الديمقراطية هي نظام حكم هدفه تحقيق تمثيل سياسي للمجتمع، من خلال إشراكه في اختيار ممثليه، وقد أخذت أنظمة الحكم في الدول تتغير إلى نظام ديمقراطي بداية من عام 1800، لتتحول من أنظمة شمولية مغلقة إلى أنظمة شمولية انتخابية أو ديمقراطيات انتخابية، سواء كانت ليبرالية أو فيدرالية أو تشاركية، ثم أخذ هذا المنحنى يتصاعد بعد الحرب العالمية الثانية.[1]
وجدت العديد من النظم السياسية الشمولية نفسها أمام موجة تغيير كبيرة في العالم، تعطي مساحة للشعب في الاختيار، كما أسهمت العولمة وتطور وسائل الاتصال والإعلام؛ في تنامي تأثير الدول الغربية الثقافي والديمقراطي على الجماهير، التي تعيش في الدول الشمولية، أو تحت أنظمة حكم استبدادي.
النظم الدكتاتورية وحيلة الديمقراطية الزائفة
التأثير في سلوك وأفكار الجماهير كان أحد العوامل الضاغطة على تلك النظم السياسية، وهو ما جعلها تأخذ خطوات، سواء في اتجاه الإصلاح، أو الاستبداد، أو التكيف وتطوير نموذج ديمقراطي شكلي، وهو ما أطلق عليه اسم “الديمقراطية الزائفة” أو “الديمقراطية غير التمثيلية”.
هذه الديمقراطية الزائفة عبارة عن نظام حكم سياسي يحتوي على عناصر ديمقراطية، مثل الانتخابات والمشاركة السياسية، لكنه يفتقر إلى المبادئ الأساسية لديمقراطية تمثيلية حقيقية، كما أنها عملية مفرغة من مضمونها وجوهرها، المتمثل في مناخ عمل عام منفتح، حيث تستطيع كل مكونات المجتمع المشاركة والتنافس على السلطة دون تمييز.
في الديمقراطية الزائفة تلعب مؤسسات الدولة دورا مهيمنا على العملية الديمقراطية من خلال السيطرة والتحكم في مسارها، أو تخريبها لصالح تركيز السلطة في أيدي فئة قليلة.
ما يجعل مشاركة الشعب ذات طابع صوري في العملية الديمقراطية، وهو ما يقلل من دور الناس في المشاركة بعملية صناعة القرار، أي أنه نظام ديمقراطي من حيث الشكل لا المضمون، إذ لا يقدم خيارات وبدائل تغيير جادة.
لكي يتم الاعتراف بنظام ما أنه ديمقراطي، يجب أن يتمتع بضوابط وتوازنات مؤسسية تخضع لها الأجهزة التنفيذية، خاصة الشرطة وقطاع الأمن، كما يجب أن يوفر قيما أساسية، مثل: حرية التعبير، وحرية الصحافة، والشفافية والمساءلة، والحق في الاحتجاج والتظاهر، والحق في التصويت والترشح في الانتخابات. وإن لم تتوفر هذه النقاط الأساسية في النظام السياسي فهو ليس ديمقراطيا.
6 خصائص تعرف بها الديمقراطية الزائفة
تتسم الديمقراطيات الزائفة وغير التمثيلية بالخصائص التالية:
- خيارات الجمهور محدودة: أي أن النظام الانتخابي لا يسمح إلا بدخول أفراد محددين، ويعمل القضاء أو لجنة يجري تشكيلها لهذا الغرض؛ على استبعاد من لا ترغب بهم السلطة.
ولعل أفضل مثال على هذا هو ما يفعله مجلس صيانة الدستور في إيران، إذ يعتبر المجلس أعلى هيئة تحكيم هناك، ويتمتع بصلاحيات واسعة في استبعاد المرشحين من الانتخابات الرئاسية، وهو مجلس غير منتخب يعين المرشد الأعلى للثورة الإيرانية نصف أعضائه.[2]
ينطبق هذا أيضا على ما فعلته لجنة الانتخابات المركزية في روسيا، حين استبعدت المعارض أليكسي نافالني من الترشح في الانتخابات الرئاسية.[3]
- السيطرة على وسائل الإعلام: السيطرة على الإعلام هو إحدى السمات الرئيسية للديمقراطية المزيفة.
وفي بعض الحالات، قد لا تسيطر الحكومة سيطرة كاملة على وسائل الإعلام، لكنها تمارس التأثير الأكبر، كما تعمل بعض الأنظمة على تزوير استطلاعات الرأي، وقد يخفي المواطنون آراءهم الحقيقية خوفًا من بطش السلطة، وهو ما يشعر الناخبين بالعزلة وعدم التأثير.[4]
وقد سببت منصات التواصل الاجتماعي إرباكا لتلك الأنظمة؛ بسبب ضعف سيطرتها على المحتوى الذي يقدمه الجمهور عبر تلك المنصات، إذ يصعب عليها مواكبة التطور السريع لهذه المنصات.
