاعتماد على ريع النفط أحد العوامل التي تعرض الاقتصاد لصدمات خارجية تهدد النمو الاقتصادي.
معضلة الاقتصاد المصري أنه ليس ثريّا بالموارد الريعية، مثل بلدان الخليج مثلا، كما أنه فشل في أن يلعب دورًا إنتاجيا متميزا يجعل له مكانة بين مصدري السلع للسوق العالمي، لذا؛ فقد هيمنت الصادرات البترولية عى علاقته بالعالم، وهنا يتساءل لماذا فشلنا إذاً في لعب دور إنتاجي متميز في السوق العالمي؟ ليجيب بأن الجزء الأكبر من المداخيل يذهب في الطلب الاستهلاكي، مع ضعف الاستثمار الذي لم يتجاوز 20% في المتوسط، بينما تحتاج مصر لمعدل 25% لفترة طويلة على الأقل للوصول لتنمية مستدامة.
كما يعكس مؤشر مكون رأس المال في الناتج أيضًا صورة للتأخر الإنتاجي، حيث تبدو البلاد متأخرة للغاية عالميا من حيث المكون التكنولوجي في الصادرات، كما أنها متأخرة عن زميلاتها في الإدخار الذي لم يتجاوز 10%، بينما يكاد يلامس 50% في بلدان مثل الصين.
ليس أمرًا عجيبًا إذاً أن يعاني الاقتصاد المصري من عجز تجاري مزمن، طالما أنه خارج حدود هذه المنافسة الدولية على التكنولوجيا، ويسيطر عليه النمط الريعي بشكل كبير كمصدر لخلق الثروة.
ويهيمن الطابع الريعي على الاقتصاد في مجال العمل أيضًا، إذ إن الاحتياج القوي لبلدان الخليج للعمالة المصرية منذ الستينيات ساهم في خلق عوائد مرتفعة من تحويلات المصريين العاملين في بلاد النفط، وبحسب آخر تعداد، فإن عدد المقيمين في الخارج يبلغ نحو 9.4 مليون مصريا، النسبة الأكبر منهم يقيمون في البلدان العربية.
وإدا ما نظرنا إلى توجهات الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر، سنجد أن جُل اهتمامه ينصب أيضًا عى النشاط البترولي، وهو أمر يؤثر في عملية التنمية في مصر في مجملها، فرغم تزايده إلا أنه يقوم على استثمار كثيف لرأس المال، ضعيف في التشغيل، ولا يؤدي لخفض معدل البطالة.
يناقش جاد أيضا قيود النمو الرأسمالي، وفرص التنمية المستدامة، مشيرًا إلى أنه لم يكن هناك ظروف مؤهلة لنمو مستدام سوى في الستينيات، حيث نمو إنتاجي وتصنيعي كبير، أما الطفرتان التاليتان في السبعينيات، والعقد الأول من الألفية الجديدة، فقد كانتا مبنيتن على قطاعات مؤهلة للتذبذب، مثل البترول (الذي يتأثر بالأسعار العالمية)، والسياحة والإنشاءات.
بينما طوال العقود التالية تراجعت الأنشطة الإنتاجية في الزراعة والصناعة لصالح نشاط التجارة والاستيراد والأنشطة الخدمية والريعية، على الرغم من توسع مصر في اتفاقيات تحرير التجارة خلال العقود الأخيرة، لكن هيكل الصادرات هيمنت عليه الصادرات النفطية، والصادرات منخفضة التكنولوجيا التي تمثل 90% من الصادرات المصنعة، وكان للانفتاح التجاري تأثير سلبي على الفقر والتوظيف.
ويشير جاد لأسباب مثل ضعف إنتاجية العمالة في القطاعات غير الرسمية، عجز الحماية الاجتماعية كمعضلة رأسمالية مصرية، وانسحاب الدولة تدريجيًا من الدور الإنتاجي لها منذ نكبة يونيو 1967، حيث بدأت في لعب دور المنظم والمحفز للاستثمار عبر القوانين والتشريعات وتوفير الأرض، ورغم التعديلات الكبيرة في قوانين الاستثمار في السبعينيات والثمانينيات إلا أن النتائج جاءت مخيبة للآمال وأغلبها موجه لقطاعات ريعية ضعيفة التشغيل والإنتاجية.
