“إذا ضحينا بالحرية باسم الأمن، فإننا نجازف بفقدان كليهما”
باراك أوباما
هذا تمامًا ما حدث، وما يزال يحدث حتى الآن في كثير من تجارب الديمقراطية في إفريقيا، فمنذ أوائل التسعينيات، حدثت تحولات كبيرة في الأنظمة السياسية في عدة بلدان إفريقية؛ وأدَّت هذه التحولات -على سبيل المثال- إلى زوال نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وسقوط العديد من الديكتاتوريات المدنية والعسكرية، مما مهَّد الطريق لإنشاء أنظمة حكم قائمة على سيادة القانون، وإدخال مجموعة من الإصلاحات الديمقراطية، ورغم ذلك، ما تزال عدة دول في القارة تكافح من أجل تعميق الديمقراطية، والتعامل الفعَّال مع محاولات التلاعب بتلك الإصلاحات، وقفز الحكومات عليها لإحكام سيطرتها، وضمان بقاء قادتها فترات أطول في الحكم؛ في الغالب بحجة تحقيق الأمن.
طرق الانتقال في إفريقيا
ورغم أن الطبيعة والظروف تختلف من بلد إفريقي إلى آخر، فقد تمَّ تحديد نمطين أساسيين في أنماط الانتقال إلى الديمقراطية بإفريقيا، حيث يحدث التحول من الأعلى عندما يستجيب الحكام لأزمة وشيكة أو فعلية، من خلال الشروع في إصلاحات ديمقراطية، ويحدث من الأسفل عندما تكون هناك ضغوط شعبية مُتزايدة بهدف الانتقال نحو مجتمع أكثر ديمقراطية.
يرى البعض أن التحولات من أعلى هي الأكثر قدرة على تحقيق الديمقراطية، لأنها تميل إلى أن تكون أكثر تحديدًا فيما يتعلَّق بإطارها الزمني، وخطواتها الإجرائية، وإستراتيجيتها العامة، بينما تعاني التحولات من أسفل قدرا كبيرا من عدم اليقين.
في حين يميل آخرون -ونحن معهم- إلى أن في كثيرٍ من الحالات يجري الجمع بين نمطي الانتقال؛ إذ اشتملت بعض حالات تغيير النظام على بعض المفاوضات، صريحة أو ضمنية، علنية أو سرية، بين الحكومة وجماعات المعارضة، وبدأت بعض التحولات الأخرى بنوع معين، ثم أصبحت نوعًا آخر، لاسيما إن كانت الحكومة غير واثقة إلى أي مدى تريد أن تمضي في الإصلاح.
وأيًا كانت الطريقة التي جرى اعتمادها للانتقال؛ تظل الإشكالية هنا فيما إذا كان سيجري استبدال الديكتاتوريين الذين أزيحوا بأنظمة ديمقراطية، أم بديكتاتوريات أخرى بديلة.
وقد شهدت القارة أربعة نماذج جرى استخدامها لإزالة الديكتاتوريين من مناصبهم، والانتقال نحو الديمقراطية؛ هي: المؤتمرات الوطنية، أو الثورات الشعبية، أو الانقلابات العسكرية، أو تشكيل المواثيق.
برزت المؤتمرات الوطنية في مطلع التسعينات، خاصةً في الدول الفرانكفونية، بوصفها وسائل للتمثيل والمساءلة وتشكيل التوافق، وقد عقدت نتيجة لضغوط المواطنين والنخبة للحوار العام حول عملية التحول الديمقراطي في دول مثل: بنين، ومالي، والجابون، والكونجو، ونيجيريا، وزامبيا.
بالإضافة إلى ذلك، دعت جماعات المعارضة في الكاميرون، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وغينيا، وساحل العاج إلى عقد مؤتمرات وطنية في بلدانها، وتمكنت -في بعض الحالات- من تقليص أو إلغاء سلطات الحكام إلغاءً غير رسمي، كما حدث في بنين وتوجو.
وتبيَّن من تلك التجارب؛ أنه يُمكن اعتبار تلك المؤتمرات فرصا لتحديد قضايا الانتقال، وإرساء المُساءلة، وتعبئة قطاع عريض من الجماهير الشعبية؛ لكنها لم تُؤسس لديمقراطيات فاعلة.
