يضيف ماركس على رؤية هيجل للتاريخ، باعتباره تكرارا للأحداث، جملة طالما يستدعيها الناس كلما تشابهت الأحداث، فيقول إن التاريخ بينما يكرر نفسه مرتين؛ تكون الأولى مأساة، والثانية مهزلة.
وتستدعي المغامرة التي قرر السياسي المستقل أحمد الطنطاوي خوضها، بترشحه لانتخابات الرئاسة، العودة بالتاريخ إلى انتخابات عام ٢٠٠٥، وتحديدا تجربة السياسي الليبرالي أيمن نور، الذي حلم بأن يكون أول رئيس لمصر من خارج دائرة العسكريين، الذين يحكمونها منذ عام ١٩٥٢. لنبحث أوجه الاختلاف والتشابه بين التجربتين، وموقعهما من المأساة والمهزلة، وربما الأمل في التغيير.
شارع سياسي ذو اتجاهين
تأتي انتخابات الرئاسة ٢٠٢٤ وقد مر على حكم السيسي عشرة سنوات كاملة، لكن لم يكن الحال كذلك في انتخابات الرئاسة عام ٢٠٠٥، حينها كان قد مر على بقاء مبارك في كرسي الحكم ما يقارب ٢٤ عامًا، تقلب فيها نظام حكمه بين كل الظروف الاقتصادية والسياسية، لكن أكثر ما ميز ربع القرن الذي قضاه مبارك رئيسًا قبل انتخابات ٢٠٠٥، عن العقد الذي قضاه السيسي حتى الآن، أن الشارع السياسي في عهد مبارك كان قد عانى محاولات لم تنجح لخنقه، وتأكد فشلها باندلاع ثورة يناير ٢٠١١.
أما في عهد السيسي، فلا شك أن السياسة تعاني من حالة موات تام، واستئصال لكل أشكال الحياة الحزبية، التي رغم أنها كانت مستبعدة في عهد مبارك، إلا أنها لم تكن قد استئصلت بالكامل كما هو حادث الآن، وهنا يكمن فارق مهم بين تجربتي أيمن نور والطنطاوي.
في كتابه “ثورة مصر”، يُحصي عزمي بشارة عدد التظاهرات السلمية التي حدثت في الشارع المصري، خلال العقد الأخير من عهد مبارك، فنجد أنه بين عامي ٢٠٠١ و٢٠٠٥ اندلعت حوالي ٨١ مظاهرة[1] في شوارع مصر، تتنوع في مطالبها بين الفئوية، والاجتماعية، والقضايا القومية.
وقد كانت الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام ٢٠٠١، واجتياح جنين عام ٢٠٠٢، وغزو العراق عام ٢٠٠٣، أكثر القضايا القومية التي كانت قادرة على حشد الشارع مرة تلو الأخرى، للضغط على النظام المصري، ففي تلك المظاهرات، تكرر ظهور بعض الشخصيات من مختلف الأطياف السياسية المعارضة، وقد اجتمعوا وناقشوا فكرة دمج قضايا التغيير الديمقراطي في مطالب التحركات الاحتجاجية؛ المتعلقة بالقضايا القومية.
وفي تلك الفترة، بدأت مجموعة اجتماعات بين سياسيين من توجهات مختلفة، نتج عنها تأسيس الحركة المصرية من أجل التغيير، المعروفة باسم كفاية، التي ظهرت أواخر عام ٢٠٠٤[2] بوصفها حركة عابرة للأيديولوجيا، وأعلنت برنامجها السياسي الرافض -رفضًا رئيسًيا- لأمرين، أولهما التجديد لمبارك، وثانيهما التوريث لابنه جمال، وقد كان ذلك التكتل ناتجا عن إيمان رئيسي بأن قنوات العمل السياسي المتاحة غير فعالة، لذلك كانت مطالبها راديكالية ضد مبارك ونظامه.
وكانت كفاية وغيرها من الحركات الشعبية التي نشأت على هامشها، أحد أكثر وسائل الضغط التي كانت موجودة في الشارع المصري، لكن لا يمكن إهمال دور الإعلام كذلك وقتها؛ إذ إن مبارك نفسه كان قد فرض قيودًا على منظومته الإعلامية خلال الحملة الانتخابية، حتى أنه منع قنوات التليفزيون المصري من إذاعة الأغاني التي تروج له.
