الرأسمالية المتصدعة هي الترجمة المستخدمة بشكل أكبر في المقالات التي عرضت الكتاب، ولكن عادلي المؤلف فضل استخدام المهشمة في أحد لقاءاته التي كان يتحدث فيها عن الكتاب، وهو اسم صادم لكنه معبر عما يحاول عادلي تفسيره حول الأسباب الاجتماعية لفشل عمليات اللبرلة الاقتصادية، والانتقال إلى السوق الحر في مصر من سياسات الانفتاح في عهد السادات عام ١٩٧٤ وحتى الثورة المصرية، والتي ينتهي تحليل الكتاب قبل حدوثها، وتحديدًا في العام ٢٠١٠.
الرأسمالية المهشمة، تعكس حالة الاقتصاد الرأسمالي المصري والذي لا يسوده القانون بقدر الأعراف، لذلك فإن الرأسمالية المصرية من منظور عادلي تنقسم إلى ثلاث أنظمة فرعية، هي الرأسمالية البلدي، والرأسمالية المتأنقة -الداندي- ورأسمالية المحسوبية، والتي عنون ثلاثة فصول من كتابه بهذه العناوين التي سنتطرق إليها في عرضنا بشيء من التفصيل، ومن هنا ندرك معنى التهشيم الذي قصده عادلي، فلكل نظام فرعي منها أعرافه الخاصة التي تحكمه، وينتظم تحتها نشاطه الاقتصادي، وتعد هذه الحالة هي السبب في فشل دمج الاقتصاد المصري داخل السوق العالمي بفعالية.
الكاتب هو عمرو عادلي، الأستاذ المساعد في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ينصب اهتمامه على الاقتصاد السياسي والتنمية، وهو ما ظهر في رسالته للدكتوراه المقدمة لمعهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا، والتي قارن فيها مسار التنمية بين مصر وتركيا، وأتم دراسات ما بعد الدكتوراه في جامعة ستانفورد، وفي تلك الأثناء أتته فكرة الكتاب حينما كان يدرس حالة ريادة الأعمال في مصر، وهنا تظهر أهمية الكتاب المنهجية، فالكتاب يقوم على عمل ميداني مكثف بين عامي ٢٠١٣ و٢٠١٤ تضمن مقابلات واستبيانات قام بها الكاتب، والتي كما أكد الكاتب، كانت من أواخر الفرص التي كان متاحًا فيها إجراء أبحاث ميدانية، قبل أن يتم خنق المجال العام بالرقابة التي فرضتها الدولة.
يمين ويسار: أطروحات نظرية مع ضعف في الدراسة التجريبية
ينتقد عادلي المنظورين الرئيسيين الذين يحاولان فهم مسارات التنمية، سعيًا للإجابة على السؤال الأبرز في الاقتصاد السياسي وهو: “لماذا تفشل بعض الدول في مسارات التنمية بينما تنجح أخرى؟ وفي حين يثق اليمين في السوق وقواه الخفية، وبالتالي يوجه نقده لنقص وفشل في تطبيق سياسات السوق بشكل صحيح، يرى اليسار أن هذه السياسات هي السبب في تعثر تجارب التنمية في دول الجنوب العالمي[1].
ينتقد الكاتب المدرسة اليمينية الأساسية وهي النيوكلاسيكية المؤسساتية، والتي ترى أن السبب في فشل بعض الدول في تحقيق التنمية هو فشلها في بناء مؤسسات السوق، والتي يحكمها حكم القانون والملكية الخاصة، ويكون السبب في هذا الفشل هو تفشي الفساد والمحسوبية الذيْن يأكلان ثمار التنمية، ويعيقان تحقيق تنمية حقيقية، وتميل هذه الطغمة الحاكمة غالبًا إلى شكل من الاقتصاد الخراجي والريعي بدلًا من التركيز على الإنتاج، وعليه لا تتنوع مصادر الدولة، وتدور حول قطاعات غير إنتاجية كالنفط والسياحة وعوائد العاملين بالخارج، ولكن يرى عادلي أن هناك العديد من الدول خاصة في شرق آسيا والتي كانت تشارك مصر نفس مستويات الفساد والمحسوبية، لكنها نجحت في النهاية في تحقيق التنمية في بلدانها.
ولا يميل المؤلف كذلك إلى قبول النقد الماركسي الذي يرى بأن المشكلة في تطبيق السياسات النيوليبرالية وبرامج الإصلاح الذي تقوم عليها المؤسسات الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي، فمدارس اليسار المختلفة ترى أن المنظومة الاقتصادية العالمية القائمة على العولمة تزيد من ربح دول الشمال، ولا ينكر عادلي هذه الحقيقة حول تدفق فوائض القيمة من الجنوب إلى الشمال والآثار المستمرة للاستعمار، ولكنه لا يراها سببًا كافيًا، حيث نجحت العديد من دول الجنوب في تحقيق مستويات عالية من التنمية في حين فشلت أخرى، فيرى أن المشكلة الأساسية في مصر تكمن في الخلل في الإنتاج بقدر أكبر من إعادة التوزيع، وبالتالي فإن القيمة المنتجة التي سيعاد توزيعها (بشكل عادل أو لا) هي قليلة أساسًا، حيث إن نسب النمو الاقتصادي في مصر لا تتناسب مع النمو السكاني.
