هل انتهت الحالة الثورية في مصر أم من الممكن تكرارها؟ يصعب الإجابة على سؤال: إذا كانت الحالة الثورية التي وقعت في 2011 يمكن أن تتكرر أم لا، بشكل قطعي، وهو تقدير فشلت العديد من الأجهزة الأمنية والاستخبارية في تقديره بشكل صحيح، كما أشار الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما؛ إلى فشل الأجهزة في تقدير وقوع الثورة في الدول العربية وانتقالها من تونس إلى مصر، أو عدم إلمام مستشارو الرئيس بتلك التقديرات.[1]
لا يختلف الأمر عند الأجهزة الأمنية المصرية، فقد قدرت مباحث أمن الدولة أعداد المتظاهرين يوم 28 يناير بنحو خمسة آلاف متظاهر بحسب ما أشار له اللواء حسن عبدالرحمن في تقرير لجنة تقصي الحقائق.[2]
كما أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية فشلت في تقدير الموقف آنذاك، وطالب أعضاء في الكنيست بتشكيل لجنة تحقيق بسبب الإخفاق الاستخباري في تقدير الموقف،[3] ولا يختلف ذلك أيضًا عن فشل أجهزة الاستخبارات الأوروبية في تقدير خروج الثورات، هذا الفشل المركب ينم عن جهل بالتطورات المجتمعية، لا سيما فيما يخص تطور أدوات التواصل ومدى قدرتها وتأثيرها.
ثورات التواصل الاجتماعي
أخذت أدوات التغيير والتعبير عن الرأي مطلع القرن الحادي والعشرين تتطور بشكل مضطرد، حيث ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في إنشاء قنوات اتصال بين الشباب الطامح للتغيير والشعوب.
وحققت وسائل التواصل الاجتماعي سرعة في الوصول إلى المعلومات والحصول عليها والتفاعل معها في آن واحد، واستطاع العديد من قطاعات المجتمع متابعة الأحداث والتفاعل معها، وهو الأمر الذي عزز من حركة الشباب على الأرض في تنظيم الاحتجاجات والمظاهرات، وهو ما دفع جميع الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والجماعات إلى استخدامها كأداة لمخاطبة الشباب والكتل الفاعلة في المجتمع.
كان الإقبال الكبير على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي سببه سيطرة الدولة، ومجموعة من رجال الأعمال المقربين للسلطة على وسائل الإعلام المرئية والمطبوعة سواء الحكومية أو الخاصة، فقد ساعد الانترنت الفئات المعارضة للنظم المستبدة وسياساتها القمعية المنتهكة لحقوق الإنسان على نشر آرائهم، وتوجيه النقد لسياسات الدولة.
كما سعت جميع الكيانات المجتمعية والسياسية إلى توظيف أدوات التواصل الاجتماعي، من أجل الوصول لأكبر شريحة ممكنة من الشباب عبر خطابها الإعلامي المباشر في ظل الحصار المفروض عليها في القنوات والأدوات الإعلامية التقليدية.
بدأت الموجة الأولى مطلع القرن الحادي والعشرين باستخدام المدونات، ثم تبعها موجة أخرى باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، وتحديدا فيس بوك وتويتر، حيث مثّل تطور تكنولوجيا الاتصال نقطة إيجابية للشباب في تنظيم أنفسهم وإطلاق الدعوات وحشد الجماهير ضد الأنظمة الاستبدادية والشمولية في منطقة الشرق الأوسط.[4]
وعلى الرغم من اختلاف المآلات والنتائج بين ثورات مصر وتونس وسوريا وليبيا واليمن بسبب سياقات داخلية وأخرى دولية، إلا أن عامل سرعة انتشار المعلومة، وسرعة الاتصال، كانت عنصرًا جديدًا في الصراع، ساهمت تلك الأدوات في تنظيم حالة الغضب، ونقله من الساحة الافتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات إلى الشوارع والميادين، وأدت في النهاية إلى سقوط تلك الأنظمة.
وساهمت التكنولوجيا في رفع الوعي الجمعي للشعوب العربية،[5] فأصبحت مواقع التواصل الاجتماعي عاملًا مهمًا لا يمكن إغفاله، وذلك لتأثيرها المباشر والمتراكم على سلوك الجماهير وحضورها كفاعل رئيسي في عملية التغيير وصناعة القرار.