وهو ما اضطر العديد من الأنظمة إلى اتباع أساليب جديدة للسيطرة على الرأي العام، سواء عبر تشتيت المتابعين من خلال الحسابات المزيفة، واستهداف بعض الآراء، ما يسهم في تسميم الرأي العام[5]، أو عبر سياسة الترهيب والترغيب تجاه المؤثرين الأكثر متابعة، لا سيما على منصات الفيديو.
ينطبق ذلك على رجل السعودية القوي محمد بن سلمان الذي اجتمع مع المؤثرين على منصات “سناب شات” ذات الشعبية الكبيرة في المملكة، بغرض تحديد نوع المحتوى الذي يجب عليهم بثه للجمهور. في نفس الوقت، كانت الشرطة تستجوب بعضهم بسبب الآراء التي نشروها على حساباتهم.[6]
ورغم ذلك، ما تزال منصات التواصل الاجتماعي تمثل عامل ضغط على الأنظمة الشمولية التي تحاول السيطرة على الرأي العام.[7]
- مستويات منخفضة من المشاركة السياسية: إحدى السمات المشتركة في الديمقراطيات الزائفة أنها لا تلقى اهتماما من الجمهور؛ لذا غالبا ما تشهد عزوفا عن التصويت، ونسب مشاركة منخفضة في الانتخابات بالمقارنة مع الكتلة التصويتية في المجتمع.[8]
وتتلاعب بعض الحكومات بالانتخابات من خلال التزوير، أو ترهيب الناخبين بالاعتداء عليهم، أو وضع قوانين تقييدية لقمع المعارضة، على حساب الحزب الحاكم أو الموالين للسلطة.
ويجب التنويه أنه لا يشترط أن يكون مصدر التهديد هو جهاز أو هيئة حكومية، إذ يمكن أن يمارس طرف أو حزب سياسي عملية ترهيب، من خلال بث خطاب عدائي على منصات التواصل الاجتماعي، كما حدث في الانتخابات الأمريكية الأخيرة،[9] أو عبر ممارسة العنف أمام اللجان بهدف تقويض الأمن، كما فعل الحزب الوطني المنحل، قبل ثورة 25 يناير في مصر.
هذه الحالة هي نتاج غياب متعمد للأجهزة الأمنية، المنوط بها حماية المواطنين خلال العملية الانتخابية، لكنها معبرة في الوقت نفسه عن طبيعة النظام السياسي.
- تدني الثقافة السياسية: تلعب الثقافة السياسية دورًا مهمًا في الحفاظ على الديمقراطيات المستقرة، وهي خليط من القيم؛ تتشاركه الكتلة الأكبر من المجتمع[10]، كما أنها عملية معقدة تتطلب فترة زمنية طويلة لتشكيل هذه الثقافة، التي عادة ما تستند على الثقة في استقلال مؤسسات الدولة وخاصة القضاء.
- تراجع الثقة في النظام: غالبا ما يكون هذا التراجع متأثرا بعمليات التضليل المتعمد، عبر نشر الإشاعات والأخبار الكاذبة، ما يقوض ثقة الجمهور في النظام الديمقراطي والعملية الانتخابية.
أحد الأمثلة على تراجع الثقة في النظام، هو ما حدث في الانتخابات الأمريكية الأخيرة، التي أظهر استطلاع أجرته جامعة “كوينيبياك”؛ أن 76٪ من المشاركين فيها يعتقدون أن عدم الاستقرار السياسي داخل الدولة؛ يمثل خطرًا أكبر على الولايات المتحدة من الخصوم الخارجيين، وكان أحد دوافع انخفاض الثقة في النظام السياسي هو انتشار المعلومات المضللة، التي تهدف -عمدا- إلى تعطيل العملية الديمقراطية، وهو ما يربك الناخبين ويصنع مناخا عاما سيئا سلبيا تجاه العملية الانتخابية ذاتها.[11]
- القوانين المقيدة: يمكن للحكومات أن تسن قوانين تجعل من الصعب على مجموعات معينة من الجمهور التصويت في الانتخابات، مثل: اشتراط قوانين صارمة بشأن تحديد هوية الناخبين، أو تقليص أوقات التصويت، أو تقييد التسجيل، أو تطهير قوائم الناخبين.