يشير جاد بشكل غير مباشر لغياب فج للعدالة الجغرافية في توزيع التنمية الرأسمالية، فإذا نظرنا إلى المدن الصناعية، حيث تتركز العمالة بكثافة في المدن الواقعة بالقرب من القاهرة، والجيزة، والإسكندرية، تحديدًا في 6 أكتوبر، والعاشر من رمضان، والعبور، والسادات، وبرج العرب، أما المدن الصناعية الباقية وعددها حوالي 104 مدينة، فنصيبها من العمال يقتصر عى نحو 30% من مجمل العاملين في المدن والمناطق الصناعية والحرة.
وحتى في المدن التي تتسم بكثافة التواجد العمالي، فإن هناك استغلال رأسمالي فج للعمال، إذ إن نصيب الأجور لصافي قيمة الإنتاج لا يتجاوز في أحسن الأحوال نسبة 5%، وقد كان السخط على نمط التطور الرأسمالي في مصر وعدم عدالة توزيع ثمار النمو الاقتصادي، أحد محركات الثورة المصرية في 2011، حيث جاءت بعد سنوات من النمو الاقتصادي القوي، ولكن مع مستويات مرتفعة أيضًا من الفقر.
هناك أنماط أخرى من الاستغلال تحدث بسبب نمط عمل الرأسمالية ذاته، كأن تقوم سياسة الدولة مثلًا على تسليع السكن، لكي توفر لنفسها وللمستثمرين العقاريين فرصًا أفضل في الربح، على حساب فرص المواطنين في الحصول على هذه الخدمة الحيوية، أو أن يقوم النظام المالي بإتاحة الفرص لكبار المستثمرين للتهرب من الضرائب، بينما يلتزم صغار الموظفين قسرًا بسداد الضرائب من رواتبهم، وهذه سمات رأسمالية منتشرة في العالم تعاضد بعضها، وتمتلك آلة دعائية تشكل أنماط الإنتاج والاستهلاك، وتضغط على الدول والمجتمعات بالاتفاقات التجارية غير العادلة، وبتضمين التحكيم كأولوية ضمن أي اتفاقات تجارية ثنائية أو متعددة، ما يسهم في تكريس نمط من الاستغلال يصعب مقاومته أو تفاديه.
سياسة تسليع السكن في مصر
في هذا الفصل تناقش بيسان كساب قضية السكن، حيث تشير لسياسات متراكمة من إهمال الفقراء والمدن القديمة لصالح المجتمعات المسورة، إذ شهد العقد الأخير من حكم مبارك حدة كبيرة في حالة «الانشطار» في نسيج المدينة، والذي تمثل بوضوح في الدعم الذي تمتعت به شركات الإنشاءات المحلية والأجنبية لبناء مجتمعات «مسورة» في ضواحي القاهرة، إذ سمحت الحكومة بنقل ملكية الأراضي الصحراوية إلى الملكية الخاصة بأسعار منخفضة، وشجعت الرأسماليين على بناء مشروعات مربحة على هذه الأراضي، واهتمت بالطرق والكباري المؤدية لتلك المشروعات.
وشجعت السياسات العامة حالة من الرفض للقاهرة القديمة، التي دأبت تلك النخبة على تصويرها بأنها مدينة سوقية ولا يمكن إصلاحها، بل يجب هجرها نحو المدن المسورة في الأطراف.
استخدمت الدولة لصالح القطاع الخاص في الأساس -منذ بدء القرن الجديد- عدة أدوات تقليدية لبناء ما يسميه المفكر الماركسي ديفيد هارفي ب«التراكم عبر نزع الحيازة» (accumulation by ispossession) ويشير هذا المصطلح إلى ما يمكن أن يكون مقابلاً معاصرًا لـ«التراكم البدائي لرأس المال» مع نشأة الرأسمالية، الذي وصفه كارل ماركس في صورة عمليات كانت عادة ما يستخدم فيها العنف الواضح لتمهيد الطريق لبناء الرأسمالية.
