على مدى السنوات الأخيرة، سعت الصين إلى تطوير علاقة طويلة الأمد ومربحة مع إفريقيا، ولكونها تحتاج الدول الإفريقية؛ انتهجت نهجًا تدريجيًا للانخراط بعمق في البيئة الأمنية غير المستقرة بداخلها، كما أن الانخراط الصيني في المشهد الإفريقي له مصالح وأبعاد اقتصادية وعسكرية.
يهدف هذا المقال إلى تحليل أبعاد توطين العلاقات الصينية في إفريقيا، ومحاولة الإجابة على سؤال: إلى أي مدى تعزز الصين وجودها في القارة؟
البعد الاقتصادي الصيني في إفريقيا
سعت الصين لإيجاد بعض الدول والمناطق الجديدة لتأمين احتياجاتها النفطية، وبما أن إفريقيا غنية باحتياطات النفط؛ لم تدخر بكين أي جهد لإيجاد موطئ قدم في أنجولا ونيجيريا وغينيا والسودان، من خلال زيادة الاستثمار النفطي في هذه البلدان.
وبفضل انسحاب الولايات المتحدة من السودان عام 1995 تمكنت الصين من الحصول على استثمارات نفطية ضخمة، حتى ذهبت أكثر من نصف صادرات السودان النفطية إلى الصين، واستحوذت مؤسسة البترول الصينية على حوالي 40٪ من أسهم شركة النيل الأعظم النفطية بالسودان.[1]
واتبعت الصين نهجا متعدد الجوانب في علاقاتها الاقتصادية مع إفريقيا، إذ تجاوزت الولايات المتحدة بوصفها أكبر شريك تجاري لإفريقيا عام 2009، وباتت وجهة لنحو 15% من صادرات إفريقيا جنوب الصحراء، ومصدر نحو 20% من واردات المنطقة، وفقا لتقديرات تومسون رويترز والبنك الدولي.
في حين أن غالبية صادرات إفريقيا إلى الصين تتكون من الوقود المعدني ومواد التشحيم والمواد ذات الصلة، فإنها تصدر أيضا خام الحديد والمعادن والسلع الأخرى، فضلا عن كميات صغيرة من المنتجات الغذائية والزراعية، فيما تصدر الصين مجموعة من الآلات والنقل ومعدات الاتصالات، فضلا عن السلع المصنعة إلى الدول الإفريقية.[2]
وقد أطلقت الصين مبادرة طريق الحرير عام 2013، تحت شعار “حزام واحد طريق واحد”، تهدف إلى إنشاء خط سكة حديد، يربط الصين وأوروبا، من أجل تسهيل التبادلات التجارية بين العملاق الآسيوي وأوروبا، وتضمن هذا المشروع طرق التجارة البرية والبحرية، التي شملت دول إفريقيا.
وتعد مبادرة “الحزام والطريق” أكبر ممر اقتصادي مقترح في العالم، إذ تضم 65 دولة من بداية جنوب المحيط الهادئ، مرورا بآسيا، وتنتهي بإفريقيا وأوروبا.
ويتوقع أن يعزز هذا المشروع من حضور الصين في أوروبا ماديًا ورقميًا واجتماعيًا، إذ سيربط بينهما من خلال الموانئ، والطرق السريعة، وشبكات الاتصالات، والسكك الحديدية.
إذ يمتد الحزام الاقتصادي لطريق الحرير من غرب الصين إلى أوروبا عبر آسيا الوسطى، بينما يربط طريق الحرير البحري للقرن “إيدي 20” بين الصين وأوروبا، عبر بحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي والبحر الأحمر.[3]
وفي محاولة الصين الحفاظ على مصالحها الاقتصادية في المنطقة، يرى البعض[4] أن كلا من الشركات المملوكة للدولة والشركات الصينية الصغيرة والمتوسطة الحجم، قد تورطت حتما في نزاعات محلية؛ بسبب البيئة غير الآمنة لمعظم دول جنوب الصحراء الكبرى، حيث تعمل الشركات الصينية.
