شهد المشهد المصري تحولا جذريا خلال الانتقال من التوجه الناصري إلى دولة السادات، ففي مايو 1971، رفع السادات توجها سياسيا جديدا تحت شعار “سيادة القانون ودولة المؤسسات”.
تُحدد دريّة شرف الدين في كتاب “السينما والسياسة في مصر” تدرجات ذلك التحوّل التحوّل السياسي، بدءًا من طرح أفكار ووثائق، مثل دستور 1971 وبرنامج العمل الوطني من نفس العام، مرورًا بورقة أكتوبر 1974، وانتهاءً بعشرات الخطابات والتصريحات الصحفية.
التحوّل الذي دُعم مؤسسيا، لتغيير دفة التوجه السياسي والثقافي، بعيدًا عن مرحلة الاشتراكية الناصرية، وقريبًا من خصخصة القطاع العام وفتح السوق التجاري، لم يكن مؤطرا في حيّز سياسي أو اقتصادي فقط، هناك جانب تأثّر به على كل المستويات، في الصناعة وإنتاج الأفكار، وأيضا في القطاع الفنّي، خاصة السينمائي.
السينما –كظاهرة اجتماعية- هي مادة ثرية لقراءة دواخل المجتمعات، ليس على مستوى الذائقة والتباين الفنّي فقط، بل هي مادة إنتاج وقراءة دواخل الثقافة وظواهرها الجماعية، على مستوى الدوافع والالتزام الأخلاقي وتقاطع سياق معرفي مع الآخر، لذلك فإن أحد أكبر التغيرات التي وثّقت لمرحلة الانفتاح الاقتصادي والسياسي هو المنتج السينمائي المصري، بشقيّ مباركة الانفتاح وتبعاته الاستهلاكية، وكذلك مناهضته والتحذير من آثاره على المجتمع.
يشير جلال أمين في كتاب “الاقتصاد والسياسة والمجتمع في عصر الانفتاح” إلى أن الانفتاح هي كلمة لها مدلول اقتصادي، لكن المصريين فهموا منها معاني أوسع، إذ ترتب على ذلك التغيير السياسي تبعات عميقة في العلاقات الاجتماعية وإعادة هيكلتها، واختلاف القيم الأخلاقية السائدة.
في هذا المقال ننظر إلى ما وراء الصورة الظاهرة، أو بالأحرى إلى أسس ودوافع تشكيلها، خلال مسحة تاريخية سريعة تشتبك مع بوادر سياسة الانفتاح الاقتصادي في مصر، وكيف وثّقت السينما لذلك.
صورة مراكز القُوى في السينما
بعد دمج شركة القاهرة للإنتاج السينمائي مع المؤسسة المصرية العامة للسينما، تقلّص عدد الأفلام المُنتج من القطاع العام سنويًا، وكانت هذه أولى إشارات سحب المؤسسة يدها من المسار السينمائي ككل، ومحاولة التعامل معها خلف الكواليس، كأداة لخلق خطاب جماعي مُبطن بتوجهات تعمل على وصم سياسة سابقة، وتُبشّر بغدٍ أفضل خلال السياسات الجديدة.
خلال مرحلة السبعينيات، كانت مراكز القوى في المرحلة الناصرية مادة ركيزة في الأفلام المصرية، نذكرُ منها ( الكرنك – 1975) و (زائر الفجر- 1975)، إضافة إلى الفيلم الشهير (إحنا بتوع الأتوبيس – 1979).
اتسمت هذه الأفلام بصلاحية انتقاد مراكز القوى سابقًا، حيث يظهر القهر والإرهاب، إشاعة الخوف، إبعاد قوى الحوار الوطني، تلفيق التهم والسجن والتعذيب، غياب القانون وظهور الفساد الأخلاقي، تحالُف أجهزة الدولة والتجسس والاغتصاب، كبت حريّة الرأي الآخر.
ربما كان كثير من أفلام هذه المرحلة مُنتجا سينمائيا ثريا وهاما بالفعل، لكنّه كان يفتقد محاولة الموازاة بين سياقات الحكم السياسي وتداخله مع الشأن المجتمعي والثقافي في مراحل مختلفة، لأن التناول السينمائي ككل، حتى ولو كان مُتعرضًا لماضٍ قريب أو بعيد، فإنه بالضرورة مادة لقراءة الحاضر واللحظة الراهنة بصورة أعمق.
انحسر الشكل العام لأفلام نقد مراكز القوى في بعد واحد، وهو إظهار مدى فساد الأجهزة السيادية خلال الحقبة الناصرية، ولأي مدى تحتاج المؤسسة حاليًا إلى التجديد.
