لم تكن الحياة عادية أو عادلة أبدا في الأرجنتين، ربما لأن التضخم وصل إلى نسبة 100%، وربما أيضا لأن العملة الرسمية للبلاد تنهار بسرعة جنونية مقارنة بالدولار الأمريكي، وكذلك لأن 40% من السكان يعيشون تحت خط الفقر.
ما علاقة كرة القدم إذن بالوضع العام للبلاد؟ في الأرجنتين يعتبرون كرة القدم مثل الأوكسجين، لا يمكن الاستغناء عنها، وتنعقد آمالهم على نجوم المنتخب كي يمنحونهم شيئا لم تمنحهم إياه حياتهم المضنية.
في الأرجنتين يسألونك من تشجع قبل حتى أن يسألونك ما اسمك؟ أو من أين أنت؟ بالنسبة لهم، كرة القدم هي أولوية الأولويات؛ لذلك؛ صبوا فوق رأس ميسي أحلامهم التي لم تتحقق من بعد مارادونا.>
مارادونا معشوق الشعب
كل شيء تقريبا يعود إلى عام 2007، تلك الليلة التي ظهر فيها للعالم لاعب أرجنتيني اسمه ليونيل ميسي، راوغ نصف فريق خيتافي وسجل هدفا رائعا للغاية، لكن لسبب لا يعلمه ميسي نفسه، بدأ العالم يتذكر متى رأى هذا المشهد؟ كيف استطاع ميسي إحياء هذه الصورة بعد اكتساح التراب عليها؟
إنه هدف مارادونا أمام المنتخب الإنجليزي في كأس العالم 1986 بالمكسيك، ومنذ ذلك اليوم بدأت المقارنات اللعينة، وحُكم على ميسي بأن يكون استنساخا للأسطورة القديمة، وأن يجلب كأس العالم والنجمة الثالثة التي اختفت من سماء الأرجنتين منذ ذاك العام، خاصة مع تألقه الكبير في صفوف فريقه برشلونة، وتقديمه مستويات رائعة وتحطيمه أرقاما قياسية مذهلة.
طوال هذه المدة، لم يكن حب الشعب الأرجنتيني لمارادونا خاصا بكرة القدم فحسب، بل ما فعله مارادونا أمام إنجلترا، إنجلترا بالتحديد، الدافع السياسي الذي دخل به المباراة، والكراهية الشديدة التي حملها في قلبه للإنجليز.
لم ينس مارادونا ما فعلته إنجلترا بالأرجنتين قبل عشرين عاما، حينما أقامت كأس العالم في أرضها، كانت مباراة ثمن نهائي المونديال، وكانت الأرجنتين تواجه الجميع في ملعب المباراة، لدرجة أنها واجهت الحكم نفسه، يوم أن طُرد قائد المنتخب أنطونيو راتين، والذي قال فيما بعد إنه لم يفهم ما أراد الحكم قوله ولا حتى لماذا طرده، ولم يتوقف الأمر عند هذه المرحلة.
بعد نهاية المباراة، حاول الجانب الإنساني في اللعبة أن ينتصر على العداء الحادث بين المنتخبين، لكن منعه ألف رامسي، وألف كان مدرب المنتخب الإنجليزي وقتها، الذي رفض فكرة تبادل القمصان مع لاعبي المنتخب الأرجنتيني قائلاً: “لا نُبدل قمصاننا مع الحيوانات”.
لم ينس مارادونا أبدا، ولا شعبه، لا أحد ينسى ما فعلته إنجلترا في حرب الفوكلاند، حينما أخذت بنادقها وعتادها وراحت تسفك دماء الأرجنتينيين، هل تعرف الآن لماذا كان دافع مارادونا سياسيا قبل أي اعتبار رياضي؟
في يوم المباراة، هناك واقعة شهيرة جدا، واقعة يد الله، الهدف الذي سجله مارادونا بيده قبل هدفه التاريخي بمراوغة نصف الفريق الإنجليزي، مارادونا لم يكن يقصد حقاً أن الله تدخل لنجدة الأرجنتين، بل لكي يكيد الإنجليز، ليستفزهم، ليُشعرهم بأن الفوز حتى وإن كان مسروقا فهو شريف إذا كان أمام إنجلترا تحديدا.