ففي نيجيريا، على سبيل المثال، تتعرض المنشآت النفطية لهجمات منتظمة على يد المتمردين وجماعات الميليشيات، كما أن سوء سلوك العديد من الشركات الصينية في جنوب الصحراء الكبرى، مثل القضية الزامبية مع شركة تعدين المعادن غير الحديدية الصينية، التي حدثت فيها انتهاكات مستمرة لقوانين العمل المحلية وأعمال عنف ضد العمال، دفعت بعض الحكومات الإفريقية إلى إغلاق الشركات الصينية.[5]
وبناء على ما سبق ، يمكن القول إن الصين تسعى من خلال البعد الاقتصادي إلى تحقيق مصالحها الاقتصادية في إفريقيا، عبر توقيع عقود مشروعات ضخمة، وتقديم قروض ومساعدات مالية، وتحفيز التجارة الثنائية، كما تسعى جاهدة لتحسين البنية التحتية في إفريقيا، وتوفير فرص العمل وتحسين مستوى معيشة السكان المحليين.
البعد الأمني الصيني في إفريقيا
تقوم سياسة الصين في إفريقيا على مزيج من الروايات التاريخية، والعلاقات المربحة للجانبين، وخطاب التضامن بين الجنوب والجنوب، مدعوما بالتزام الحزب الشيوعي الصيني بالنهوض بمصالحه الوطنية الأساسية.
العلاقات الصينية الإفريقية ليست جديدة، وقد برزت في خطاب السياسة الخارجية الصينية كنمط مستمر للتعاون الإنمائي بين بلدان الجنوب، والهوية المشتركة مع الشعوب الإفريقية على حساب الإمبريالية والصراعات التنموية الاجتماعية والاقتصادية.
بناء على هذه الهوية -التي تبدو مشتركة- بنى الحزب الشيوعي الصيني نهجه الإفريقي على “المبادئ الخمسة للتعايش السلمي” التي تؤكد على الاحترام المتبادل لسيادة الدول، وعدم الاعتداء المتبادل، وعدم التدخل المتبادل، والمساواة والمنافع المتبادلة، والتعايش السلمي.
في عام 2006، أصدرت الصين أول ورقة سياسة إفريقية؛ تصف المشاركة الصينية مع إفريقيا بأنها تكرس مفاهيم المساواة وعدم التدخل والمنافع المتبادلة.
وفي الممارسة العملية، جرت ترجمة سياسة “التأهيل” هذه إلى دبلوماسية فعالة، وحوافز مالية شاملة، في شكل مساعدات إنمائية وتجارة واستثمارات وتعاون عسكري محدود، فضلا عن عمليات حفظ السلام.
ولقد أدى هذا النهج الشامل في التعامل مع العلاقات الإفريقية إلى رفع مكانة الصين؛ بوصفها لاعبا رئيسيا في تحويل ميزان القوى العالمي، مما يشير إلى صعودها الحتمي لتكون دولة مؤثرة.[6]
وفي سياق التعاون الإستراتيجي الشامل بين الصين وإفريقيا، ركز منتدى التعاون الصيني الإفريقي عام 2018 على المساعدة في صنع السلام في إفريقيا.
كما أن الصين تحاول حماية دائرة نفوذها، وفي إطار ذلك أنشأت أول قاعدة عسكرية خارجية لها في القرن الإفريقي في جيبوتي، كما أنها تحاول فرض وجودها على القضايا الأمنية في المنطقة، من خلال المشاركة في عدد من عمليات حفظ السلام، وكذلك إرسال سفن حربية لمكافحة القرصنة المتفشية المتزايدة في الساحل الصومالي، باعتبارها ملتزمة بتعزيز التبادلات والتعاون العسكري الدولي، والاستجابة المشتركة للتحديات الأمنية العالمية.[7]
وفي السنوات الأخيرة، ازدادت القدرة التنافسية للأسلحة الصينية تطورًا وقوةً، بعدما باتت واحدة من أكبر خمس دول مصدرة للأسلحة في العالم، وتتضمن مبيعات الأسلحة جزءًا من العلاقة وتوسع نفوذ الصين خارجيا.