أما التراكم عبر نزع الحيازة؛ فهي عمليات تتخلل مسيرة «النيوليبرالية» وتتخذ عدة أشكال، على رأسها التسليع الكامل لكل شيء، والخصخصة، وإدارة الأزمات، والتلاعب بها، وتتضح ملامح هذا النمط من التراكم في مصر في أمثلة واضحة في القطاع العقاري، على رأسها عمليات تسليع الأراضي منذ بداية القرن الحالي، التي أشعلت فيها الدولة أسعار الأراضي بعد أن خصصت مساحات واسعة منها للمقربين سياسيا وباثمن بخس، وهكذا حصلت الشركات الكبرى على أراض شاسعة بأرخص الأسعار، واستفادت من أرباح ريعية طائلة ناتجة عن ارتفاع القيمة السوقية للأراضي التي في حوزتها، خاصة بعد اتجاه الدولة لتخصيص الأراضي بنظام المزادات.
ونتيجة لهذا الارتفاع الكبير للغاية في أسعار الأراضي الصحراوية في المدن الجديدة -ضمن هذا السياق من التسليع- ارتفعت القيمة السوقية للأراضي داخل المدن القديمة على نحو أغرى الدولة للاستثمار فيها، ما دفعها لطرد السكان الفقراء وإعادة بناء أحيائهم، كما يتضح في مشروع القاهرة 2050، ولا يمكن إغفال تزامن صياغة مشروع 2050 مع الصعود الكبير لنفوذ جمال مبارك نجل الرئيس المخلوع حسني مبارك، الذي قاد عمليات التحوّل النيوليبرالي في مصر.
كما يمكن اعتبار تعويم الجنيه في عام 2016 أزمة انطوت على فرصة تاريخية في سياق هذا التراكم، حيث مكنت تلك الأزمة الشركات العقارية من مراكمة مستويات جديدة من الأرباح، كما مكنت الدولة نفسها من ترويج مشروعها لبناء عاصمة جديدة، والذي يمثل نموذجًا فريدًا من التراكم، ولا يمكن فصل قطاعي الحديد والأسمنت عن هذا السياق، ويعد نموذج رجل الأعمال البارز أحمد عز مثالًا واضحًا على التراكم عبر نزع الحيازة، بعدما تمكن من تحقيق أرباح استثنائية للغاية كنتيجة لزيادة حصته في السوق عبر «الاستيلاء» على شركة «الدخيلة» الحكومية، كما تعد صناعة الأسمنت نموذجا آخر على هذا النمط من التراكم في ظل سلسلة من عمليات الخصخصة قضت تقريبا على الملكية العامة في هذا القطاع خلال سنوات قليلة.
الغذاء: صناعة الرغبة وصناعة الجوع
يناقش هذا الفصل حضور الدولة في الصناعات الغذائية عبر الصوامع والمطاحن وشركات السكر والخبز ومنظومة الدعم التمويني وغيرها من مظاهر الحضور، بالرغم من أنها ترفع شعار «الدولة مستثمر فاشل» منذ تسعينيات القرن الماضي إلا أن الدولة لا تزال حريصة على لعب دور المنتج والموجه لهذه المنظومة الإنتاجية، لكن دورها هنا محدود بالاعتمادية الكبيرة على الاستيراد من الخارج للمحاصيل الاستراتيجية مثل القمح والفول والعدس، وكذلك بعض السلع الهامة مثل الزيوت واللحوم، وترتبط أسعار هذه السلع انخفاضا وارتفاعا بأسعار العملة وأسعارها في السوق العالمي، كما ترتبط زراعتها محليا بموارد مائية قادمة من الخارج، ما يحد من قدرة الحكومة على تحقيق الأمن الغذائي.
وبالرغم من بعض إيجابيات سياسات تحرير القطاع الزراعي، يرى البعض أن السياسات النيوليبرالية دفعت مصر إلى مسار الاعتماد على استيراد الغذاء، بعد أن كانت في الستينيات مكتفية ذاتيا في معظم الأغذية الأساسية باستثناء القمح.
ويحقق القطاع الخاص قدرا من التراكم الرأسمالي داخل منظومة الأمن الغذائي تلك بكل مشكلاتها، سواء في مجال تصنيع الأغذية الأساسية، مثل الزيوت، أو الإتجار بها، كما هو في حالة الأرز، أو استيرادها، كما يظهر في حالة السكر وغيرها من السلع.