لذلك كان نقده لكلا المنظورين، يتمثل في ضعف البحث التجريبي على حالة مصر، وبالتالي كان كل منظور يحاول أن يحلل مصر في ظل أطره النظرية القائمة، وهذا ما يميز دراسة عادلي، وهو عمله الميداني لدراسة أسباب فشل تطبيق سياسات السوق في مصر، ووضعها في إطار مقارن مع العديد من دول الجنوب الأخرى التي تتشارك مع مصر في العديد من الخصائص، كما أنه يخرج من ثنائيتهما في دور أكبر أو أصغر للدولة كمفتاح لحل الأزمة.
بالإضافة إلى توسعة إطاره النظري، لا يكتفي بأدبيات التنمية والاقتصاد السياسي واقتصاديات الجنوب، بل يضيف علم الاجتماع الاقتصادي لمحاولة فهم الأسباب الاجتماعية والسياسية الكامنة وراء فشل التنمية الاقتصادية في مصر.
أين الخلل: الوسط المفقود
يقوم عادلي بدراسة شركات القطاع الخاص، والتي يرى أنها توسعت بالفعل بعد سياسات الانفتاح وتخطت القطاع العام، ويرى أنها باتت مسؤولة عن توظيف ما يزيد عن ٧٠٪ من العمالة المصرية، ولكن تكمن المشكلة في أن القطاع الخاص بات ينقسم إلى شركات متناهية الصغر Microenterprises، وهي التي تقوم بتشغيل ٥ أفراد أو أقل بما يشمل ذلك التشغيل الذاتي، أي أن تؤسس عمل وتقوم أنت بنفسك عليه، وقد تخطى عدد هذه الشركات في عهد مبارك ٢.١ مليون شركة، وعلى الناحية الأخرى من الاقتصاد توجد الشركات الضخمة التي توظف عشرات ومئات الموظفين، ولكن ما تعاني مصر منه هنا هي متلازمة الوسط المفقود، أي عدم قدرة الشركات متناهية الصغر على النمو لتصبح متوسطة الحجم.
ما المشكلة في هذا؟ يجيب عادلي أن الشركات متناهية الصغر لا تستطيع الاندماج بسلاسل إنتاج القيمة العالمية، ولا تستطيع أن توفر ما تحتاجه الشركات الكبرى أو الشركات خارج مصر، وما تقوم به هو زيادة الاستيراد، وبالتالي تزيد من خلل الميزان التجاري، وتُبقي الاقتصاد معتمدا في نموه على الاستهلاك بدلًا من الإنتاج، وهذا الخلل هو ما نجحت دول مثل الصين وتركيا وغيرهما في تجاوزه في مسارهما للتنمية.
تؤدي هذه المشكلة إلى عدم قدرة الاقتصاد على ضم مزيد من الأفراد إلى السوق، وعملية إنتاج القيمة به، وبالتالي تعيق معدلات النمو الاقتصادي الكامنة/المحتملة، كما أدى إلى عدم دمج مصر داخل السوق، ولكنها -كما يسميها عادلي- بقيت ملحقة به ومُضمنة Embedded داخله.
ويعدد الكتاب أسباب هذه المشكلة، فمنها الهيكلي بحكم المؤسسات وقواعد السوق، ولكن الأهم هو ذلك التحالف السياسي الاجتماعي المتمثل في بيروقراطية الدولة المصرية بفواعلها المختلفة، والتي تحدد سلطة الدولة في المجال الاقتصادي، وقد نشأ خلال العقود الأربعة التي تلت الانفتاح، هذا التحالف أدى إلى استدامة مركزية وهرمية وسلطوية المؤسسات، وعلى عكس ما قد يظن البعض، فإن هذا التحالف غير متجانس أو متماسك، ولهذا فلا يوجد متحكم أو عقل واحد يؤدي لعرقلة النمو واستدامة المشكلة.
يزيد هذا التحالف من تكلفة الوصول إلى التمويل وعوامل الإنتاج من رأسمال وأرض وعمالة لغالبية الفواعل الاقتصادية، وبالتالي يتم طرح سؤال مهم للمدرسة النيوكلاسيكية المؤسساتية، وهو كيف نطالب بحقوق الملكية في حين لا توجد قواعد واضحة تتيح الوصول لهذه الملكية المتمثلة في عوامل الإنتاج؟
تهشيم القواعد: رأسماليات ثلاثة تحت سقف واحد
لقد كانت النتيجة هي نشوء ثلاثة أنظمة فرعية متوازية من الرأسمالية: البلدي والمتأنقة والمحسوبية، وقد تنتمي شركة ما للمتأنقة والمحسوبية، ولكنها تخضع لقواعد الرأسمالية التي تعمل في إطارها، وهي ما دفعته لإطلاق مفهومه الرأسمالية المهشمة، ويجب التأكيد أن جميعهم رأسماليات، أي أنها متوجهة للسوق بغرض الإنتاج والتبادل لتحقيق الربح المتكرر حسب تعريف ماكس فيبر.