ففي مصر تبلغ كتلة الشباب ما دون 35 عامًا نسبة 67.2% من إجمالي تعداد السكان البالغ 101 مليون نسمة لسنة 2019، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء التابع للدولة[6]، فيما ترتفع أعداد مستخدمي شبكة الإنترنت بمعدلات سريعة بعد الثورة.
حيث بلغ عدد مستخدمي الإنترنت 54.7 مليون شخص عام 2020 في زيادة قدرها 22% عن عام 2019، وبعدد يصل إلى 9.8 مليون مستخدم، بينما يبلغ تعداد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي 42 مليون شخص[7]، وبمقارنتها مع إحصائيات 2006 سنجد أن نسبة أعداد المستخدمين من إجمالي تعداد الشعب كانت 7% فقط[8]، فيما أصبح عدد مستخدمي الإنترنت من الشعب في 2020 أكثر من نصف التعداد.
لقد كانت الثورة عاملًا مهمًا في ارتفاع عدد المستخدمين، وتَطَلُع الشباب إلى أن يكون عنصرا فاعلًا عبر صناعة المحتوى، وكسر احتكار الدولة وسيطرتها على الإعلام، والأهم هو وجود قناعة بأنها تمثل أداة من أدوات التغيير.
لقد أدت إمكانية الوصول لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات على نطاق واسع إلى إنشاء طبقة فرعية جديدة للتفاعلات والأنشطة الافتراضية، وهو ما انعكس بحدوث تحول جذري في الحياة اليومية للمجتمع، فقد أنشأ ذلك نظاما بيئيا معقدا في حد ذاته، حيث يبلغ حجم التفاعلات الافتراضية اليومية بلايين التفاعلات، كما يدخل ملايين المستخدمين إلى قواعد البيانات والشبكات[9]، وبهذا صنعت وسائل التواصل الاجتماعي نمط حياة مختلفا تمامًا عن نمط ما قبل الثمانينيات والتسعينيات، وكان عدم إدراك النظم الشمولية في المنطقة العربية لحجم التأثير الذي يمكن أن تصنعه وسائل التواصل الاجتماعي سببا مباشرًا وغير مباشر في سقوط هذه الأنظمة.
كما يمكن أن نلاحظ ارتفاع الترابط والتواصل بين المجتمعات عالميًا بسبب التطور التكنولوجي المتسارع، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على التوصيف الأمني للقضايا، حيث تحولت القضايا المحلية والوطنية إلى قضايا عابرة للحدود، يتفاعل معها مكونات غير محلية سواء جهات رسمية حكومية، أو غير رسمية، أو تنظيمات وكيانات مختلفة.[10]
الظواهر الناشئة: حول ظاهرة حضور الشعب
إن الرابط بين ثورات الربيع العربي يتمثل في حضور المجتمع ومكوناته كفاعل مباشر في المشهد، الأمر الذي تسبب في إرباك الدول الإقليمية وعلى رأسها إسرائيل التي كانت تشاهد موجات الربيع العربي في رعب،[11] وعلى وجه الخصوص الثورة المصرية.[12]، حيث ردد المتظاهرون في ميدان التحرير أكثر من مرة هتافات مثل “على القدس رايحيين شهداء بالملايين”، و”بالروح بالدم نفديك يا أقصى”[13]، كما تعرض مقر السفارة الإسرائيلية في القاهرة للاقتحام خلال مظاهرات 9 سبتمبر 2011[14]، وظهر الدعم الشعبي للقضية الفلسطينية بشكل واضح خلال حرب غزة عام 2012، وانعكس ذلك أيضا على المستوى السياسي والدبلوماسي، حيث زار رئيس الوزراء المصري آنذاك هشام قنديل قطاع غزة كأول زيارة من نوعها، وكذلك فعل وزير الخارجية التونسي وقتها رفيق عبد السلام، بجانب دخول القوافل الطبية التي توافدت من كل البلدان العربية والإسلامية، والتي شارك في تنظيمها الاتحادات الطلابية والأحزاب والجمعيات غير الحكومية، أنشأت الثورة مجموعة من الظواهر الجديدة في المنطقة.
