يقولون القراءة غذاء الروح كما أن الطعام غذاء الجسد، ونقول القرآن هو الروح التي تبعث في القلب الحياة، فأي حياة أعظم للنفس والأمة من حياة القرآن؟!
وأي استقامة لحياة الإنسان بدون روح القرآن الذي هو روحٌ من خالق السموات والأرض، أنزله روحا ليغذي به أرواحنا وعقولنا وقلوبنا، وجعل الروح اسما من أسماء القرآن وألقاه على عبده ومصطفاه، يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده، ولم يختلف أحد من أهل التفسير في القديم والحديث على أن الروح المشار إليها هنا هي القرآن.
وكفى بذلك دلالة على سره الإحيائي العجيب الذي يبعث في القلب شعورا بالحياة والاطمئنان والسكون، كيف تستقبل أيها الإنسان قوله تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ”؟!
هي دعوة للحياة، دعوة الله حياة، دعوة الرسول حياة، دعوة الإسلام حياة، القرآن كله حياة، فكيف لا تستجيب للحياة أيها المسكين؟! كيف تدرك أن دعوة الله لك في كل شيء هي الحياة، ولا تستجيب؟! بل كيف لا تكتفي بعدم الاستجابة للدعوة، وتضيف إلى ذلك استجابة لغيره من الدعوات والأفكار والمعتقدات وتدافع عن ذلك بكل ما أوتيت من قوة، كم أنت عجيب يا عبدالله؟!
يقول قتادة، وهو أحد أئمة التفسير من التابعين: قوله تعالى “لما يحييكم” هو هذا القرآن، فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة، وانظر إلى هذا الموقف العجيب وكيف يربي النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابة على الاستجابة الفورية لأمر الله ورسوله، وكيف كانت ردودهم على هذه الدعوات، انظر وأدرك ما حلّ بنا اليوم من عظيم الإعراض عن أمر الله ورسوله.
يروي الطبري في تفسيره فيقول: حدثنا أحمد بن المقدام العجلي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا روح بن القاسم، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أبيّ وهو يصلي، فدعاه: أيْ أُبَي! فالتفت إليه أبيّ ولم يجبه، ثم إن أبيّاً خفف الصلاة، ثم انصرف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: السلام عليك، أي رسول الله! قال: وعليك، ما منعك إذ دعوتك أن تجيبني؟ قال: يا رسول الله، كنت أصلي! قال: أفلم تجد فيما أوحي إليّ: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم؟ قال: بلى، يا رسول الله، لا أعود.
يا صديقي، هذا الدين منهج حياة كاملة، وهذا القرآن منهج واقعي تنمو في ظله الحياة وتترقى، ومن ثم هو دعوة إلى الحياة في كل صورها وأشكالها، وتعبير القرآن يجمل ذلك كله في كلمات معدودة موحية.
استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، استجيبوا طائعين مختارين، فهو سبحانه قادر على قهركم على اتباع الهدى والاستجابة له إذا أراد “وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ”.
الله قادر على تصريف قلبك للهدى كيف يشاء وفي الوقت الذي يريد، يفصل بين المرء وقلبه ويستحوذ على القلب و يصرفه كيف شاء، ويقلبه كما يريد، وصاحبه لا يملك من أمره شيئا، ولذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو المعصوم يكثر من دعاء ربه: “اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك”، فكيف بالناس، وهم غير مرسلين ولا معصومين؟!
إن هذا القرآن هو الروح الذي نفخه الله في العرب، فأخرج منهم خير أمة أخرجت للناس، وانبعثوا بروح القرآن من الموت المحقق بدونه، طيورا تحلق في الآفاق، وأخرجهم به من ظلمات الجهل ومتاهات الضلال إلى أنوار المعرفة والعلم، إلى الله الخالق، يبصرون بنور القرآن طريقهم ويرشدون به تائههم.
هذا الروح الرباني العظيم الذي ينفخ الحياة في الموتى من القلوب والنفوس في كل زمان ومكان، هذا الروح الذي قال عنه أعتى عتاة المشركين الوليد بن المغيرة: ” وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم مني بالشعر، ولا برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله محمدٌ شيئا من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإن له لطلاوة، وإنه لمنير أعلاه، مشرق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه محطم ما تحته!