خلال نفس المرحلة الزمنية الفارقة، لم يظهر نصر أكتوبر على السينما بذات الصورة البطولية التي حدث بها، وهو ما يشير إلى التعامل المؤسسي مع السينما كمادة للتوجيه فقط، سواء على مستوى الوصم أو الحفاوة.
من بين أكثر أفلام حرب أكتوبر شهرة، فيلم “الرصاصة لا تزالُ في جيبي” الذي يتعامل مع الحرب من منطق سطحي، كتغذية للحكاية ليس أكثر، ولأن الحرب في كل الأحوال تضع محيط أحداثها بالضرورة في سياق بطولي.
في الفيلم تتعرضُ حبيبة شاب هاديء ومثقف للاغتصاب، يحاول تعلم إطلاق الرصاص ليأخذ حق حبيبته من غريمه، ويتقاطع ذلك مع حرب أكتوبر التي يوجّه الشاب فيها غضبه ورصاصه إلى العدو، ثم يعود منتصرًا، وفي جيبه رصاصة لضمان أمان حبيبته.
بعيدًا عن الغياب المفاجيء للمُغتصب في الفيلم، لكن حدث الحرب، وما يطويه من ضخامة وتضحية بشرية وانتصار سياسي، جدير بأن يُعرض خلال قدر ولو بسيط من المعالجة الفنّية، التوثيق الصوري، أو حتى استنطاق روح البطولة الحقيقية في الحرب وإحالتها إلى مادة فيلمية.
بعيدًا عن الرواج الفقير فنيًا، هناك فيلم وحيد في سياق الحرب، استطاع أن يخرج عن هاجس التسليع والتوجيه الإجباري للسينما كمادة للدعاية، صدر فيلم “أغنية على الممر” عام 1972 واستطاع تقديم حكاية إنسانية تشتبك مع الحرب بصورة ممتازة.
في الفيلم ينقطع الاتصال عن كتيبة في الصحراء خلال حرب 1967، وخلال استعراض قصة المقاومة لهذه الكتيبة، نشتبك مع حياة كل مُجنّد منهم، ونختبرُ روح البطولة والمقاومة لأشخاص نستطيع أن نشاركهم همّا إنسانيا وتعاطفا أكبر من محدودية الشفقة، وللمفارقة؛ كان الفيلم على نفس خط زمنه آنذاك، إذ استطاع دون تسطيح فنّي أن يُبشّر بالانتصار والقدرة على استعادة الأرض من جديد.
سينما المقاولات والجمهور الجديد
بعد حصر الحريات في إطار نقد مرحلة سياسية سابقة، ثم التعامل الدعائي مع السينما، سحب القطاع العام يده من الصناعة ككل، بعد أن كانت الحقبة الناصرية لها حضور قوي في العمل الإنتاجي، الذي كان وقتها ذا هامش حريّة محدود أيضًا.
عندما فُتح السوق السينمائي على مصراعيه، وبالتوازي مع ظهور الصاعدين الجدد في القطاع الاستثماري، انتشرت في سوق السينما كُتل إنتاجية قادرة على النبش في مساحات الرواج التي يُمكن جذب المشاهدين بها، بعيدًا عن الجودة الإنتاجية.
كذلك ظهر الموزّع الخارجي لدول الخليج، وبحكم قدرتها الشرائية الأعلى من محدودية مصر، أثر ذلك بشكل كبير على دور العرض المصرية، وتم الاعتماد على شرائط الأفلام لتوزيعها في الخارج.
تشير دريّة شرف الدين في كتاب “السينما والسياسة في مصر” إلى طبيعة أفلام الانفتاح بأنها سينما الجمهور الجديد، وتتحدث عن أنماط مُشتركة لهذه الأفلام.
“استطاعت تلك الأفلام أن تحيط أبطالها، وسلوكهم الأخلاقي والاجتماعي، بهالة من الانبهار، لا يملك معها المشاهد إلا التعاطف مع هؤلاء الأبطال، والغضب على ما يعوق اندفاعهم، حتى ولو اتجه الفيلم في مشاهده الأخيرة لضوابط رقابية لإدعاء نوع من العقاب الأخلاقي أو القانوني يوقع عليهم”.
وتكمل الباحثة تتبعها لمدلول هذه الأفلام، خلال انتقاء عدّة أسماء عشوائية لأفلام مُدرجة ضمن هذه الفئة، مثل: الجبان والحب – بنت اسمها محمود – احترسي من الرجال يا ماما – أونكل زيزو حبيبي – واحدة بتعمل واحدة ونص – رجب فوق صفيح ساخن – قاتل مقتلش حد – شعبان تحت الصفر، وغيرهم.
