تخضع المدن الناشئة تحت كنف الإسلام لمعايير رئيسية، تعكس بعدا اجتماعيا وتاريخيا يعبر عن المجتمع الذي تنشأ فيه تلك المدينة، وجرت العادة على أن المدن يجب أن يؤسس مسجد جامع في منتصفها، ثم من حوله أسواقا رئيسية تعمل على خدمة العامة والمجتمع في المدينة.
كان هذا المسجد يسمى مسجدا جامعا، أي مسجدا تقام فيه الصلوات الخمس وصلوات الجمعة والعيدين، وكان المسجد هو الآخر يخضع لأسس وقواعد معمارية منضبطة، لأن هذا يمثل جزءا لا يتجزأ من هويته القائمة.
هناك مدن كثيرة شاهدة على هذه القاعدة، المدينة المنورة في البداية كانت النموذج الأول الذي يحتذى به، ثم هناك الكوفة والبصرة في العراق، والفسطاط والقطائع والعسكر في مصر.
كانت كل مدينة من تلك المدن تعبر عن طراز معماري مميز لها، منها ما كان ذا نمط محلي، ومنها ما كان بداية لفن يتشكل تحت اسم الإسلام، ومنها ما كان متطورا كالفنون الفاطمية والمملوكية.
الأهم في تلك القاعدة أن يكون هناك نموذج معماري منضبط، يستند إلى قواعد رئيسية، يمكن تمييزها من بين غيرها من القواعد المختلفة.
بقي شيء مهم هنا، وهي تلك العوامل التي يجب مراعاتها عند إنشاء هذا المسجد الجامع، وهي ثلاثة عوامل أساسية يحتكم إليهم المعماري في تحديد شكل ونمط العمارة الذي يختلف من مكان إلى آخر.
العامل الأول: هو احترام الإرث الحضاري للمدينة، فكل مدينة تمتلك إرثا حضاريا يمتد تاريخيا إلى فترات مختلفة، مرورا بكل المراحل المعمارية والتقلبات التاريخية التي مرت بها الدولة والأمة على نفس الخط، لذا كان من الضروري أن يحترم المعماري هذا الإرث الخاص بالأمة التي ينشأ فيها المسجد الجامع، حيث يؤثر هذا التاريخ المعماري للأمة بشكل أو بآخر على نمط البناء، كونه يتوافق مع طبيعة البناء المناسبة للمدينة، والمنسجمة أكثر مع السكان، ومراعاة هذا العامل هو من أولويات العمارة الصحيحة.
أما العامل الثاني: فهو المناخ الذي يشكل مركزا هاما وأساسيا في تنميط العمارة، إذ تبنى المنشأة المعمارية في الأساس على ما يحتاجه الناس منها وما يتكيفون عليه فيها، سواء من مداخل أو مخارج أو مااقف هواء أو مواد بناء تنسجم أكثر مع البيئة والمناخ، كي تساعد على انسجام بيئي داخل وخارج المنشأة، ويراعى بشكل رئيسي المناخ وطبيعته، من حرارة أو برودة، وما يتوافق معها من مواد بناء ومعالجات معمارية تتكيف وترتبط بشكل لا انفصام به مع المناخ وطبيعته.
أما العامل الثالث والأخير؛ فهو البعد الوظيفي للمنشأة، ما الذي يحتاجه الناس منها، فلو كان مسجدا كان الهدف الرئيسي والأساسي له الصلاة، بما يتناسب مع أغلبية السكان، لذا كان موقع المسجد في منتصف المدينة محوريا حتى يصل إليه غالب السكان.
بناءً على ما سبق؛ لم تنشأ العمارة الإسلامية من فراغ، بل كان لها أسس وقواعد رئيسية أنشأت عليها، إذ إن عمارة المساجد الجامعة كانت تحتكم إلى أسس رئيسية، لا يجب أن تبتعد عنها حتى لا تفقد وظيفتها التي قامت عليها.
مسجدا الفتاح العليم ومصر الكبير
في بداية 2019 تم افتتاح مسجد الفتاح العليم في العاصمة الإدارية الجديدة، جاء موقع المسجد بالقرب من الطريق الدائري الأوسطي، وخصص له طريق نازل من الدائري، حيث أقيم المسجد على مساحة 106 فدان، أي حوالي 455 ألف متر مربع، بينهم 8600 متر مربع هي كل مساحة مبنى المسجد، بالإضافة إلى 7 آلاف متر مربع مساحة خارجية مخصصة للصلاة، يحيط به سور بطول 3 كيلو متر وارتفاع 5 أمتار كاملة.