ولم يكتف بفعلته، بل خرج بعد المباراة ليُهدي هذا الفوز إلى أمهات الجنود الذين رحلوا في حربهم ضد إنجلترا على جزر الفوكلاند.
لا لأن مارادونا حقق كأس العالم فقط، ولا لأنه منح الأرجنتين نجمتها الثانية عام 1986 فحسب، بل لأنه فعل ذلك أمام المنتخب الذي تعامل بدونية شديدة مع الأرجنتين، ولأنه حمل في قدميه بندقية أطلقت رصاصها في قلوب الإنجليز!
حب الشعب الأرجنتيني لمارادونا لم يتوقف عند سقف، بل طال السماء، هناك؛ في نفس المدينة التي وُلد فيها ميسي، شُيدت الكنسية التي يُعبد فيها مارادونا! نعم، الكنيسة المارادونية، والتي يعتنق ديانتها أكثر من 200 ألف شخص.
يؤمنون بأنه الإله المُخلص، الذي انتشل الأرجنتين من تيهها، ومارادونا نفسه تجسد هذا الإله وآمن به، وبدأ يتصرف على هذا النحو، الإله الذي جعل لكرة القدم ولنفسه قدسية لا تُمس، يمكنه أن يتحدث كيفما شاء، ويمكنه أن يفعل أي شيء، ولن يجد مُعارضا، بل يجد دائما داعمين ومؤيدين، وأيضا مؤمنين.
عصر الفتى الذهبي
لم يختر ميسي الأسطورة التي يمكن أن يكونها، فقد وُلد في دولة بطلها وأسطورتها مارادونا، وليس هناك ما هو أصعب من ذلك على لاعب كرة قدم.
حتى لو تبرأت الأرجنتين منه في صغره، ولم تستطع أن تُوفر له حق علاج مرضه الشهير، نقص الهرمونات، بسبب الحالة الاقتصادية السيئة للبلاد، وتكرار إعلان حالة الإفلاس، وكان ميسي مواطنا عاديا، حاله حال الغالبية العظمى من شعبه، ولولا برشلونة لكان ليونيل ميسي اليوم يقف في ورشة حدادة أو يعمل كنادل في أحد المطاعم المُطلة على سواحل الأرجنتين، يندب حظه على أنه وُلد أرجنتينيا ولم تُنقذه موهبته.
بسبب هذا الجفاء، تحول ميسي إلى مواطن أوروبي، بطباع الأوروبيين وسلوكياتهم في نظر شعبه، لذا كانوا يكرهون أن يُلقب أو يوصف أو حتى يُقارن بمارادونا، لا لشيء أكثر من أن مارادونا لم يكن مجرد لاعب بالنسبة لهم، بل كان قائدا ثوريا في نظرهم ونظر ميسي نفسه.
في وسط هذا الخلاف، لم يبح ميسي أبدا بما في خاطره، بل قال إنه لو لعب ألف سنة لن يكون مارادونا ولا حتى أفضل منه، لكن تصريحاته لم تشفع له، واعتبره الشعب مجرد مواطن أوروبي ثري لديه جواز سفر أرجنتيني، يأتي في صمت ويرحل في ضجر، لا يفعل ما يُشعرهم أنه واحد منهم ولا حتى يحاول أن يُظهر ذلك.
بعد خسارة النهائيات الثلاث، في الفترة من 2014-2016، وبعدما أعلن اعتزاله اللعب دوليا، لم يكن يرغب في تمثيل الأرجنتين مجددا، حينها انقلبت الأدوار وتبدلت، كان يريد أن يشعر أنه أرجنتيني ولو لمرة واحدة في حياته، بعد اتهامات الصحافة، وغضب الشعب.