تقوم الشركات الكبرى بتشكيل وإعادة تشكيل رغبات المستهلكين للغذاء، لتحقيق أعلى أرباح ممكنة بغض النظر عن مكونات منظومة الأمن الغذائي ومواردها المتاحة، وبالنظر لحصيلة مبيعات كبرى شركات الصناعات الغذائية في مصر، سنلاحظ التأثير الواضح لهيمنة الدعاية على توجيه العادات الاستهلاكية للمصريين لصالح نمط التغذية الغربي، كما سنلاحظ نجاح آلة التسويق في تحقيق إيرادات ضخمة من خلال سلع لا تمثل ضرورة أساسية في حياة المواطنين، علينا ألا ننسى أن ذلك يتم في وقت تعاني فيه منظومة السلع الأساسية من أزمات متكررة.
هذا الحضور القوى للعلامات التجارية، يروى لنا قصة تطور الصناعات الغذائية في مصر منذ حقبة الانفتاح، وكيف لعبت سياسة صناعة الرغبة دورا في خدمة أهداف التراكم الرأسمالي، وفي مقابل ذلك لم تنجح الرأسمالية -الدولة- في حل معضلات الجوع الرئيسية عند المصريين.
وعلى طريقة فيلم الأكشن الشهير «Face Off» تبدو قصة الرأسمالية المصرية مع القطاع العام، حيث يشرح هذا القسم كيف حلّ القطاع الخاص مكان الدولة في الصناعات الهندسية والنسيجية، وفي خدمات مهمة أيضا مثل الاتصالات، وكيف تم تمهيد الأرض للمستثمرين عبر امتيازات عدة، حتى بدا الأمر في بعض الحالات وكأنه مجرد عملية تبديل للواجهة، لكي تنتقل عملية التراكم من القطاع العام إلى الخاص، وبشروط جديدة تصب في صالح نخب محدودة.
حلول القطاع الخاص مكان الدولة في الصناعات الهندسية
يناقش الباحث في هذا الفصل تطور قطاع الصناعات الهندسية في مصر، بدءًا من كونها استثمارا أجنبيا بشكل رئيسي يتم تحويلها إلى رمز للاستقلال الاقتصادي والتحرر الوطني، انتهاء إلى صناعة متباطئة تحت سيطرة رأس المال الخاص المحلي.
ويكشف لنا أن النظرة العامة على الصناعات الهندسية تظهر أنماطا لا يمكننا تجاهلها، على الرغم من أن القطاع العام المُدار من قبل الدولة يروج له الآن على أنه غير كفء، ومهدر للموارد، ويعيش عالة على الدولة، تقدم الرواية التي سردها في هذا الفصل قصة مختلفة تماما، حيث يكشف عن أن الرواية الحالية لانسحاب الدولة من التصنيع تقوم على خلق أسطورة عن القطاع العام، تخلط بعض الحقائق بكثير من المغالطات، والعديد من الخيالات، للترويج إلى أن الوضع الحالي هو أفضل ما في الإمكان.
وتشير البيانات التي سردها للتدليل على فكرته لتبني صورة واضحة لقطاع عام نجح في تحقيق نتائج مبهرة برغم تعدد العقبات وصعوبتها، صحيح أنه لم يحقق كل وعوده، فنحن لم نُصنّع سيارة مصرية 100%، ولا تلفزيونًا من أوله إلى آخره، إلا أن القطاع العام من وجهة نظره أوفى بوعود كافية لأن تقنعنا أن تجربته كانت صادقة في النية والجهد.
حتى أن الشركتين اللتين سيطرتا على السوق بعد غياب القطاع العام «العربي وغبور» جاءا إلى الساحة أصلا في صورة تجار موزعين، وبدأت كلتاهما في دخول ساحة التصنيع في الثمانينيات، العربي راكم أرباحه من توزيع منتجات القطاع العام، وغبور استفاد من البيئة الاستهلاكية لسوق السيارات التي مهدتها السياسات الناصرية، وراكما أرباحهما جزئيا من تسويق السيارات وقطع الغيار، حتى إذا أتما استفادتهما من هذه الأوضاع، أصبح لهما وضع مسيطر على السوق.