تدخل إلى المسجد عبر طريق مرصوف، لتجد أربعة مآذن تزينه في كل جانب، ولكنها منعزلة عن كتلة المسجد ذاته، حيث قامت بقاعدة منفصلة ومستقلة تماما عن المسجد، كان طول تلك المآذن 95 مترا، وهذا ارتفاع شاهق وكبير مقارنة بكتلة المسجد ذاتها، ثم قام المسجد نفسه على قبة مركزية مثمنة تحيط به أربعة قباب فرعية من كل جانب.
وبهذا التخطيط البسيط والغريب في آن واحد قام مسجد الفتاح العليم، واشتمل على بعض العناصر المعمارية والفنية داخله، إذ صممت الخطوط على نمط غريب لا يخضع إلى نوع معين، ثم المحراب وهو محراب مقلد من المحاريب المملوكية، ومنبر ضخم يفتقر للعناصر الفنية الرئيسية التي ميزت المنابر على طول خط تاريخ الفنون الإسلامية.
جاء المسجد بتكلفة إجمالية حوالي 200 مليون جنيه، وهو مبلغ ضخم يعكس الكم الهائل للشركات التي عملت به تحت إشراف الهيئة الهندسية للقوات المسلحة.
لم يمر سوى عامين حتى أعلنت المقاولون العرب في أكتوبر 2020 على بدء مشروع آخر وهو مركز مصر الثقافي الإسلامي أو مسجد مصر الكبير، بتكلفة حوالي 45 مليون دولار، بعدها بقليل اتضحت المعالم الرئيسية للمسجد الجديد.
يقع مسجد مصر شرق مسجد الفتاح العليم بالقرب من الطريق الدائري الإقليمي كذلك، والمسجد شبيه إلى حد قريب في هيكله بمسجد الفتاح العليم، مع اختلاف في بعض التفاصيل الفنية، مثل مئذنتيه اللتين تتصدران المشهد، والمآذن كذلك تفتقر إلى نمط معماري معروف وتنفرد بقاعدة مستقلة.
والمسجد يقوم على قبة مركزية مثمنة، ويتصدر كل ضلع من أضلاعه الأربعة بائكة تعمل كمدخل له، لكن الملفت لهذا المسجد أنه يحتوي على طريق صاعد وسلالم ضخمة ومتعددة، تصل من خلالها إلى المسجد نفسه أعلى الهضبة التي أنشأ عليها.
مساجد دينية أم دور مناسبات؟
على شكل غريب ومناقض لأسس العمارة الإسلامية جاء مسجد الفتاح العليم، فلم ينشأ وسط مجتمع عمراني ينخرط فيه، بل جاء ليخدم طبقة معينة، أو ربما ليكون واجهة لا أكثر لعاصمة إدارية جديدة، تمثل الدولة في ثوبها الجديد، خاصة أنه يقع على مدخلها الرئيسي.
يعبر هذا المسجد بشكل رئيسي عن فلسفة البناء لدى الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، وهو ما يمكن تسميته بالمصطلح العامي “البهرجة”، ولا يخضع لنمط معماري واحد، المآذن الأربعة كلها لا يمكن تمييز طرازها المعماري، فهي عبارة عن برج طويل مرتفع لا يمتلك أي تفاصيل فنية مميزة أو شكل واحد يمكن الاستدلال به في تاريخ الفن والعمارة، فهي منعدمة الطراز المعماري والشكل المميز لأي من الطرز المعمارية في القاهرة.
لا يتناسب ارتفاع المآذن مع الكتلة المعمارية المكونة للمسجد كذلك، فبدت وكأنها منفرة، أما الزخارف والنقوش الداخلية فهي تفتقر إلى أبسط القواعد الرئيسية للفن، الخط رديء لا يعبر عن شكل معين، والألوان غير متناسقة، تدخل إلى المسجد وكأنه مجمع منشآت خدمية، لا تظهر عليه أية صورة ذات لمحة دينية مميزة.
افتقر المسجد لأبسط القواعد المعمارية التي حملتها القاهرة بين شوارعها القديمة وأزقتها الضيقة، فلم يراع تاريخ القاهرة الطويل في العمارة، ولم يستند إلى منهج جديد موائم لظروف المدينة الجديدة.
