يستهل جافيير بلاس وجاك فاركي كتابهما “عالم للبيع: المال، القوة، والتجار الذين يقايضون موارد الأرض” بقص دور شركة ڤيتول، عملاق النفط، في مد ثوار ليبيا عام ٢٠١١ بالوقود والمال مقابل سيطرتها على حقول النفط الواقعة تحت سيطرة الثورة.
كانت هذه الصفقة برعاية بريطانيا وأمريكا، اللتان منعتا قوات القذافي من الحصول على وقود أو أموال في مقابل بيع النفط، فقد كان توفر الوقود للثوار وحرمان قوات القذافي منه عاملا حاسما في انتصار الثورة، مثلما كان الوقود العامل الأساسي في هزيمة روميل، ثعلب الصحراء، في الحرب العالمية الثانية بعد نفاد وقود قواته.
مع تفجيرات قوات القذافي المتتالية لأنابيب النفط لم يكن لدى الثوار وسيلة لدفع المقابل لشركة ڤيتول، وكان استمرار ڤيتول يعني تكبدها خسائر ضخمة إذا ما فشل الثوار، لاسيما وأن الثوار مدينون لڤيتول بما يزيد عن مليار دولار، فلولا دور ڤيتول لانهزم الثوار قطعا، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يغير فيها تاجر تاريخ ومصير الشرق الأوسط ولن تكون الأخيرة.
إن صفقات ڤيتول في ليبيا وأثرها يدل على القوة التي يمتلكها تجار السلع المادية (Commodity Traders) في العالم الحديث، وهم من يتاجرون في السلع ذاتها، وليسوا منتجين أو مستهلكين لها بالأساس.
إن البشر جميعا، سواء شعروا أم لم يشعروا، هم زبائن هؤلاء التجار، فهم وراء استهلاكنا لأي سلعة من السلع، بدءا من القهوة ودقيق الخبز حتى وقود السيارات والمصانع، فهناك شبكة ضخمة من التجارة العالمية التي تدور حول الموارد الطبيعية، يتحكم بهذه الشبكة مجموعة من تجار السلع من مكاتبهم في سويسرا أو الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية، حتى أصبح هؤلاء التجار تروسا أساسية في الاقتصاد المعاصر، لكن لم تتم دراستهم أو الانتباه لهم على نحو كافٍ.
لقد بات هؤلاء التجار مركزا عالميا لمقايضة السلع الأساسية، ولا يتوقف تأثيرهم عند حدود الاقتصاد، إذ إن سيطرتهم على الموارد الاستراتيجية للعالم جعلتهم لاعبين سياسيين بالغي القوة، ولفهم تداخل وتفاعل المال والقوة في العالم الحديث أو كيف يتدفق النفط والمعادن إلى خارج الدول الغنية في حين تتدفق الأموال إلى جيوب الأباطرة والكليبتوقراطيين[1]، لابد من فهم تجار السلع.
اقتصاد الأزمات والحروب
عادة ما يقول هؤلاء أنهم لا علاقة لهم بالسياسة، وأنهم يسعون فقط إلى الربح لا القوة السياسية، غير أن ثمة شك في هذا، فكما رأينا في حالة ڤيتول هم من يرسمون التاريخ.
في العراق؛ ساعد هؤلاء التجار صدام حسين على بيع نفطه، متجاوزا العقوبات المفروضة عليه، وفي كوبا تبادلوا السكر بالنفط مع فيديل كاسترو، وساعدوا على إبقاء الثورة الشيوعية متقدة، كما باعوا سرا ملايين الأطنان من القمح والذرة الأمريكي إلى الاتحاد السوڤيتي في أوج الحرب الباردة.
إن هؤلاء التجار مستعدون للمغامرة والقيام بالتجارة في أماكن وظروف لا يجرؤ فيها غيرهم على ذلك، ورغم زيادة أهميتهم في العقود الأخيرة إلا أن عددهم لا يزال قليلا، إذ إن نسبة ضخمة من تجارة الموارد عبر العالم تتم عبر شركات قليلة للغاية، والكثير منها مملوك لحفنة من البشر.
إن أكبر خمس شركات لبيع النفط تتعامل في حدود ٢٤ مليون برميل يوميا، وهو يساوي ربع الطلب العالمي على البترول، فيما تتعامل أكبر سبع شركات زراعية في حدود نصف غلال العالم، والأهم من هذه الأرقام المجردة، أن أهمية هؤلاء التجار تنبع من سيطرتهم على الأسعار، ولكن بقى هؤلاء التجار في الظلال، تحوطهم السرية وحيطان من الصمت.