كما يشير إلى أن الصناعات الجديدة على حياة المصريين مثل الحواسب المحمولة والهواتف النقالة، تبقى حتى الآن في طور الطفولة الصناعي في مصر، فلا تزال رؤوس الأموال المحلية بعيدة عن هذه الصناعات التكنولوجية، ولم يتجرأ هذا القطاع الخاص المحلي في الدخول في هذه القطاعات وتحقيق أرباح كبيرة، فيما نجد أن رأس المال الأجنبي يُقبل بجدية على الدخول في هذه الصناعات خلال الفترة الأخيرة، ممثلا في سامسونج الكورية عبر مصنعها في بني سويف، وسعيها للسيطرة على السوق، بينما لم يقم القطاع الخاص المحلي بخلق بنية أساسية باستثمارات كثيفة لإدخال صناعات جديدة في مصر كالهواتف المحمولة، مثلما فعل القطاع العام في حالة الصناعات الهندسية القديمة خلال الستينيات، فاستقدام هذه الصناعات الجديدة، عادة ما تكون عملية كثيفة الاستثمار وبطيئة العوائد.
صناعة المنسوجات: تطوير أم تعميق للتخلف؟
يقوم هذا الفصل على سرد تحولات قطاع الغزل والنسيج منذ فترة الانفتاح وحتى الآن، والتغييرات الأساسية التي واكبتها، عن طريق الإجابة على سؤالين أساسيين، أولهما: كيف ساعد الانفتاح الاقتصادي في عملية تراكم رأس المال لصالح القطاع الخاص على حساب المصلحة العامة، والقطاع العام؟ وثانيهما: ما هي أسباب فشل جهود القطاعين العام والخاص في إحداث طفرة كبيرة في صناعة الغزل والنسيج؟
يجادل كاتب الفصل بأن توسع القطاع الخاص المحلي في البداية ثم الدولي الشريك، كان على حساب القطاع العام سواء باستنزاف العمالة الماهرة، أو بالاستيلاء على المصانع التابعة للقطاع العام، التي قاد سوء الإدارة وتوجهات الخصخصة لتصفيتها، وبالتالي فإن القيمة المضافة الحقيقية للقطاع الخاص في قطاع النسيج كانت ضعيفة، والإنتاج النهائي للقطاعين العام والخاص لم يكونا قادرين على تلبية احتياجات السوق المحلي من الملابس والمنسوجات.
ارتبط التنظيم العمالي في مصر بهذه الشركات وناصبته السلطة العداء، مما ساهم في هجرة العمال من القطاع العام للخاص، الذي لا تتوفر فيه الحماية الكافية لحقوقهم، ويعملون فيه تحت ظروف قاسية، ومع موجات التحديث والميكنة أصبح القطاع الخاص هو الآخر في غناء عن هذه العمالة، وأصبح يراكم أرباحا هائلة بالاعتماد على أقل عمالة ممكنة، بل أصبح بعضهم رغم كل التسهيلات الحكومية يستدعى عمالة من سوريا وبنجلاديش.
بالمضي قدما في سياسات الخصخصة المعيبة لشركات القطاع العام، انتقل الدعم الحكومي للقطاع الخاص سواء عبر دعم الصادرات وخفض الجمارك على مدخلات الصناعات النسيجية، وتخفيض الضرائب على دخول تلك الشركات، وبتزاوج السلطة مع الثروة، وفي ضوء الكويز، أصبح صندوق دعم الصادرات يخدم فعلا حفنة من المقربين من النظام، وخصوصا من العاملين في مجالات الملابس الجاهزة والغزل والنسيج والمفروشات.
ويتتبع الباحث قصة صعود اثنتين من أهم المجموعات الرأسمالية في صناعة الغزل والنسيج وهما مجموعة (العرفة) ومجموعة (النساجون الشرقيون)، وكيف الترابط المالي بالسياسي في قصة صعودهما وسيطرتهما على جزء كبير من الصادرات ودعمها، مستفيدتان من الانفتاح الاقتصادي والتطبيع.
رغم كل هذا الدعم لم نشهد حدوث تطور أعمق في قطاع الغزل والنسيج في مصر، رغم أنه مهيأ لتكامل رأسي كبير، حيث كل مدخلات إنتاجه وعمليات الإنتاج كانت تتم داخل مصر، وبداية من الانفتاح، أصبح السوق المصرى معرضا لكم هائل من الواردات المنافسة للمنسوجات المصنوعة محليا.