أما المسجد نفسه من الداخل، فهو ربما يشبه في التكوين المعماري قبة الصخرة، حيث تم تصميمه عبر قبة مركزية مثمنة في المنتصف، تحيط بها مساحة تكتنف الأضلاع الرئيسية لتلك القبة، لكنه منقول بعدم احترافية، إذ إن قبة الصخرة مصلى صغير أنشأت في الأساس لتكون قبة ذات بعد ديني محدد، وعلى طول تاريخ الإسلام لم تقلد لتكون نموذجا لمسجد واسع.
وهنا يفتقر مصمم المسجد لأبسط قواعد العمارة والاقتباس وهو عدم التفريق بين القبة كمنشأة معمارية مستقلة لها وظيفة مختلفة، وبين المسجد كمنشأة معمارية لها مميزاتها القائمة بذاتها، الذي يهدف إلى وظيفة أخرى، فالمسجد يهدف في النهاية إلى أن يكون مكانا منبسطا مريحا للناس كي يصلوا فيه.
يظهر المسجد من الداخل بحالة منفرة، فهو يفتقد أبسط القواعد العلمية في التخطيط والبناء، وهنا يقع في المغالطة المعمارية التي سبق وأن أشرنا إليها، وهي البعد الوظيفي للمنشأة التي يجب تحديدها منذ البداية، فلا يجب تخطيط مسجد على نمط عمارة قبة.
داخل المسجد ثمة ملاحظة أخرى، فهو مليء بالنجف ووحدات الإضاءات، التي تغطي سقفه من كل جانب، بالإضافة إلى التكييف المركزي الذي يغطي كل مساحة المسجد والقاعات الداخلية، تعكس تلك الملاحظة عدم الاستناد إلى ما أشرنا إليه في العامل الثاني، والذي يجب مراعاته، وهو المناخ والتكيف البيئي.
كان يمكنه الاعتماد على فتح نوافذ تعمل على دخول الضوء الطبيعي إلى المسجد، لكي يوفر الكهرباء بدلا من عملها على مدار اليوم، بالإضافة إلى استخدام مواد محلية ومعالجات معمارية تعمل على تلطيف الجو داخل المسجد.
كان الطريق الصاعد الذي اشتمل عليه مسجد مصر الكبير، غاية في الغرابة أيضا، إذ لا يوجد مسجد في الإسلام بني على هذا النمط من قبل، خاصة أن تلك السلالم كانت مرتفعة إلى حد كبير، فالمسجد لا يخدم بهذا حتى من آتوا بسياراتهم، كأنه منعزل على نفسه في مكان مرتفع لا يصل إليه أحد.
وتلك سمة المساجد التي تعمل عليها الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، فهي مساجد منعزلة ومنطوية عن المدينة، كأنها في حالة ترفع عن الناس.
ربما يمكن فهم فلسفة بناء المسجدين من خلال العناصر المعمارية والمنشآت التي اشتملت عليها المساجد من الداخل، حيث يوجد في كلا المسجدين دور مناسبات لعقد القران، وتلك السمة كانت مرتبطة بمساجد الجيش والشرطة منذ مدة طويلة في مصر.
حفلات الزفاف عادة ما تتم داخل قاعات مناسبات في مساجد تابعة للجيش والشرطة، مثل مسجد الشرطة في صلاح سالم، ومسجد الشرطة في التجمع، أضف إلى ذلك مسجد المشير الذي ذاع صيته في الآونة الأخيرة كمكان لعقد حفلات الزفاف، أي تستخدم تلك المساجد من أجل غرض تجاري وترويجي وينظر إليها باعتبارها مكانا مناسبا للتصوير.
يحتوي المسجدان كذلك على ممر جنائزي طوله تقريبا 400 متر، خصص هذا الممر بهدف خروج الجنازات العسكرية منها، وتلك الحالة هي اختراع جديد منافي تماما لفلسفة المساجد الجامعة في الإسلام، فهي سمة تعكس البعد العسكري لتلك المساجد.
خاتمة
تلك الحالة التي تحياها الدولة المصرية في العمارة حالة غريبة ومتردية، مساجد لا علاقة لها بنمط معماري محدد، لا تحترم تاريخ القاهرة العمراني والمعماري، تكلف مبالغ باهظة الثمن، في دولة تعيش أزمات اقتصادية خانقة، وفي النهاية يكون المنتج محدودا، لا يتناسب مع أبسط قواعد العمارة، ويشتمل على عناصر ترويجية ضخمة، مثل أكبر مئذنة وأضخم قبة، ليتم من خلالها توظيف الدين والترويج له بشكل لا يتناسب مع جوهره.
تعليقات علي هذا المقال