فمثلا، في عام 2015 كانت قيمة الأسلحة الصينية التي اشترتها كينيا 7.9 مليارات شلن كيني، مما يعزز مشاركتها معها خارج أعمال واردات المعدات المدنية، وتشمل المعدات العسكرية التي طلبتها نيروبي من بكين: دبابات، ومركبات مدرعة، وقطع غيار.
وفقا لتقرير وكالة مراقبة تجارة الأسلحة الأوروبية، ومعهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام، فإن صفقات الأسلحة جعلت الصين واحدة من أكبر مصدري الأسلحة إلى كينيا، والتي تشمل إسبانيا وألمانيا والأردن وروسيا وجنوب أفريقيا.[8]
البعد البيئي الصيني في إفريقيا
إن الاقتصادات الناشئة مثل الصين لديها القدرة على أن تصبح مساهمًا رئيسيًا في تمويل قضايا المناخ للبلدان النامية، من خلال طرق تمويل المناخ بين بلدان الجنوب، الذي يتخذ أربعة أشكال رئيسية:
1) إسهامات البلدان النامية في الصناديق متعددة الأطراف المنشأة، 2) المبادرات الثنائية، 3) المنظمات الدولية الجديدة بقيادة الجنوب، مثل: بنك بريكس، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، 4) استثمارات القطاع الخاص، لذلك من المتصور أنه إذا جرى تبني مفهوم البرنامج المناخي SSCF وتطويره؛ فيمكنه أن يفيد إفريقيا فائدة كبيرة، من خلال تحسين مصادر تمويل المناخ والقدرة على التكيف مع تغير المناخ.[9]
وتعهدت الصين بدعم البرنامج الشامل لتنمية الزراعة في إفريقيا، وهو إطار للسياسة القارية بدأته نيباد في عام 2003، لتحقيق التحول الزراعي والأمن الغذائي، وكانت التنمية الزراعية نقطة محورية في مشاركة الصين لإفريقيا منذ ذلك الحين، واكتسبت أهمية أكبر خلال المرحلة الجديدة من التعاون الصيني الإفريقي منذ بداية الألفية الجديدة.
كانت الصين مترددة في دعم البرنامج، على الرغم من أنه يمكن اعتباره إحدى أكثر مبادرات نيباد نجاحا، وكان موقف الصين سلبي تجاه البرنامج الشامل للتنمية الزراعية في إفريقيا، من ناحية رفض الصينيين كثيرا من الأنشطة الغربية في البرنامج، ومن ناحية أخرى بسبب ظروف التمويل التي أثارت شكوكا حول قدرة نيباد والجهات الفاعلة الإقليمية عموما.[10]
وعلى الرغم من هذه التحفظات، فإن القطاع الزراعي الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالمشروعات الوطنية، هو نقطة انطلاق جيدة للصين لربط تعاونها الثنائي مع إستراتيجية التنمية الإقليمية.
وعلى النقيض من مشروعات البنية التحتية الإقليمية واسعة النطاق، يمكن للصين تقسيم أنشطتها بين عدة مشروعات أصغر، ذات تكاليف يمكن إدارتها مع أصحاب المصلحة الوطنيين المسؤولين، وتجنب مخاطر عدم وجود ضمانات لحماية الاستثمار المرتبط بالمشروعات المتعددة الأطراف، في إطار عمل الشراكة الجديدة من أجل تنمية إفريقيا.
عندما تعمل المنظمات الإقليمية، وتكون مسؤولة عن تنفيذ المشروعات الإقليمية؛ فإن مسؤوليتها عن الانحرافات في الجدول الزمني أو الميزانية تكون محدودة، لأنها لا تتصرف في نفس القدرات المالية مثل الدول، لتقليل مخاطر الخسارة.