يمكن أن تؤثر هذه القوانين تأثيرًا فعالًا في استهداف الأقليات العرقية، أو الفقراء، أو الناخبين الصغار والكبار[12]، كما كان يحدث في أمريكا من وضع تدابير قانونية تهدف لحرمان الأمريكيين الأفارقة حرمانًا ممنهجًا؛ للحفاظ على تفوق البيض، ولم يتم الطعن قانونًا في هذه الممارسات التمييزية وتفكيكها حتى إقرار قانون حقوق التصويت عام 1965.[13] وهناك مثال آخر على استبعاد الفقراء من الانتخابات، عبر رفع أسماء من لا يدفعون الضرائب من قوائم الناخبين.
نقد الديمقراطية: أمريكا نموذجا
أغلب النظم الديمقراطية يمكن نقدها في العديد من الآليات والقواعد المنظمة لها.
على سبيل المثال، غالبًا ما يشار إلى أمريكا باعتبارها ديمقراطية تمثيلية، ينتخب المواطنون عددا من الأفراد لتمثيل مصالحهم، واتخاذ القرارات نيابة عنهم، ويقوم نظام الحكم على مبدأ الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، لتحقيق التوازن فيما بينها ومنع تركيز السلطة، كما أنها تضم عناصر من النظام الفيدرالي.
رغم ذلك، هناك أوجه نقد توجه إلى النظام الديمقراطي، مثل:
- التأثير على النظام الانتخابي: يحدث هذا من خلال إعادة ترسيم حدود الدائرة الانتخابية لصالح حزب معين، بحيث يأخذ مرشح الحزب الفائز كل الأصوات في الانتخابات الرئاسية، وهي عملية تتم كل عشر سنوات ويكون لها تأثير مهم في نتائج الانتخابات.[14]
- جماعات الضغط وتمويل الحملات: إذ يلعب الأغنياء دورا في وضع السياسات الاقتصادية للحكومة، من خلال تقديم الدعم المالي في الحملات الانتخابية، ويكون الدعم مربوطا بأجندات محددة.
ولعل المثال الأبرز هو لوبي صناعة السلاح في أمريكا، حيث تعمل تلك اللوبيات في التأثير والتلاعب بالنظام؛ من خلال إغراق السياسيين بالتبرعات خلال الحملات الانتخابية.
وقد تضاعفت إسهامات المرشحين الفيدراليين من صناعة الأسلحة ثلاث مرات بين عامي 2002 و2020، وخصص المصنعون العسكريون 283 مليون دولار للمرشحين من 2001 إلى 2020.[15] وتوظف صناعة الأسلحة شبكة واسعة من جماعات الضغط، والموظفين الحكوميين السابقين، لدفع مصالحهم التجارية إلى أعضاء الكونجرس، وقد أنفق المصنعون نحو 2.5 مليار دولار على مدى العقدين الماضيين.[16]
- سيطرة عدد قليل من رجال الأعمال على الإعلام: ويكون تأثيره عبر توجيه الناخبين، وبث الإشاعات والمعلومات المغلوطة، أو شن حملات إعلامية منظمة ضد المرشحين الذين يهددون مصالحهم.
وتسيطر 6 شركات فقط على نحو 90٪ من الإعلام في أمريكا، ما يجعل من السهل التحكم في الرأي العام، وتوجيه المواطنين نحو موضوعات محددة.[17]
- الاستقطاب السياسي: تعيش أمريكا استقطابًا سياسيًا متزايدًا، مع تنامي الانقسامات الأيديولوجية بين الحزبين الرئيسيين، ما ينعكس على سن التشريعات ورسم السياسات الخارجية؛ ليميل الاهتمام نحو التنافس على المصالح الحزبية، على حساب تلبية الاحتياجات الأوسع للمواطنين.
وهناك العديد من النقاط التي تظهر مساوئ وعيوب النظام الديمقراطي الأمريكي، وهي أمور يمكن أن تتغير، سواء بالإيجاب أو السلب، لكن مع ذلك يتمتع النظام أيضًا بنقاط قوة، مثل: توازن السلطات، والالتزام بالحريات الفردية، لذا لا يمكن وضع هذا النقد في سياق مقارن مع الأنظمة الديمقراطية المزيفة أو غير التمثيلية.
مصر: نظام شمولي و تمثيل الديمقراطية
تلك العوامل والخصائص إن طبقناها على النظام في مصر؛ نجد أنه نظام شمولي غير تمثيلي، يأخذ من العملية الانتخابية الشكل ويترك المضمون.
ويتحكم في تحديد من له الحق بالترشح في الانتخابات، عبر استبعاد المرشحين غير المرغوب فيهم، بواسطة لجان القضاء التي تخضع -كليا- للسلطة التنفيذية.
كما لا يمكن أن نضع خطوطا فاصلة بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ما يجعل من الصعب على المعارضة ضمان سير العملية الانتخابية سيرًا محايدًا.