ثم برزت الثورات الشعبية؛ كما في حالة وإثيوبيا وبوركينا فاسو وشمال إفريقيا، وكذلك الانقلابات العسكرية كما في مالي وتشاد وغينيا والنيجر، وتشكيل الاتفاقيات، مثل: اتفاقية لانكستر هاوس، واتفاقية جنوب إفريقيا الديمقراطية، والمفاوضات في كلٍ من أنجولا وموزمبيق.[1]
إفريقيا بين الانتخابات والانقلابات
انتقلت القارة السمراء من حوالي خمس انتخابات في الخمسينات، إلى أكثر من 37 عملية انتخابية، محسومة لمُرشح واحد بلا منازع بحلول الثمانينات، وكان هذا الوقت مواتيًا لتمثيل أكثر شمولًا وتنافُسًا، فبدأ المواطنون يطالبون بمزيد من التمثيل.
ولم يكن الانتقال من الانتخابات غير المتنازع عليها إلى الانتخابات التنافسية سلميًا، مع العديد من التدخلات العسكرية في جميع أنحاء القارة؛ فقد شهد العقد ١٩٨٠-١٩٨٩ أكبر عدد من الانقلابات في تاريخ إفريقيا.
وبحلول نهاية التسعينيات، كانت قد عانت عدة دول من تكلفة الانقلابات، وكان هناك رفض مُتزايد للانقلابات العسكرية، وظهور أحزاب معارضة في جميع أنحاء القارة.
خلال سنوات قليلة، اتسعت دائرة الانتخابات التنافسية اتساعا كبيرا، من حوالي 20 في الثمانينات إلى 72 في التسعينات، إذ أدخلت الدول الإفريقية حدودًا لفترة الولاية، وخفَّضت مدة الرئاسة من سبع سنوات إلى خمس سنوات أو أقل، واعتمدت دساتير جديدة، وتوطَّد هذا الاتجاه في نهاية العقد الماضي، وأصبح مفهوم الانتخابات التنافسية متعددة الأحزاب أمرًا شائعًا.
وفي الوقت الذي يُمكن اعتبار الانتخابات الحرة والمنتظمة قيدًا على الاستبداد بالسلطة، إلا أنها تظل غير كافية لضمان الحرية وحراستها، وبينما يُمكن للانتخابات أن تساعد الدول الإفريقية على ترسيخ الديمقراطية وتعميقها؛ فإنها يُمكن أيضًا أن تُمهِّد الطريق لسيطرة الأغلبية على حساب الأقلية.
فعلى سبيل المثال، الأنظمة الاستبدادية في دول مثل الكاميرون، وجمهورية الكونجو، وغينيا الاستوائية، استخدمت الانتخابات لإضفاء الشرعية على قادتها، والبقاء في السلطة إلى أجلٍ غير مُسمى.
في حين التزم الرؤساء في بعض الدول، مثل كينيا وليبيريا وغانا بحدود ولايتين؛ استخدم آخرون المجالس التشريعية الخاضعة للرئيس لتغيير دساتيرهم، للسماح لهم بالبقاء في السلطة مدة أطول، وفي بعض الحالات إلى أجلٍ غير مُسمى.
خلقت هذه التغييرات أوضاعًا تجعل من الصعب على المعارضة المشاركة التنافسية في الانتخابات، ومن بين الرؤساء الذين غيروا دساتير بلدانهم لإلغاء حد الفترتين على سبيل المثال، غناسينغبي إياديما (توجو)، ويوري موسيفيني (أوغندا)، وإدريس ديبي (تشاد)، وبول بيا (الكاميرون)، وبول كاجامي (رواندا)، والراحل بيير نكورونزيزا (بوروندي)، وعبد الفتاح السيسي (مصر).
حيث تمَّ تغيير الدستور في تلك الدول لإلغاء فترة الرئاسة، أو حدود العمر، والسماح للرئيس الحالي بتمديد ولايته بالتحايل على الدستور، ما اعتبره البعض انقلابًا دستوريًا، ومن الجدير بالذكر أن المؤسسات الضعيفة نسبيا وغياب الثقافة الديمقراطية، قد سهّلا قدرة شاغلي المناصب على التلاعب بالدساتير في تلك الدول، وتُضعف هذه الانقلابات الدستورية من دور الانتخابات؛ بوصفها أداة لإرساء الديمقراطية، والأسوأ من ذلك، في بعض الدول مثل: الكاميرون أو جامبيا؛ أسهم هذا التحايل على الدساتير إسهاما كبيرا في تصاعد الردود العنيفة للجماعات العرقية والثقافية المهمشة.[2]
مُلاحظات على مراحل التحول
كانت هناك مجموعة من المُلاحظات على تلك الفترات التي مرَّت بها الدول الإفريقية. أولاها: في حين أن العديد من البلدان قد انتقلت من حزب واحد إلى انتخابات سلمية تنافسية، ظلَّت هناك هيمنة كبيرة لشاغلي المناصب على نتائج الانتخابات، ويشير هذا إلى أن العملية التنافسية ليست ناضجة بما يكفي لتقديم النتائج التي تهدف تلك الدول إلى تحقيقها.
