مثّل انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 ميلاد نظام سياسي جديد، زاوج بين النظم الإسلامية والعلمانية في السلطة، فانبثق عن ذلك تجربة جديدة من تجارب الإسلام السياسي في فرعه الشيعي، والذي أدخل تعديلات جوهرية على نظم الحكم الدينية.
لسنا في معرض تقييم هذا النظام نجاحًا أو إخفاقًا بقدر ما نعنى في هذا المقال بالحديث عن أحد أهم مخرجات هذا النظام الجديد، والمتمثل في شرطة الأخلاق التي عرفت محليا باسم “كشت إرشاد” والتي تم تأسيسها في عهد الرئيس الأسبق أحمدي نجاد عام 2006 من أجل المحافظة على القيم والأخلاق في المجتمع الإيراني.
لكن تلك الهيئة الجديدة واجهت عدة إشكالات على مستوى المصطلح وفي المجال التنفيذي، فالمصطلح أربك المجتمع حيث أنه افترض ابتداءً أن المجتمع بلا أخلاق مما استدعى قيام تلك الهيئة لمعالجة تلك القضية.
أما على المستوى التنفيذي، فقد تم حصر تلك الهيئة على التعاطي مع قضايا الملبس، والتي لا يوجد لها محدد واضح، حيث تبدأ من ارتداء المرأة الشادور، وتنتهي بوضع أي غطاء على الرأس.
الأمر الذي يثير عدة تساؤلات منها؛ هل من الضروري حصر البعد الثقافي للمجتمع في الجانب الأمني للدولة، وما هي مساحة العنف المتوقعة جراء هذا التدخل، وكيف يمكن ضبطه، وما هو وجه التقارب بين شرطة الأخلاق ونظام الحسبة في الإسلام؟
الحسبة في الخطاب الإسلامي
يواجه مفهوم الحسبة عددا من الاصطلاحات الفقهية التي يكتنفها الغموض وتحتاج إلى ضبط لتحرير المضمون، من الشكل إلى النظرية، حتى لا تختلط علينا الأشكال التراثية التي رآها أصحابها مناسبة لزمانهم بالمبادئ والأصول الثابتة، والتي بني عليها اجتهادهم من أجل وضعها موضع التطبيق.
فالحسبة كما عرفها الماوردي هي “أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله”، بهذا المفهوم تكون دعوة إلى التفاعل مع القيم الإسلامية، وتحويل الشعور الإيماني إلى حرکة سلوکية واقعية، تمثل حراسة واعية من قبل المجتمع، على النظم والآداب والأخلاق.
عملية التنظيم الأخلاقي تلك تقوم على أساس المبدأ القرآني الذي أشارت إليه الآيات المتعددة صراحة، يقول الله عز وجل: “وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ”.
وأشارت إليها أيضا السنة النبوية في أكثر من موضع، ولم يختلف أحد من علماء المسلمين على وجوبها، بل إن المعتزلة جعلوها خامس أصول العقيدة، وقيدوها بعدة شروط لأهميتها كفريضة إسلامية.
نذكر بعضها على سبيل الإيجاز، وهي العلم بالشرع، فإن الجاهل ربما أمر بمنكر ونهى عن معروف.
وغياب المفسدة، فلا ينبغي أن يؤدي التطبيق إلى مضرة أعظم منها كمن ينهى عن شرب الخمر فيؤدي إلى موت جماعة.
والتأثير، إذ ينبغي على القائم بتلك الفريضة أن يغلب على ظنه إن لقوله في فاعل المنكر تأثيرا، فإن لم يغلب على ظنه ذلك لم تجب عليه.
وغياب المضرة الشخصية، فلا يؤذى في ماله أو في نفسه. والتدرج في التطبيق، فما يرتفع بالأمر السهل لا يجوز العدول عنه إلى الأمر الصعب.
فإذا انتفت تلك الشرائط فلا يبقى على المكلف إلا إظهار النكير والكراهة لكل فعل منافي لما جاء به الشرع.
وبهذا تتم حماية القواعد الإسلامية بضمان تطبيقها في حياة الناس الخاصة والعامة، وصيانة لها من التعطيل أو التبديل أو التحريف.