وتتميز هذه الرأسمالية المهشمة بتعددية القواعد والأعراف التي تحكم القطاع الخاص المتفاوت في تطوره، وبذلك ظلت أغلبية القطاع الخاص المتمثلة في الشركات متناهية الصغر محرومة من الوصول إلى الموارد ورأس المال وبالتالي فرص النمو، وهنا يختلف عادلي مرة أخرى مع المدرسة النيوكلاسيكية المؤسساتية، ويرى أن عملية الرسملة Capitalization هي شرط مسبق لنشأة مؤسسات السوق الرسمية وليس العكس، كما يرفض اعتبار القائل أن النظام كله قائم على المحسوبية كسبب معوق للتنمية كما يرى الكلاسيكيون الجدد.
الرأسمالية البلدي والتي تقوم على فواعل اجتماعية في السوق، وتقوم على علاقات شخصية بشكل أساسي، وكثيرًا ما تستفيد من هذا في تخفيف تكلفة تعاملها مع البيروقراطية، وتضم كل من القطاع الرسمي وغير الرسمي، وهنا يعمل الرأسمال الاجتماعي (الشبكات والعلاقات) كبديل ومعوض لصعوبة الوصول للرأسمال المادي (الأرض وآلات التصنيع) والمالي، وبالتالي فرصهم محدودة في النمو.
الرأسمالية المتأنقة تتميز بكونها شركات أكبر Corporates وشركات متوسطة، وتقوم بنسبة أقل على العلاقات الشخصية، وهو ما يمنحها فرصا أكبر للنمو لسهولة وصولها للسوق ورأس المال مقارنة بالبلدي، حيث تتعاون مع الشركات الأخرى والبنوك والدولة -وإن كان بتكلفة أعلى- بشكل أكثر فعالية، ولكنها في الوقت نفسه يتمايز فيها الاقتصادي عن الاجتماعي (عكس البلدي) أو السياسي (عكس المحسوبية).
بينما رأسمالية المحسوبية القريبة من الدولة والتي يتماهى فيها السياسي والاقتصادي، وبالتالي يسهل وصولها إلى رأس المال والأراضي لقربها من الدولة، وإمكانية ربح المناقصات والاستفادة من القوانين والفساد، وعليه تمتلك الفرص الأكبر في النمو.
في الختام:
قد يؤخذ على هذا الكتاب توقفه عند حقبة مبارك، وأنه لم يتناول التغييرات الكثيرة التي تلت الثورة ومن بعدها الانقلاب، بالإضافة إلى عدم تناوله لدور الجيش الاقتصادي بشكل كبير، وهو الدور الذي نما أيضا في الفترة التي درسها، وكيف أن بعض الشركات قد توظف جنرال سابق كمسؤول للعلاقات العامة لتسهيل أعمالها، ولكن ربما رأى أن الدور الاقتصادي للجيش هو أحد أعراض المشكلة وليس سببها.
ويبقى أن الكتاب قد عرض الكثير من الأفكار التي تستحق النقاش، ويميزه في ذلك عمل مؤلفه الميداني، وتركيزه على مصر كدراسة حالة، والمنهجيات التي استخدمها من حقول علمية مختلفة، كما قدم أسبابًا عن سبب تعثر التنمية في مصر في حين نجحت في دول أخرى تتشارك العديد من الخصائص معها، وخلُص إلى السبب وهو الوسط المفقود وتعدد القواعد التي تحكم الاقتصاد فيما أسماه الرأسمالية المهشمة، ولم يغفل الدور السلبي الذي لعبته البيروقراطية والتي لا يراها كيان واحد متماسك، وكانت المحصلة هي عدم دمج الاقتصاد المصري في السوق بشكل ناجح، لكن تم نوع من التضمين والإلحاق، وبالتالي ظهر في مصر فاعلين اقتصاديين بدون أن تنشأ مؤسسات السوق التي يحكمها القانون وقواعد الملكية الخاصة.
المصادر:
[1] في أدبيات الاقتصاد السياسي ينقسم العالم إلى دول الشمال الغني وهي الدول الغربية المتقدمة ذات الماضي الاستعماري، وبين دول الجنوب وهي الدول النامية وتمثل باقي دول العالم التي عانت من الاستعمار وتحاول بناء اقتصاداتها وتحقيق التنمية في مجتمعاتها.
تعليقات علي هذا المقال