وثانيها: كانت الدول التي شهدت أكبر تغيرات في القيادة هي التي جرى فيها الالتفاف على العملية التنافسية، كما هو الحال في نيجيريا وجزر القمر وليبيا وبنين وغانا والصومال، وشهدت تلك الدول العديد من عمليات انتقال السلطة، كانت في معظمها بسبب انقلابات عسكرية.
إذ تتصدَّر نيجيريا المجموعة بأكثر من 16 عملية انتقالية، بينها 6 انقلابات، تليها دول أخرى مثل جزر القمر مع 5 انقلابات، وأكثر من 12 عملية انتقال للقيادة، وهناك دول مثل غانا ونيجيريا؛ انتقلتا من الانقلاب إلى انتخابات تنافسية ولم تتراجعا أبدًا، بل واصلتا تحسين العملية التنافسية.
وثالثها: نجحت الدول التي أطلقت عمليات انتقالية تنافسية بعد فترة وجيزة من الاستقلال، مثل موريشيوس وزامبيا وبوتسوانا، في الحفاظ على الزخم ولم تتعرَّض لانقلابات أو اضطرابات أخرى في السلطة، في حين أن دولًا مثل ليبيريا التي أُعيد فيها انتخاب نفس الزعيم، انتهى بها الأمر بانقلابات، قبل أن تستقر مرة أخرى وتعود للعمليات الانتخابية التنافسية.
ورابعها: كانت هناك مؤشرات على أن المواطنين في الدول التي لم تتجذَّر فيها عملية تنافسية حقيقية؛ سيكونون أرضًا خصبة للانتفاضات الشعبية وعدم الاستقرار والإرهاب،[3] وهو ما حدث بالفعل لاحقًا، ويُمكن القول إن هناك بعض الخبرات التي يُمكن استخلاصها من بعض الدول الإفريقية في طريقها نحو الانتقال الديمقراطي؛ نذكر منها الآتي:
نيجيريا: خطوات مهمة لتعزيز الديمقراطية
استخدمت الحكومات العسكرية النيجيرية خلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضي إستراتيجيات تعطيل التحول الديمقراطي، التي كانت مألوفة لدى مجموعة المجالس العسكرية في المنطقة وقتها، مثل قمع المعارضة وتأجيل الانتخابات المتكرر.
علاوةً على ذلك، وفَّرت احتياطات نيجيريا النفطية الوفيرة لقادتها قدرًا أكبر من الراحة أمام الضغط الدولي؛ من أجل التحول إلى الديمقراطية، وهي ميزة يفتقر إليها قادة آخرون، وقد ساعد نشاط المجتمع المدني على تحقيق انتقال ناجح إلى الحكم الديمقراطي، مما جعل نيجيريا نموذجًا إقليميًا يُحتذى به.
أدَّت الإصلاحات التي وضعها الرئيس الأسبق أولوسيغون أوباسانجو، مثل تقاعُد جميع الجنود الذين شغلوا مناصب سياسية، إلى إبعاد الجيش عن السياسة بقدرٍ كبير، ويعمل المسؤولون النيجيريون أيضًا على تطوير ثقافة تقاسم السلطة بين الأحزاب والمناطق ومستويات الحكومة، وكانت إحدى النتائج هي المبادرات الأمنية الإقليمية، التي تُقلِّل من الاعتماد على القوات الوطنية، وتسمح للدولة بالرد على العنف ردًّا أكثر مرونة.
ولا يعني هذا أن المشهد السياسي في نيجيريا يتسم بالكمال؛ ولكن على الأقل تم تجاوز عدم الاستقرار الناتج عن خمس انقلابات وعقود من الحكم العسكري، ورغم عدم قدرة الحكومة الفيدرالية القضاء على تمرد جماعة بوكو حرام المستمر منذ عقد من الزمان، فقد صمدت الديمقراطية النيجيرية، في تناقض صارخ مع مالي وبوركينا فاسو.[4]
جامبيا وغانا: تقديم التنازلات مع النفس الطويل
أدركت كلتا الدولتين أن رجل الجيش إذا وجد أنه أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التمسك بالسلطة، أو السجن وربما الموت؛ فسوف يستميت للبقاء في منصبه، وهي مخاطرة ينبغي تجنبها كلما كان ذلك ممكنًا.