يركز الكتاب على الشركات التي هيمنت على أسواق تجارة النفط، والمعادن، والزراعة عبر الخمسة وسبعين سنة الماضية، والتي كان لها دور أساسي في تطور الاقتصاد العالمي، والكثير من هذه الشركات تمتلكها عائلة واحدة، إذ إن هذه الشركات ذات علاقات عائلية في الغالب، ويسيطر عليها الذكور من ذوي البشرة البيضاء.
إن منطق تجار السلع بسيط على نحو يدعو للريبة، فهم يشترون الموارد الطبيعية في زمان ومكان معين، كي يبيعوها في زمان ومكان آخر، وينبع دورهم من حقيقة أن العرض والطلب بالنسبة لهذه السلع لا يتكافآن في الأغلب.
إذ لا يمتلك منتجو هذه السلع شبكة ضخمة من المكاتب حول العالم لبيع سلعهم، والأهم أن أسواق السلع هذه في معظم الوقت تعاني من عجز أو فائض، وهنا يأتي دور تجار هذه السلع، ومن أمثلة ذلك أزمة أسعار النفط في ٢٠٢٠ إبان جائحة كورونا، حيث انخفضت أسعار النفط حتى أصبحت بالسالب لأول مرة في التاريخ، بمعنى أن منتجو النفط دفعوا للتجار كي يأخذوه، هنا تدخل تجار السلع هؤلاء واشتروا النفط بسعر بخس، وقاموا بتخزينه حتى عاد الطلب لعهده الأول.
إن تجار السلع هم مظهر واضح لليد الخفية للسوق التي تكلم عنها آدم سميث، إذ إنهم يربحون من فرق السعر بين وقت الشراء ووقت البيع، ويستغلون الفروق في الأسعار، ولأنهم يبيعون ويشترون في الآن ذاته، فهم في الغالب لا يتأثرون بصعود أو هبوط الأسعار.
إن ما يهمهم هو فروق الأسعار بين المناطق المختلفة، والأشكال المختلفة للمنتَج، وتواريخ التسليم، وعبر استغلال فروق الأسعار يساعد هؤلاء التجار على جعل الأسواق أكثر كفاءة.
ومع تضخم هؤلاء التجار أصبحوا قنوات مهمة لتمويل التجارة العالمية، إذ باتوا نوعا من قطاع مصرفي في الظل مستعد لدفع ثمن النفط مقدما، أو منح النحاس للمصنعين كقرض، وكما يقول جيم دالي، مدير قطاع تجارة النفط في أحد الشركات العملاقة، النفط هو مجرد شكل للنقود.
والحديث عن أباطرة وتجار السلع هو في واقع الأمر حديث عن موضوع أوسع، إذ يمنحنا نظرة حيال كيف يعمل العالم الحديث، فالسوق هو الملك، والشركات العالمية قادرة على تجاوز كل محاولات التنظيم والحوكمة، وأباطرة المال العالميين يمتلكون سلطة وقوة أكبر من بعض السياسيين المنتخبين.
كيف صعدت هذه النخبة إلى قمة العالم؟
لم تتخذ تجارة السلع شكلها الحالي سوى بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كانت هذه حقبة نمو شركات التجارة كي تصبح شركات عالمية على نحو حقيقي، وهو كذلك حقبة تحول النفط إلى سلعة يمكن تداولها.
بعد الحرب العالمية الثانية وجد تجار السلع أنفسهم فجأة على قمة موجة ضخمة من النمو الاقتصادي العالمي، أسست الولايات المتحدة الأمريكية وضعها كقوة عالمية، وشجعت التجارة حول العالم.
لقد نمت التجارة العالمية في السلع والموارد الطبيعية من نحو ٦٠ مليار دولار بعد الحرب العالمية الثانية إلى ١٧ تريليون دولار في ٢٠١٧، وقاد تجار السلع والموارد الطبيعية موجة الازدهار الاقتصادي خارج حدود الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وكانت شركاتهم أولى الشركات الغربية التي افتتحت مكاتب لها في الهند وروسيا والصين وإندونيسيا.
تقع في مركز اهتمام هذا الكتاب أربع تحولات شكلت الاقتصاد العالمي ودفعته في صالح تجار السلع، التحول الأول هو انفتاح الأسواق التي كانت في السابق مسيطرا عليها بإحكام، وخاصة النفط قبل أي شيء، حيث تفككت هيمنة شركات النفط الضخمة، التي كانت تعرف بالأخوات السبع، بفعل موجات التأميم التي عصفت بالشرق الأوسط في سبعينيات القرن العشرين، وفجأة بات النفط سلعة يمكن التجارة فيها بحرية، بعدما كان مملوكا لشركة واحدة على نحو حصري، بدءا من التنقيب إلى التكرير إلى محطات البنزين.