كان لنظام الحسبة في الإسلام التأثير الواضح على المجتمعات الإسلامية وهو ما يمكن أن نسميه اليوم التضامن الإسلامي، هذا التعبير ذو اللون الباهت يشير الى مفاهيم الأخوة الإسلامية بلغة حية وفاعلة والتى تمثل تشكيلا عقديا متينا على اجتماع المسلمين وتضامنهم.
بالإضافة إلى مبدأ آخر يمثل خاصية للدين الإسلامي، فالنبي محمد بخلاف المسيح وبوذا كان مؤسسا للدولة، وقد شارك أتباعه في تأسيس هذا المشروع السياسي.
وحتى بعد انقسام العالم الإسلامي إلى عدة دول ومع تضاؤل هذا التضامن، كان من المثير أن روح التضامن الإسلامي لم تختف بعد، فعلى سبيل المثال، تروي لنا كتب التاريخ كيف تم إدارة بغداد من قبل المحتسبين أثناء غياب الخليفة المأمون، عند تصارعة على الحكم مع أخيه الأمين لمدة خمس سنوات، وهذا يعكس فاعلية الحسبة في حال غياب الهيكل العام للدولة وعدم وقوع الفوضى، حيث يشعر الأفراد في المجتمع الإسلامي بقيمة التضامن والعمل كوحدة واحدة.
الحسبة ونظام الحكم
إن أول من مارس الحسبة في التاريخ الإسلامي هو النبي الأكرم، فكان يمشي في الأسواق وينهى عن الغش والتطفيف في الموازين، وتبعه في ذلك الخلفاء الراشدون، وعندما توسعت رقعة الدولة الإسلامية صار يتوجب استحداث وظائف جديدة بصلاحيات أوسع تحث على دفع المنكرات في الأسواق، فنشأ دور المحتسب أو ما عرف بصاحب السوق.
وتَعَدَّتِ الحسبة بذلك المعنى الديني إلى تطبيقات عملية واضحة ترعى المصالح العامة للمسلمين؛ فتناولت أمورا اجتماعية مثل: المحافظة على النظافة في الطرق، والرأفة بالحيوان، والصحة العامة، كما تناولت أمورًا اقتصادية، مثل منع الغش في الصناعة والمعاملات التجارية.
ومع تطور المجتمع أخذت وظيفة المحتسب أنماطا عدة داخل إطار الدولة، وهنا يشير فريد عبد الخالق لأن الإسلام لم يفرض نظاما مفصلا يحكم نشاطات الحياة المختلفة سواء بالنسبة لنظام الحكم، أو بالنسبة لغيره من الأنظمة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وإنما اقتصر دوره على ذكر القواعد والمبادئ الحاكمة وترك الأمر في الصياغات التنفيذية على الاجتهاد، وذلك مراعاة لما يطرأ على المجتمعات من مستجدات.
فقد اكتفى الإسلام بإجمال ما يتغير وتفصيل ما لا يتغير، وجاءت العبادات منضبطة مفصلة، إذ إنها ثابتة لا تتغير، بخلاف الأمور المعيشية وما يدخل في مجال السياسة، والتي تبقى على الأصل في طلب الأصلح والأنفع في حدود النصوص القطعية أمرا ونهيا.
يقول الإمام الشاطبي: إن الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعنى، والأصل في العادات الالتفات إلى المعنى، وأن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات، وأكثر ما علل فيه بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول.
فكل ما من شأنه تأدية دور المحتسب يدخل فيها، حتى وان خالف الشكل التراثي المعهود، على أن يؤدي الهدف من رعاية مصالح العامة، ويضمن تكافل المجتمع وتفعيل دوره، سواء باستحداث أنظمة رقابة على الدولة، أو باستحداث وظائف جديدة تفعل الدور الرقابي على المجتمع.
يذكر السنهوري باشا الأساس الذي يبنى عليه إحياء الشريعة الإسلامية، ويقول: إن الشريعة الإسلامية تكمله الشرائع الأخرى، ما لم تتناقض معها، وهذه الشرائع قائمة كجزء من الشريعة الإسلامية، وبمقتضى اعتبار تلك القاعدة يمكن قبول كثير من مبادئ الشرائع الأخرى الصالحة للتطبيق في العصر الحاضر، لا سيما ما كان فيها من قبيل الأساليب والصياغات المستخدمة في الأنظمة السياسية والفقه الدستوري الحديث.