هذا الروح الذي أنتج صحابيا مثل ربعي بن عامر الذي وقف أمام قائد جيوش الفرس بكل عزة وفخار يقول قولته المشهورة: “إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه حتى نفيء إلى موعود الله”.
هذا الروح الذي تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله قشعريرة حقيقية في البداية، لكن ما إن تكمل سماع آيات من القرآن حتى تُستبدَل هذه القشعريرة بلين كامل واطمئنان نفسي هادئ لهذا الكلام القوي المعجز، وأحيلك -كي ترى هذا الحديث واقعا في قلبك ونفسك- إلى مزيج من آيات القرآن الدامجة بين النعيم والعذاب والتداخل المبدع بينها.
افتح مصحفك في أواخر سورة الدخان واقرأ بكل مشاعرك ما تقع عليه عينك من الآيات.
“إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)”
هل أحسست بالقشعريرة واللين يتتابعان ويتداخلان في عقلك وقلبك؟! أم أن هذه الجرعة ليست كافية لتحقق هذه المعادلة؟ أزيدك جرعة أخرى حتى تحقق هذا الشعور الكامل الذي وصفه لك الروح الرباني المتنزل من فوق سبع سموات.
“هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)”
لعلك أدركت الآن القشعريرة المتبوعة باللين، يا صاحب القرآن، وكل مؤمن هو صاحبٌ للقرآن، املأ خواء جوفك وقلبك بروح الله الذي أنزله إليك، ألم تسمع إلى ما قاله سيد البشر: “لَمَّا صَوَّرَ اللَّهُ آدَمَ في الجَنَّةِ تَرَكَهُ ما شاءَ اللَّهُ أنْ يَتْرُكَهُ، فَجَعَلَ إبْلِيسُ يُطِيفُ به، يَنْظُرُ ما هُوَ، فَلَمَّا رَآهُ أجْوَفَ عَرَفَ أنَّه خُلِقَ خَلْقًا لا يَتَمالَكُ” رواه مسلم.
علم إبليس منذ لحظات خلق الإنسان الأولى أنه أجوف، محتاج إلى زاد مادي وروحي، فسخر جميع أسلحته ليبطش بالإنسان من هذين الجانبين، المادة والروح، فزين للإنسان الحرام حلالا والسوء إحسانا والبخل حرصا والجبن سلامةً، وأدرك أنه ضعيف أمام الشهوات، لأنَّ الجَوفَ يَقلبُه ويَذهَبُ بهِ هُنا وهُناك، والأجوفُ: ضَعيفُ الصَّبْر مِن حيثُ إنَّه لا يَثبُتُ ثُبُوتَ مَا لَيْسَ بأجوف، فهلا ملأت الجوف بروح الله.
يا صاحب القرآن، النور يسري فيك فأدرك وميضه، ألم تسمع قول الله: “أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”.
كذلك كان المسلمون قبل هذا الدين، قبل أن ينفخ الإيمان في أرواحهم فيحييها، ويطلق فيها هذه الطاقة الضخمة من الحيوية والحركة والتطلع والاستشراف، كانت قلوبهم مواتا، وكانت أرواحهم ظلاما، ثم إذا قلوبهم ينضح عليها الإيمان فتهتز، وإذا أرواحهم يشرق فيها نور القرآن فتضيء، ويفيض منها النور فتمشي به في الناس تهدي الضال، وتلتقط الشارد، وتطمئن الخائف، وتكشف معالم الطريق للبشر وتعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد، الإنسان المتحرر المستنير، الذي خرج بعبوديته لله وحده من عبودية العبيد.
قل لي بالله عليك، أهناك عاقلٌ يترك الروح والنور والحياة تغيب عن ناظريه وقلبه؟! كيف سيعيش؟! في الظلام الدامس؟! أم بدون روح؟! بماذا سيملأ جوفه؟ بالخرافات والترهات والأفكار الفاسدة؟! غياب القرآن هو غياب لروحك، فإن استطعت أن تعيش بدون روحك فافعل، فإنها حياة الأموات.
تعليقات علي هذا المقال