كذلك بدأت الأسعار في الحركة بعدما كانت ثابتة، ومنذ ذلك الحين أصبح لدى قادة الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية نفطا يمكن بيعه، وتعامل معهم تجار السلع على نحو مباشر، وفي خضم هذه العملية ظهر نوع جديد من القوة العالمية: البترو-دولة (PetroState).
التحول الثاني هو تفكك الاتحاد السوڤيتي عام ١٩٩١، الذي أدي إلى إعادة ترسيم الشبكة العالمية للعلاقات الاقتصادية والولاءات السياسية، ومرة أخرى؛ تقدم تجار السلع وأحلوا منطق السوق محل ما كان سابقا اقتصادا مخططا تسيطر على الدولة.
وفي خضم هذه الفوضى، أصبح تجار السلع طوق نجاة للمصانع والمناجم التي تكافح للبقاء، بل وحتى الحكومات، وفي المقابل تمكن تجار السلع من الوصول إلى الموارد الطبيعية بشروط بالغة النفع بالنسبة لهم.
كان التحول الثالث هو النمو الاقتصادي المذهل في العقد الأول من القرن الحالي، عندما بدأ الاقتصاد الصيني بالتحول نحو التصنيع، حيث خلق طلبا جديدا بالغ الحجم على السلع والموارد الأولية، عام ١٩٩٠ مثلا كانت الصين تستهلك من النحاس نفس ما تستهلكه إيطاليا، أما اليوم فإن الصين تستهلك نفس ما تستهلكه بقية دول العالم مجتمعة.
التحول الرابع هو تحول الاقتصاد العالمي نحو التمويل ونمو القطاع البنكي، بدءا من ثمانينيات القرن الماضي، كان أسلاف هؤلاء التجار يحتاجون إلى توفير رؤوس أموال كافية لدفع تكاليف كل شحنة غلة أو معدن يشترونه، ولكن فجأة بات بإمكان التجار المعاصرون استخدام القروض وضمانات البنوك، ما مكنهم من التجارة بأحجام أكبر وتجميع قدر أكبر من الأموال.
أدت هذه التحولات الأربع إلى نمو هائل وغير مسبوق في ثروة وقوة حفنة من الشركات والأفراد الذين يهيمنون على التجارة العالمية المتعلقة بالسلع والمعادن الأساسية.
إن هدف هؤلاء التجار هو أخذ هامش ربح صغير على حجم هائل من التجارة، وهذا الحجم في غاية الضخامة حقا، عام ٢٠١٩ بلغت دورة رأسمال أكبر أربع شركات يملكها هؤلاء التجار حوال ٧٢٥ مليار دولار، وهو أكبر من إجمالي صادرات اليابان.
كذلك فإن أرباح هذه الصناعة بالغة الحجم، على سبيل المثال تمكنت شركة مارك ريتش من مراكمة أموال في أزمة النفط عام ١٩٧٩ جعلها واحدة من أكبر عشر شركات ربحية في أمريكا، وفي العقد الذي برزت فيه الشركات الصينية، بلغت أرباح أكبر ثلاث شركات تعمل في السلع والمعادن الأساسية حجما أكبر من عمالقة التجارة العالمية المشهورين، مثل آبل وكوكاكولا.
الأهم من كل ذلك، أن هذه الأرباح يتشاركها عدد قليل للغاية. إن هؤلاء التجار، مع استثناءات قليلة، ظلوا مختفين في الظل، يتقاسمون الأرباح بين حفنة من الشركاء المؤسسين، ويخلقون ثروات غير متصورة لهؤلاء الأفراد.
وزعت شركة ڤيتول أكثر من ١٠ مليار دولار على حاملي أسهمها في العقد الأخير وحده، كما تضم العائلة التي تملك شركة كارجيل 14 مليارديرا على الأقل، أكثر من أي عائلة في العالم، كذلك فإن شركة لويس دريفوس، عملاق تجارة الغلال، مملوكة بالكامل تقريبا لشخص واحد.
يقول جافيير بلاس وجاك فاركي أنه بغض النظر عما يحمله المستقبل، فإن أمرا واحدا في غاية الوضوح، وهو أن هؤلاء التجار أصبحوا عبر ثلاثة أرباع قرن فاعلين مهمين ومؤثرين للغاية في العالم، وقد ظلت أنشطتهم وأدوارهم غير مدروسة ويعوزها الفهم وإدراك أهميتهم، وهو ما يطمح هذا الكتاب لتغييره.
المصادر
[1]. كليبتوقراط (kleptocrat) هو الحاكم الذي يستغل سلطته السياسية لسرقة موارد بلده.
تعليقات علي هذا المقال