ويستشهد السنهوري من باب المقارنة بين الفكر الإسلامي والغربي بمحاضرة ألقاها فرنسي في معهد علمي، فرق فيها بين الديمقراطية الإسلامية والديمقراطية الغربية، إذ إنه على رأس الأولى حديث من رأى منكم منكرا فليغيره، أي إن الديمقراطية الإسلامية تلزم أفرادها لا لطاعة القانون فحسب، بل بالعمل على حمل الغير على طاعته، أي إن موقف الفرد موقف إيجابي لا سلبي، كما هو الحال في الديمقراطية الغربية.
التطورات الإسلامية في العصر الحديث
يذكر مايكل كوك أن العصر الحديث شهد العديد من التطورات على مستوى الأفكار والأنظمة السياسية، والتي تسرب جزء كبير منها إلى المخيلة الإسلامية، وتبنى طيف واسع من المفكرين القيم السياسية الغربية خاصة في الأنظمة الدستورية، بل وجدوا فيها تطبيقا لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بواسطة مجالس دستورية منتخبة.
وهو ما نجده بارزا في فكر الإمامين محمد عبده ورشيد رضا، إلا أن نتائج هذه الملاحقة قد تبدو غير متجانسة، خاصة عندما ترتبط بالقيم العلمانية، فلا يخلو ذلك من نشاز واختلاف ظاهر، إذ إن الإسلام يحدد للمؤمن ماذا يعتقد وكيف يعيش، بينما العلمانية تدع لهم ضمن حدود معينة اختيار ذلك بأنفسهم.
وهذا يمثل تناقضا بين كلا المفهومين، فحرية التعبير والحريات العامة في الفكر الإسلامي مقيدة بالأفكار الصالحة، مثلا قيم الأسرة في الإسلام لا تدع للأفراد تبني أنماط للحياة مخالفة عما جاء به التصور الإسلامي.
ومع تشبع المجتمعات الإسلامية بتلك القيم العلمانية وعدم الفصل بين ما هو صالح للتطبيق وغير منافي للمبادئ الإسلامية، وبين ما هو منافى صراحة لذلك، ظهرت العديد من المفاهيم التي تدعم القيم الفردية، حتى وإن انتهكت المحرمات الدينية بشكل علني وصريح، وهو ما يتنافى تماما مع دور الفرد تجاه المجتمع.
يلاحظ سيد قطب أن المجتمعات القائمة اليوم في أرجاء الأرض تعتبر المعصية مسائل شخصية، ليس لأحد أن يتدخل في شأنها، فلا سلطة لأحد على آخر، ولا يحق التدخل في شؤون الغير، ويشدد وصفه للأسلوب الإسلامي بعد ذلك على أن المجتمع جسد واحد، وأن الذي يجاهر بالمنكر لا يسيء إلى نفسه بل يسيء إليك أيضا، قائلا: إن العدو العصري ليس فقط الإباحية بل الفردية أيضا.
خاتمة
قد تفتح بعض الممارسات الخاطئة في تطبيق الحسبة باب الجدل المتكرر حول ما يمكن أن يقدمه النموذج الإسلامي في السلطة، وكيف له أن يوازن بين النظرية الإسلامية والإطار المستحدث.
الإسلام وضع مبادئ ثابتة، تتأسس عليها العقيدة، وتلتزمها الأخلاق، في إطار ما عرف بالحسبة، لا باعتبارها ولاية بوليسية، وإنما أدخلها في الفقه السياسي كمبدأ يمارسه المواطنون وتمارسه المؤسسات التشريعية والمنظمات الأهلية.
وهو ما يستدعي من الفقيه الدستوري في المجال الإسلامي أن يفصل بين ما يمكن تركه للمجال العام والتأثير الثقافي والإعلام ومنظمات المجتمع لتضبط إيقاعه بشكل يتلاءم مع تفاعل المجتمع إيجابا وسلبا، وبين ما يجب أن تضبطه الدولة، دون أن يؤدي ذلك إلى توغل سلطتها على سلطة الأفراد.
من هنا تظهر أهمية الحسبة كمبدأ عام إصلاحي قابل للتطبيق والتطور، يمكن له أن ينشئ نظامًا رقابيا يتكامل مع النظام الاجتماعي والسياسي، ويفضي في المقام الأول لعملية إصلاح سياسي تتبنى حقوق الأفراد بما يتناسب مع مصالح الدولة والمجتمع.
تعليقات علي هذا المقال