في جامبيا؛ كان يحيى جامع مُستعدًا للتنحي عن السلطة؛ بعد خسارته الانتخابات الرئاسية في ديسمبر ٢٠١٦، لكن حين أعلن مرشح المعارضة الفائز أداما بارو أنه سيُحاكم جامع، تصلَّب موقف الأخير وأعلن حالة الطوارئ، بذريعة وجود مخالفات شابت العملية الانتخابية، وحاول الضغط على البرلمان لتمديد حكمه مدة ثلاثة أشهر، ولولا الضغوط الدولية والوساطات الإقليمية لما قبل -في النهاية- بتسليم السلطة.
جامع جاء في الأصل إلى السلطة بعد انقلاب يوليو ١٩٩٤، ومثل تلك الحالة لا يصح التعامل معها من خلال سياسات الانتقام، التي سارعت إليها المعارضة بالحديث عن إلغاء انسحاب جامبيا من المحكمة الجنائية الدولية، ورفض منح الرئيس السابق الحصانة من الملاحقة، والتهديد بالاستيلاء على أصوله.
إذ جرى تقديم تنازلات في البداية؛ إلا أن ذلك لم يمنع ضحايا نظام يحيى جامع من التمسك بحقهم في تقديمه وشركائه الرئيسيين إلى العدالة فيما بعد، إذ شكَّلوا تحالفًا يسعى إلى تعزيز صوت الضحايا في العملية الانتقالية، ومساعدة الحكومة على استرداد أصول جامع.
وفي غانا رفض جون كوفور، زعيم الحزب الوطني الجديد، مقاطعة انتخابات ١٩٩٢، أول استحقاق تشهده البلاد عقب إقرار الدستور الجديد، رغم معرفته المُسبقة بإمكانية خسارته، اقتناعًا منه بضرورة مشاركة حزبه مستقبلًا في الانتخابات التالية.
وبالفعل، أدى فوز كوفور اللاحق في انتخابات عام ٢٠٠٠ إلى انتقال سلمي للسلطة عبر صندوق الاقتراع، إذ كان كوفور مقتنعًا بعدم إمكانية انتزاع السلطة من قبضة جيري رولينجز، الذي قاد انقلابين ناجحين على مدى ٢٠ عامًا قضاها في سدة الحكم، دون النضال عبر اتِّباع سياسة النفس الطويل.
الخلاصة
يتضح لنا في الأخير أن تجارب الانتقال الديمقراطي في إفريقيا جميعها متشابهة، بكل ما يُقابلها من معوقات ونجاحات، إذ إن جميع تلك الدول تجمعها تقريبًا نفس الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضًا التجارب التاريخية، بما في ذلك دول شمال إفريقيا، التي يحاول البعض الفصل بينها وبين دول إفريقيا جنوب الصحراء؛ بحجة اختلاف الظروف والتجارب، إلا أنها تنتمي إلى نفس القارة، وتعاني من نفس الظروف والتحديات.
ومن أجل تعزيز وترسيخ الديمقراطية في إفريقيا، ثمَّة حاجة إلى إصلاحات حقيقية؛ تكون فيها مُراعاة خصوصية كل دولة، مع الوضع في الاعتبار ما خلصنا إليه من عرض بعض التجارب؛ فمن ناحية يُعد امتلاك الدولة مُقدراتها أحد أهم دعائم تلك الإصلاحات، ومن ناحية ثانية تنحية المؤسسات العسكرية عن السياسة، ومن ناحية ثالثة تقوية المجتمع المدني؛ بحيث يمكنه مساءلة الحكومات والتأثير على مستقبل الديمقراطية، ومن ناحية رابعة فإن اعتماد سياسات النفس الطويل مع قليل من التغاضي المؤقت عن بعض الحقوق قد يُفيد أحيانًا، وكما يقول نيلسون مانديلا: “القـوة ليست دائمًا فيما نقول ونفعل؛ أحيانًا تكون فيما نصمت عنه، فيما نتركه بإرادتنا، وفيما نتجاهله”.
المصادر
[1] National Academies of Sciences, Engineering, and Medicine, “Democratization in Africa: African Views”, African Voices, (Washington, DC: The National Academies Press, 1992). At: https://doi.org/10.17226/2041
[2] John Mukum Mbaku, “Threats to democracy in Africa: The rise of the constitutional coup”, BROOKINGS, 30/10/2020. At: https://cutt.us/xuItC
[3] Vera Songwe, “From strong men to strong institutions: An assessment of Africa’s transition towards more political contestability”, Brookings, 4/8/2015. At: https://cutt.us/2wxOM
[4] Daniel Baltoi, “A Deeper Look Into the West African Coup Wave”, Foreign Policy Research Institute, 9/1/2023. At: https://cutt.us/l34nF
تعليقات علي هذا المقال