حدث له ما أراد، وعاد بعد خروج الشعب في مظاهرات تُطالبه بالعدول عن قراره، ولم تكن العودة في بدايتها كما توقعها، إلى أن وجد نفسه محاطا بفريق يحبه ويعتبره قائده، لاعبين كانوا يشاهدونه على التلفاز واليوم هم زملاؤه في المنتخب.
ابتسم له القدر في البرازيل، وأمام البرازيل، بلقب كوبا أميركا 2021، وكانت الكوبا هي الباب الذي فتح أبوابا أخرى أمامه، في ويمبلي، عاد المنتخب بعد عام 1966، لا ليواجه إنجلترا بل ليواجه بطل اليورو، منتخب إيطاليا، ويحقق أمامه كأس الفيناليسما.
ثم كانت المحطة الأهم في قطر، التي دخلها ميسي بقطار سريع وجماهير غفيرة، من الأرجنتين ومن كل أنحاء العالم، جماهير تتمنى له أن يفرح للمرة الأخيرة، بالكأس التي ستُرضي شعبه وتجعلهم يؤمنون به، وهي الكأس التي جعلت مارادونا مُقدسا.
في يوم الثامن عشر من ديسمبر 2022، قرابة عصر اليوم، كانت الأرجنتين بأكملها تقف على قدم وساق، كان الناس يُصلون في الشوارع من هول ما رأوا في نهائي كأس العالم، وبعد أن تمنعت الكأس عليهم مرات خلال نفس الليلة، وبعد أن ظنوا أنها قريبة للغاية من فرنسا بعدما كانت أبعد من أحلام الفرنسيين أنفسهم.
كان للأرجنتين أن تبكي، للمرة الأولى فرحا لا حزنا على أوضاعها السياسية والاقتصادية المضنية، وحصل ميسي على شهادة ميلاد رسمية تُفيد بأنه أصبح أرجنتينيا باعتراف كرة القدم وشعبه، وتجوز مقارنته بمارادونا وتشبيهه به.
الأرجنتينيون يخرجون إلى الشوارع للاحتفال، وينسون ما تمر به البلاد، من انهيار العملة الرسمية مقابل الدولار، متناسين أن 40% من شعبهم تحت خط الفقر، ومتناسين أيضا أن هذه الكأس قد أثلجت صدورهم نحو قائدهم، وآمنوا به أخيرا، واعتبروه واحدا منهم.
اليوم، يُقدسونه، ويعتبرونه في مرتبة مارادونا، بجوار مارادونا، يُقارن به، ويمنحونه حقا لم يأخذه حتى حينما طلبه في أوقات سابقة، ليست الموهبة وحدها؛ فلو كان الأمر رهين الموهبة لحققها ميسي منذ أول ظهور له، الأمر أكبر من ذلك بكثير، إنها الحياة بشكل عام، والمنحنيات التي تحدث حتى لأكثر الناس موهبة وعبقرية.
اللحظات المجيدة التي حدثت في قطر، كانت لها ضرائب باهظة في مواقع أخرى، بعد التشتت بين نار الحسرة ومشهده يمر بجوار الكأس، في السابق، متحاشيًا النظر إليها، ها هي اليوم بين يديه.
حتى على الموهوب، لابد أن يحاول مرة أولى وثانية وثالثة، يسقط وينهض ثم يسقط وينهض حتى يحقق حلمه، تُعلمنا هذه القصة، أن اللحظات المريرة لا تدوم، إذا ما قرر صاحبها أن يُغيرها، بنفسه، وأن الطريق الشاق، الذي تخبرك كل إشاراته أن تعود، وتواصل؛ نهايته الوصول.
تعليقات علي هذا المقال