وبعيدًا عن الإعلام الحكومي، فقد كان هناك هامش من الاستقلالية تمتعت بها القنوات الخاصة، وأتاحت للمرشح المعارض أيمن نور أن يعرف نفسه للمصريين. في المقابل، لا يجد الطنطاوي سوى الإعلام البديل، متمثلا في وسائل التواصل الاجتماعي، التي لا تضمن الوصول إلى قطاعات كبيرة من الشعب المصري.
وفي عهد مبارك، عملت بعض الفضائيات والصحف الخاصة مستقلةً عن الحكومة، أما في عهد السيسي -الذي طالما حسد عبد الناصر لأنه كان محظوظا بإعلام الصوت الواحد- فقد أصبح الإعلام الخاص خاضعًا للسيطرة من الأجهزة الأمنية.
القوى الخارجية: من الضغط إلى اللامبالاة
بين عامي ٢٠٠٥ و٢٠٢٤ لا شك أن كثيرًا من الأمور تغيرت في موازين القوى العالمية، إذ كان مطلع القرن الجديد شاهدًا على ذروة الهيمنة للولايات المتحدة، التي خرجت منتصرة من الحرب الباردة، وكانت روسيا ما تزال في طور إعادة البناء والتشكل، ولم تكن الصين لاعبًا هامًا في منطقة الشرق الأوسط، ودول الخليج وإيران كانت المارد الذي لم يخرج من القمقم بعد؛ لذا كانت الولايات المتحدة قادرة على إحداث كثير من الضغوط على الأنظمة السياسية في المنطقة العربية، وقد كان هذا المناخ مفيدًا لانتخابات ٢٠٠٥ في مصر.
في مقابلة لها مع صحيفة واشنطن بوست، في مارس ٢٠٠٥، بعد شهرين من خلافتها كولن باول في وزارة الخارجية الأميركية، تحدثت[3] كونداليزا رايس عن السياسة الجديدة لإدارة جورج بوش تجاه الشرق الأوسط، التي كانت تهدف بالأساس إلى محو الفشل في بناء دولة ديمقراطية تخلف الحكم البعثي في العراق، إذ قالت: “الناس قالوا لنا، حسنًا، أنتم تتحدثون عن الديمقراطية في أمريكا اللاتينية، تتحدثون عن الديمقراطية في أوروبا، بل في آسيا وإفريقيا، لكنكم لا تتحدثون أبدًا عن الديمقراطية في الشرق الأوسط، وبالطبع هم محقون، لأن القرار هنا كان أن الاستقرار يعلو على ما سواه”.
لقد قررت الإدارة الأمريكية وقتها أن تتنصل من تاريخ طويل من دعم الأنظمة القائمة في المنطقة بحكم السياسة الواقعية التي تحفظ مصالحها، وقررت أن تستبدل بها حملة ترويج الديمقراطية؛ لذا ضغطت الولايات المتحدة من أجل تنظيم انتخابات نزيهة في عدة بلدان، منها مصر.
تجاوب مبارك مع تلك الحملة، وكان الانفتاح السياسي الذي سمح لجماعة الإخوان بتحقيق نسبة تقارب ٢٠٪ من مقاعد برلمان ٢٠٠٥، لم تكن تلك الكتلة لتعرقل تحكمه في السلطة التشريعية، لكنه أراد إرسال رسالة إلى حلفائه في واشنطن؛ مفادها أن الديمقراطية ستأتي حتما بالإسلاميين.
في فبراير ٢٠٠٥ عُدلت المادة ٥٦، التي تحدد عملية انتخاب الرئيس، فسمحت بإقامة أول انتخابات رئاسة في تاريخ مصر، وبالفعل، في خطابها بجامعة القاهرة يوم ٢٠ يونيو ٢٠٠٥ وقفت كونداليزا رايس، تتفاخر بما حققته حكومتها من ضغوط على مبارك، حين قالت: “على الحكومة المصرية أن تفي بالوعد الذي قطعته إلى شعبها، وإلى العالم بأسره بمنح مواطنيها حرية الاختيار، ويجب أن تفي الانتخابات البرلمانية والرئاسية في مصر بمعايير موضوعية، وأن تكون حرة، وتحافظ على حرية المعارضة، وألا يتم ممارسة العنف والترهيب خلالها”.