وتحولت الصناعة تدريجيا من هدف الإحلال محل الواردات إلى أهداف ربحية مبالغ فيها للقطاع الخاص، تقوم بدرجة أكبر على تلبية طلبات التصدير، والطبقات الميسورة المحلية، مع رقابة ضعيفة على ممارسات التهريب، التي توفر ملابس مستوردة بتكلفة أقل للطبقات الدنيا، لكنها تضر الصناعة المحلية الصغيرة والمتوسطة، ومن ثم فقدان السيطرة المتزايد على شروط إعادة الإنتاج المؤدي إلى تعميق التخلف الصناعي والزراعي المرتبط به، بسبب الاعتماد المتزايد على مدخلات إنتاج مستوردة من التكنولوجيا وقطع الغيار والخبرة.
كيف تمت خصخصة قطاع الاتصالات؟
تدور الأسئلة الرئيسية التي تحاول الباحثة الإجابة عليها من خلال هذا الفصل حول: كيف ترى الدولة المصرية نشاط الاتصالات؟ هل تراه كخدمة عامة أم تجارية؟ هل تخلت الدولة المصرية عن سلطتها في السيطرة على المعلومات مع الاتجاه لخصخصة الاتصالات؟ كيف أثرت ملكية الحكومة للبنية التحتية على السيطرة على هذه الخدمة؟ ويهدف هذا الفصل إلى تقديم لمحة عامة عن قطاع الاتصالات في مصر، مع التركيز خاصة على الهاتف المحمول، ودراسة التغيرات الأساسية التي مر بها القطاع كجزء من التغييرات السياقية العامة بمصر.
وتمييزا بين عصر احتكار الدولة للقطاع من 1957-1997 وعصر تحرير القطاع من 1998-2011، ووفقا للباحثة لم تغب الدولة عن سوق الاتصالات خلال حقبة التحرر النيوليبرالي في التسعينيات والسنوات الأولى من الألفية، لكنها كانت تتحرك بشكل غير ظاهر، تحت ضغط الفاعلين الدوليين على النظام، فاستجاب مبارك بمنح رخص الاتصالات لمحاسيبه، وتأخرت الدولة كثيرا في وضع الأسس التنظيمية التي تضمن عدم إساءة استغلال القطاع الخاص لانفراده بخدمة التليفون المحمول لسنوات عدة، ىالواقع أن اهتمامات الدولة تجاه قطاع الاتصالات كانت منصبة على تحقيق هدفين: الأول؛ هو السيطرة الكاملة على المعلومات، والثاني؛ ضمان جني إيرادات مستمرة من خلال هذا النشاط.
وقد حققت الدولة هذين الهدفين، بدون حاجة لأن تكون لاعبا ظاهرا في السوق، فقد اكتفت بالسيطرة على المعلومات عبر التشريعات، وجني الإيرادات من خلال تأجير البنية التحتية للقطاع الخاص, وأثبتت ثورة يناير بشكل قاطع أن الدولة كانت تملك الزر السحري الذي تستطيع من خلاله أن تغلق خدمات الاتصالات بالكامل وبمنتهى السهولة، إذا تطلبت المقتضيات الأمنية ذلك.
ثم كان التطور الأخير المتمثل في دخول المصرية للاتصالات إلى مجال المحمول، ليعيد الدولة إلى السوق بشكل ظاهر ومكشوف، ويصعب أن نفهم هذا التوجه إلا إذا وضعناه في سياقه السياسي، لقد كان أمام الدولة خياران: إما أن تمنح الرخصة الموحدة، حتى تتساوى الفرص داخل سوق الاتصالات، أو تدخل هي السوق بذاتها، وتصبح الطرف الأهم داخله، ولا شك أنها اتجهت إلى الاختيار الأكثر منطقية للاستفادة من الميزة التنافسية المتاحة أمامها، وفي الوقت نفسه كي تبدو أمام الرأي العام في صورة الدولة الراعية التي تعمل على توفير خدمات أرخص وأكثر كفاءة وأفضل جودة.
استهدفت سياسات الدولة السيطرة والربح بالأساس ورغم تباطئها في تحديث البنية الأساسية للاتصالات، فإنها اتجهت أيضا إلى الاعتماد على نشاط الاتصالات كأحد مصادر توليد الإيرادات العامة سواء عبر المنافسة أم عبر الضرائب والرسوم.