الواقعية الجديدة وتيار المقاومة
أثّرت أسبقية التربح، وسيادة القطاعات الخاصة قبالة تراجع المشاريع التعاونية والاستهلاكية، على كثير من معطيات الحياة اليومية للطبقة الوسطى، ومثلما حضرت سينما مُباركة الانفتاح بأفكار هزيلة، وتعويل على الجنس بصورة سطحية، وكعامل سلعي يضمن نجاح الفيلم، ظهرت مقاومة فيلمية لجيل جديد، كان لديه التزام سياسي بسبب معاصرته لمرحلتي الستينيات والسبعينيات الفارقة، ولأن التبعات الأولية وتداعيات التغير السياسي، ظهرت كارثيتها سريعًا في الشارع المصري.
عام 1975، صدر فيلم “على من نُطلق الرصاص” للمُخرج كمال الشيخ، نثر الشيخ في فيلمه إشارات خراب القطاع العام من الداخل، وكيف تحوّل فعل التدين إلى سترة للفساد والرشوة، مرورًا بالصعود المادي الضخم الذي نشر ميولا استهلاكية، بينما احتياجات المواطن تزداد فجوة في البعد عنه، وفي سياق مشترك زمنيًا وضمنيًا، صدر فيلم “المذنبون” الذي اتخذ من تبعات الفساد الأخلاقي والسياسي مادة لحكايته.
على خطى الحراك العالمي للسينما خاصة موجة الواقعية الجديدة في إيطاليا، اشترك مجموعة مخرجين في الكشف والتعبير عن التفسّخ المجتمعي، وصعود الاستهلاك والأكواد الماديّة، وانعكاس المناخ السياسي على الشارع.
أفلام في الثمانينيات مثل “الصعاليك” لداود عبد السيد، الذي ابتدأ به مشواره السينمائي، محاولًا تناول ظاهرة الارتقاء الفردي، التي انتشرت كخطاب تراتبي لدى الطبقة الوسطى، كانت فكرة داود مميزة لأنها نظرت إلى رأسملة الفرد، وتحويله إلى مشروع مادي، يمكن له أن يتحقق، لكن ضريبة ذلك يُمكن أن تكون نزعته الإنسانية ذاتها.
ثمّة أفلام أخرى كثيرة، يتذكرها البيت المصري، حتى لو لم تكن لديه اهتمامات سينمائية، من لا يعرف شخصية الشيخ حسني في فيلم “الكيت كات” أو شخصية فارس من فيلم “الحريف” لمحمد خان؟
جميع شخصيات عاطف الطيب الذي كان حنونًا وملتزمًا تجاه نماذج الطبقة الوسطى الباحثة عن أسس العيش، لكن بحثها البديهي يستحيلُ إلى صدام مع المؤسسة، ومع التحاكمات الربحية الجديدة، السابقة على كل حساب إنساني.
بقاء هذه النماذج في الذاكرة، يشير إلى وجود اشتباك مع المدلول المجتمعي في الأفلام، حتى لو كانت اللغة الفيلمية عصيّة على المُشاهد العادي آنذاك، لكنها كانت مفعمة بالأصالة والالتزام، كفاية أن ينظر أحدهم إلى شخصية في فيلم ما، ويشعر بأن هناك هم كتيم مُشترك.
قاوم جيل الواقعية الجديدة في مصر، وسط فرص إنتاجية شحيحة، كان أهمّها ظهور المنتج الفلسطيني حسين القلا الذي أنتج أفلام لمحمد خان وداود عبد السيد ويوسف شاهين، وصلاح أبو سيف في أواخر مسيرته.
بالنظر إلى موقع السينما التوثيقي لمرحلة الانفتاح وتبعاته، تظل الأفلام المروّجة والمناهضة مادة ممتدة لقراءة الحاضر بلغة الماضي، لأن المشهدين الفنّي والسياسي قريبان من ذلك السياق، غير أننا في هذه المرحلة نفتقرُ إلى كتلة لديها التزام مُشترك، أو بالأحرى؛ نفتقرُ إلى متطلبات مناخ لخلق هذه الكتلة، كي تستطيع أن تشير، وتكشف، انطلاقًا من الجودة وعدم الاستسهال، ما نُعايشه من ظواهر جديرة بالنقد، وتطورات فارقة تستلزم التوثيق.
تعليقات علي هذا المقال