ويتمتع الاتحاد الإفريقي بقدرة فاعلة كافية، ودعم كاف من الدول الأعضاء فيه؛ ليصبح المحور السياسي للتعاون الصيني الإفريقي، وتقدم نيباد -باعتبارها الهيئة الفنية للتنمية الإقليمية- إطارًا لإدماج الصين في إستراتيجية شاملة للقارة بأكملها، ولديها بالفعل بعض المشروعات الناجحة لتقديمها في قطاعات، مثل: الزراعة التي تتوافق مع أولويات التنمية للصين.
وعلى المستوى الخطابي على الأقل، تقر الصين بأهمية نيباد للتنمية الإقليمية، وتواصل التعبير عن دعمها لها، ولكن بعد عدة محاولات فاترة للإصلاح والعديد من إعادة إطلاق المبادرة.[11]
خلاصة
يمكن القول إن الصين أصبحت شريكا إستراتيجيا للعديد من الدول الإفريقية، حيث تسعى بكين إلى تعزيز تعاونها مع هذه الدول في مختلف المجالات، بما في ذلك الاستثمار والبنية التحتية.
وفي نفس الوقت، تسعى إلى تعزيز التعاون الأمني مع الدول الإفريقية، من خلال تقديم المساعدة الأمنية، وتدريب قوات الأمن المحلية، وتعزيز التعاون الأمني، بما في ذلك مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.
كما بذلت الصين أيضا الجهود للحفاظ على البيئة، وتعزيز التنمية المستدامة في الدول الإفريقية، ومن المتوقع أن يستمر هذا التعاون المثمر بين الصين والدول الإفريقية في المستقبل، وأن يسهم في تحقيق التنمية المستدامة في المنطقة.
المصادر
[1] د. حمدي عبد الرحمن، إفريقيا وتحديات عصر الهيمنة… أي مستقبل؟”،( القاهرة: مكتبة مدبولي، 2007)ص 110.
[2] Eleanor Albert,” China in Africa“, Council on Foreign Relations, July 12, 2017, https://cutt.us/KDirQ
[3] د. هند محروس محمد محمد الجلداوي، ” الدور العسكري الصيني في القرن الأفريقي: الأنماط والتحديات” قراءات أفريقية، 2023-02-12، متوفر بالرابط: https://cutt.us/A3mGi
[4]ALDEN, C. (2014), “Seeking Security in Africa: China’s evolving approach to the African Peace and Security Architecture”, Norwegian Peace building Resource Centre, March 2014,Available from: https://cutt.us/Vgsze [Accessed: 4th June 2023]
[5]Tania González Veiga ,” To What Extent Has China’s Security Policy Evolved in Sub-saharan Africa?”, Dec 26. 2019, https://cutt.us/o8W6Q [Accessed: 4th June 2023]
[6] Mary Madeleine Edel WAN YAN CHAN,” China in Africa: A Form of Neo-Colonialism?”, Dec 2 2018, E-International Relations, https://cutt.us/ME9db
[7] د. هند محروس محمد محمد الجلداوي، ” الدور العسكري الصيني في القرن الأفريقي: الأنماط والتحديات” مرجع سبق ذكره.
[8] د. هند محروس محمد محمد الجلداوي، ” البعد العسكري في استراتيجية التنافس الأمريكي- الصيني في كينيا، متابعات أفريقية (الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية،2022) العدد23،ص86.
[9] Dumisani Chirambo,” Moving past the rhetoric: Policy considerations that can make Sino-African relations to improve Africa’s climate change resilience and the attainment of the sustainable development goals”, Advances in Climate Change Research ,Volume 7, Issue 4, December 2016, Pages 255.
[10] Georg Lammich,” The Regional Dimension of Sino-African Development Cooperation”, In book: Ziltener, Patrick; Suter, Christian: African-Asian Relations: Past, Present, Future ,Chapter: 5. Publisher: Lit
2022,p 101-102.
[11] Ibid.
تعليقات علي هذا المقال