الريع والكازينو
يناقش هذا القسم الاستثمارات التي تتسم بكثافة رأس المال، حيث تنجب الأموال أموالا جديدة، وفي هذا السياق يشرح الفصل السادس الصراع المحتدم على موارد النفط في مصر بين الدولة صاحبة السيادة، والشركات الكبرى صاحبة التكنولوجيا، والأقدر على تحمل التكاليف الضخمة للاستكشاف، كما يلقي الفصل السابع الضوء على الاستثمارات المالية وألاعيب تهريب الأموال وكيف ساهمت في خلق نخبة اقتصادية جديدة في مصر.
يناقش عبد الحميد مكاوي في الفصل السادس دور الدولة في القطاع النفطي، سواء عبر التنظيم القانوني لعمليات الاستخراج والقواعد المجحفة التي تفرضها الشركات الدولية، أو التكرير والتسويق، أو الالتزام بالدعم.
ويسوق أمثلة على صراعات وتناقضات مختلفة بين رغبة الدولة في السيطرة على القطاع ثم رغبتها في التخلص منه في صورة الدعم ثم اختيارها الالتزام بالدعم للطاقة للصناعات الكثيفة الاستخدام للطاقة.
وسعي الحكومة لتحميل الطبقات الأفقر كُلفة رفع الدعم عن المواد البترولية، بسبب عدم تمييزها إيجابيا بين الاستخدامات المختلفة للمواد البترولية، بينما تعطينا الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة مثالا لعدم استعداد كارتلات البيزنس المصرية لأن تتحمل كُلفة تحرير السوق، إلا إذا كان تحرير الأسعار سيعمل في مصلحة زيادة أرباحها مع تمسكها بالجانب الخاص بحمايتهم من المنافسين الدوليين عبر الجمارك والرسوم، كما هو الحال في صناعات الحديد والأسمنت والأسمدة.
يريد رجال الأعمال إذاً أن تنسحب الدولة، حتى تتحقق المنافسة العادلة، ويريدون أيضا أن تتدخل بمنحها إياهم امتيازات ضريبية، وهم غير مستعدين في ذات الوقت للمساهمة بنصيب عادل في تمويل البرامج الصحية والتعليمية، أو حتى في جهود تطوير الصناعات الاستخراجية.
النمو الذي لا تسقط ثماره
في الفصل السابع تحت العنوان أعلاه يناقش أسامة دياب كيف ساهم تطور القطاع المالي في تركز الثروة في مصر، حيث يستخدم دياب، التفرقة بين نمطي التراكم (الرأسمالي واللارأسمالي)، كمدخل منهجي ملائم لتحليل دور القطاع المالي في تحقيق التراكم للنخبة «النيوليبرالية»، التي سيطرت على عمليات صنع القرار في مصر، خلال العقد السابق على ثورة يناير، مع بزوغ نجم جمال مبارك، وقيامه بلعب أدوار متزايدة في المجالين الاقتصادي والسياسي.
حيث إن أنشطة المضاربة التي تقوم بها صناديق التحوط والاستثمار المملوكة لمؤسسات القطاع المالي (مثل بنوك الاستثمار) تعد أكثر أشكال «التراكم عبر الانتزاع» (accumulation by dispossession) تطورا في عصر الحقبة «النيوليبرالية» وفقا لديفد هارفي، كنسخة حديثة معاصرة من التراكم الأولي، بينما هو وفقا لتعريف كارل ماركس، وروزا لوكسمبورج، نمط التراكم اللارأسمالي الذي يعتمد على القوة والاحتيال والقمع والنهب، والذي يحدث على مرأى ومسمع من الجميع، دون بذل أي محاولة لإخفائه.
يسقط دياب هذا الإطار النظري على الوضع في العقد الأخير من حكم مبارك، حيث شهدت مصر موجات عنيفة من هذه الممارسات تحت مظلة برامج الخصخصة، وسياسات تخصيص الأراضي للمستثمرين، وإغلاق العديد من المساحات المشاعية للاستخدام الخاص كالشواطئ والأنهار، وانتشار المضاربة في الأوراق المالية، والاستثمار في الدين العام والخاص، والتحويل التدريجي للمرافق العامة إلى ملكيات خاصة.