تحرك أيمن نور في إطار ذلك الصراع بين مبارك وواشنطن مستفيدا منه، وقد لاحقته الاتهامات من الطرفين، إذ اتهمته أطياف من المعارضة بالتعاون مع السلطة، التي تستخدمه لتجميل وجه النظام أمام الولايات المتحدة، واتهمته الحكومة بأنه رجل أمريكا في مصر.
حتى الآن، لا يتضح أي دور تلعبه واشنطن في انتخابات ٢٠٢٤، بل إن كلمة واشنطن وحدها لم تعد بذات الأهمية التي كانت عليها فيما قبل، إذ ظهرت بعد الربيع العربي قوى جديدة تتحكم في الشرق الأوسط، ودخلت دول الخليج وروسيا وتركيا إلى ساحة التأثير.
في حالة مصر، كانت دول الخليج هي الداعم الأول لنظام السيسي، منذ الانقلاب على الرئيس الراحل محمد مرسي عام ٢٠١٣، وعلى مدار عشرة سنوات، مرت العلاقة بين مصر والخليج بأطوار عدة، جعلت الحياة الاقتصادية والقرار السياسي في مصر مرهون بالمواقف الخليجية.
ما يعني أن الطنطاوي يتحرك في مناخ شديد الخطورة، حيث لا ضغوط تُمارس من أجل ضمان نزاهة الانتخابات وديمقراطيتها، أو السماح لمرشحي المعارضة الأقوياء بخوض الانتخابات.
هل الأمل في النتيجة أصلًا؟
ربما يبدو الأمل في أن تأتي الانتخابات الرئاسية المُقبلة ببديل عن السيسي، سواء كان الطنطاوي أو غيره، هو شطح من الخيال، فمن خلال انتخابات ٢٠١٨ كشف السيسي أنه مُنفتح على كل الخيارات فيما يتعلق بإقصاء معارضيه، ولو كانوا من قادة المؤسسة العسكرية، وهو ما حدث مع سامي عنان وأحمد شفيق.
وفيما يتعلق بالعملية الانتخابية وضمان نزاهتها فهذا أمر يبدو بعيد المنال كذلك، إذ إن المؤسسة القضائية باتت في أضعف عصور استقلالها، وتتحكم المؤسسة العسكرية اليوم في كل شيء، وتجمع في يدها السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية.
في ظل ذلك كله، لا يُرجى بديل، ولكننا لا ننسى أنه حين فاز مبارك في انتخابات ٢٠٠٥ بنسبة ٨٨٪ كان لهذا مدلول مهم، إذ حصد مبارك وقتها ٦.٣ ملايين صوت فقط، من بين ٣٢ مليون مصري كان يحق لهم التصويت، وهو ما ترجمه البعض إلى انخفاض شعبيته، وقرب نهاية عصره.
وفي أعقاب الانتخابات، اعتقل أيمن نور مرة أخرى، ولكنه كان قد أعطى أملًا بإمكان تحدي السلطة، والإثبات للعالم أن في مصر من بإمكانه تحدي النظام، وأن الشعب ليس مع مبارك وابنه، وقد كانت انتخابات ٢٠٠٥ الرئاسية والبرلمانية محطة مهمة في تقويض شرعية مبارك ونظامه، وفشل مشروع التوريث، لتندلع الثورة بعد ذلك.
[1] ثورة مصر، من جمهورية يوليو إلى ثورة يناير: عزمي بشارة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى 2016، ص248
[2] مقابلة مع جورج اسحق، عضو ومؤسّس للحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية)، 16 يونيو 2005، معهد كارنيجي.
[3] الشعب يريد، بحث في جذور الانتفاضة العربية: جلبير الأشقر، دار الساقي، الطبعة الأولى 2013، ص 117.
تعليقات علي هذا المقال