حينها أخذت بعض الأنظمة في الإقليم تتعامل بارتباك وتَرَدُّد إزاء هذه الظواهر الجديدة، فيما اتخذت أخرى قرارات وسياسات تفتقر لفهم وإدراك طبيعة المظاهرات التي خرجت، لكن في المجمل نستطيع أن نقول أن ثورات الربيع العربي اتسمت بحضور الجماهير في المشهد كفاعل رئيسي ومحرك للأحداث، ما دفع الأنظمة الشمولية في منطقة الشرق الأوسط للعمل على تطوير أدوات مراقبة مواقع التواصل الاجتماعي، وأنشأت إدارات متخصصة داخل كل وزارة ومؤسسة للتواصل مع المجتمع من أجل مراقبة المجتمع، ورصد ما يدور من نقاشات وموضوعات مرتبطة بها بجانب تلبية الخدمات.
ويمكن أن نلحظ حجم الحضور القوي والفاعل للأجهزة الأمنية المصرية في التعاطي السريع مع أي مشكلة تُثار في مواقع التواصل الاجتماعي، حرصا من الدولة على إثبات حضورها أمام المجتمع والعمل على حل المشكلات من بدايتها قبل أن تتفاقم أو تتراكم.
ومع ذلك فإن تنامي أعداد مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي خاصة الاتجاه الجديد الصاعد والمتمثل في موقعي انستجرام وتيك توك، وتقديم المحتوى المرئي، يجعل من عملية رصد وتحليل المعلومات والتعاطي معها أمرًا معقدًا يتطلب إمكانات أكبر وقدرات عالية، قد تعجز أجهزة الدولة في التعاطي مع التطورات المتسارعة، الأمر الذي يجعل من حالة الثورة في الشارع، أو تكرار خروج مظاهرات واحتجاجات واسعة أمرًا يمكن أن يتحقق في ظل تنامي الأزمات الاقتصادية والمعيشية، واتساع دائرة الفقر، وانغلاق مجال العمل العام.
الخلاصة هنا؛ أن الجماهير أصبحت فاعلًا رئيسيًا بعد الثورات.
المصادر:
[1] صباح أيوب، سجال البيت الأبيض والـ«سي آي إي»: لماذا لم نتوقّع الثورات؟، جريدة الأخبار اللبنانية، فبراير 2011، https://al-akhbar.com/International/84206
[2] أحمد مولانا، دهاليز الأمن المركزي .. النشأة والمكونات (1969 – 2011)، منتدى العاصمة للدراسات السياسية والمجتمعية، يناير 2021، https://bit.ly/3DHlAjA
[3] محمود محارب، إسرائيل والثورة المصرية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، إبريل 2011، https://www.dohainstitute.org/ar/PoliticalStudies/Pages/Israel_and_the_Egyptian_Revolution.aspx
[4] Wilson, Mark I., and Kenneth E. Corey. “The role of ICT in Arab spring movements.” Netcom. Réseaux, communication et territoires 26-3/4 (2012): 343-356.
[5] Alhindi, Waheed Ahmed, Muhammad Talha, and Ghazali Bin Sulong. “The role of modern technology in arab spring.” Archives des sciences 65, no. 8 (2012): 101-112.
[6] Center Agency for public mobilization and statistics, Population Estimates By Sex and Age Group 1/7/2019, https://www.capmas.gov.eg/Pages/Publications.aspx?page_id=5109&Year=23448
[7] https://datareportal.com/reports/digital-2020-egypt
[8] https://www.internetworldstats.com/af/eg.htm
[9] Kavalski, Emilian, ed. World politics at the edge of chaos: Reflections on complexity and global life. SUNY Press, 2015. P 213.
[10] Kavalski, Emilian, ed. World politics at the edge of chaos: Reflections on complexity and global life. SUNY Press, 2015. P 214.
[11] Sabry, Mohannad. Sinai: Egypt’s linchpin, Gaza’s lifeline, Israel’s nightmare. Oxford University Press, 2015.
[12] mahmoud muhareb, israel and the egyptian revolution, Arab center for research & Policy studies, 2011, https://www.dohainstitute.org/en/PoliticalStudies/Pages/Israel_and_the_Egyptian_Revolution.aspx
[13] حديث الثورة – التوتر المصري الإسرائيلي، قناة الجزيرة، 2011 أغسطس، https://www.youtube.com/watch?v=Uiers07pw3A
[14] BBC, Egyptian protesters break into Israeli embassy building, 2011 Sep 10, https://www.bbc.com/news/world-middle-east-14862159
تعليقات علي هذا المقال