قدم هذا الفصل تحليلا لأساليب وطرق التراكم في القطاع المالي، الذي شهد قفزة كبيرة في حجم الأعمال خلال العقد الأول من الألفية الجديدة برعاية مجموعات سياسية نافذة، على رأسها نجلي الرئيس الأسبق حسني مبارك، وكيف أن هذا النمط من التراكم -بسبب طبيعته- قد ساهم في زيادة الفجوات الطبقية، التي أدت إلى زيادة معدلات النمو بدرجة كبيرة، وزيادة معدلات الفقر بدرجة كبيرة أيضا في نفس الوقت، موضحا أن «التراكم عبر الانتزاع» هو نمط التراكم المُميز في الحقبة «النيوليبرالية»، ويقف على النقيض من التراكم الرأسمالي الذي يعتمد على «إعادة الإنتاج الموسع»، وأن ثمار التراكم عبر الانتزاع لا تسقط على الفئات الدنيا في الدخل والثروة، وهو ما يرجع لأسباب مرتبطة عضويا بهذا النمط من التراكم.
ومن أبرز تلك الأسباب: أولاً؛ أن التراكم عبر الانتزاع لا يعتمد عى عمالة كثيفة، وبالتالي لا تذهب ثماره إلى قاعدة واسعة من العمال، لكن تنحصر في نخبة محدودة؛ وثانيا؛ أن هذا النمط من التراكم، على الأقل في صورته المرتبطة بالقطاع المالي، يستطيع الالتفاف حول القوانين الضريبية وتجنبها بقدر من السهولة؛ وثالثًا؛ أن إيرادات هذا النمط من التراكم يتم عادة نزحها إلى الخارج لضعف ارتباطها الجغرافي، مقارنة بالنشاط الإنتاجي، ولا تتم إعادة استثمارها في السوق المحلي، وأخيرا؛ أن الفئات الاجتماعية التي تتحصل على تلك الدخول والثروات الجديدة، ليس لديها القدرة على تحفيز الطلب المحلي، وتنشيط السوق بسبب انخفاض الميل الحدي للاستهلاك الخاص بها.
خاتمة
يعد هذا الكتاب تشريحًا جيدًا لفهم تطورات الاقتصاد المصري عبر قرنين من الزمن، ويجيب على الكثير من الأسئلة الهامة التي تشغل بال أي مهتم بالاقتصاد السياسي المصري، ومحاولة فهم عدم نجاحه وتعثره في تحقيق التنمية في مختلف القطاعات المالية والإنتاجية ومعضلاته الهيكلية المختلفة، ورغم انطلاق أغلب كُتابه وباحثيه من خلفيات يسارية ماركسية إلا أن هذه التحليلات تقوم على معطيات واقعية من بيانات وكتابات ونشرات معلوماتية وصحفية، صادرة عن المنظومة الرأسمالية للنظام المصري النيوليبرالي ذاته، وهو ما يعطي الكتاب مصداقية كبيرة.
كما تدحض فصول الكتاب العديد من الادعاءات الخاصة باستخدام الآلة الدعائية في تثبيت القناعات الشعبية بفشل القطاع العام وأهمية التحرير الاقتصادي والخصخصة ونجاحاتها الباهرة، وكذلك تدحض فكرة النجاح الذاتي والعصامي للنخب الرأسمالية المصرية، عبر تقديم الأدلة الواضحة على تزاوج السلطة والثروة التي قادت لبزوغ أنجم العديد من رموز هذه النخبة في العصور المختلفة.
يفتح الكتاب أذهان القراء على ضرورة فهم آليات سير ماكينة الاقتصاد المصري عكس عقارب ساعة مصالح أغلب المصريين، وعكس عجلة الزمن والمنطق القابل للإصلاح والتغيير، ويشير بشكل مباشر وغير مباشر إلى مكامن الخلل في المنظومة السائدة التي تعيد إنتاج التخلف والفقر والابتعاد عن العدالة التوزيعية أو التصحيحية في هياكل الاقتصاد المصري ومدخلاته ومخرجاته، منبّهًا الطبقات الدنيا والفقيرة أن تعي مصالحها بوضوح مثلما تفعل الطبقات المستفيدة من الأوضاع الحالية.
المصادر
[1] محمد جاد، محرر، ملاك مصر: قصة صعود الرأسمالية المصرية، القاهرة: دار المرايا للانتاج الثقافي، ط١ ٢٠١٨، https://bit.ly/3JRseXH
تعليقات علي هذا المقال