أما القانون فنجد أنه يطبق تطبيقا انتقائيا، يخدم السلطة ويحمي مصالح النخب الحاكمة، ويستهدف المعارضين السياسيين والمنافسين لها.
كذلك تتحكم الأجهزة الأمنية بالمحتوى الذي تبثه وسائل الإعلام، إذ تسيطر عليه شركات تابعة للمخابرات العامة، بالإضافة إلى مجموعة من رجال الأعمال المحسوبين على السلطة.
ويغلب الصوت الواحد على المجال العام، فيما تغيب التعددية السياسية وحرية التعبير والقدرة على الاحتجاج.
المصادر
[1] Lührmann, Anna, Marcus Tannenberg, and Staffan I. Lindberg. “Regimes of the world (RoW): Opening new avenues for the comparative study of political regimes.” Politics and governance 6, no. 1 (2018): 60-77. https://www.cogitatiopress.com/politicsandgovernance/article/view/1214/1214
[2] محمد رحمن بور، غضب من استبعاد الإصلاحيين.. من المرشحون السبعة للرئاسة الإيرانية؟، الجزيرة نت، مايو 2021، https://shorturl.at/jmxS5
[3] Donaj, Łukasz, and Natalia Kusa. ““Non-campaign of a non-candidate”–Alexei Navalny in the 2018 presidential election in Russia.” Środkowoeuropejskie Studia Polityczne 3 (2018): 21-34. https://www.ceeol.com/search/article-detail?id=715095
[4] Batura, Alyena. “How to Compete in Unfair Elections.” Journal of Democracy 33, no. 4 (2022): 47-61. https://www.journalofdemocracy.org/articles/how-to-compete-in-unfair-elections/
[5] BBC Monitoring, Online trolls and fake accounts poison Arab social media, BBC News, Aug 2018, https://www.bbc.com/news/technology-45372272
[6] Stephanie Kirchgaessner, Saudis accused of using Snapchat to promote crown prince and silence critics, The Guardian, Jul 2023, https://www.theguardian.com/technology/2023/jul/18/snapchat-saudi-arabia-ties
[7] شادي ابراهيم، تطور أدوات المجتمع أمام السلطة: التراكمات الخفية والمفاجآت الكبرى، مجلة سبل، أكتوبر 2022، https://subulmagazine.com/?p=1241
[8] Richard Wike, Janell Fetterolf, Shannon Schumacher, and J.J. Moncus, Appendix A: Classifying democracies, Power Research, Oct 2021, https://www.pewresearch.org/global/2021/10/21/spring-2021-democracy-appendix-a-classifying-democracies/
[9] Lauren Miller, and Wendy R. Weiser, The Election Deniers’ Playbook for 2024, Brennan Center For Justice, May 2023, https://www.brennancenter.org/our-work/research-reports/election-deniers-playbook-2024
[10] Inglehart, Ronald, and Christian Welzel. “Political culture and democracy.” In New directions in comparative politics, pp. 141-164. Routledge, 2018. https://www.jstor.org/stable/4150160
[11] Sanchez, Gabriel R., Keesha Middlemass, and Aila Rodriguez. “Misinformation is eroding the publics confidence in democracy.” (2022). https://www.brookings.edu/articles/misinformation-is-eroding-the-publics-confidence-in-democracy/
[12] Wendy R. Weiser، Alicia Bannon, Democracy: An Election Agenda for Candidates, Activists, and Legislators, May 2018, Brennan Center For Justice, https://www.brennancenter.org/our-work/policy-solutions/democracy-election-agenda-candidates-activists-and-legislators
[13] brian Duignan, voter suppression election strategy, Britannica, Jun 2023, https://www.britannica.com/topic/voter-suppression
[14] States are redrawing every congressional district in the U.S. Here is where we stand, Politico, Sep 2022, https://www.politico.com/interactives/2022/congressional-redistricting-maps-by-state-and-district/
[15] Stephen Semler, How the Military-Industrial Complex Gets Its Power and Harms Workers, in 6 Graphs, Jacobin, Oct 2022, https://jacobin.com/2022/10/pentagon-budget-military-contractors-lobbyists-biden
[16] Hartung, William D. “Promoting Stability or Fueling Conflict? The Impact of US Arms Sales on National and Global Security.” Quincy Institute for Responsible Statecraft (2022). https://quincyinst.org/report/promoting-stability-or-fueling-conflict-the-impact-of-u-s-arms-sales-on-national-and-global-security/
[17] Louise, Nick. “These 6 corporations control 90% of the media outlets in America. The illusion of choice and objectivity.” Tech Startups (2020). https://techstartups.com/2020/09/18/6-corporations-control-90-media-america-illusion-choice-objectivity-2020/
تعليقات علي هذا المقال