”الله وعدنا إنْ أصلحنا من أنفسنا أن يُغير ما نحن فيه من غُربة، فالأمل سيظل معقودًا أبدًا والمستقبل للإسلام وإن كره الملحدون والكافرون، والتمكين للدين آتٍ“[1].
الشيخ/ محمد حسين يعقوب
أصبح من المعلوم لدى شريحة واسعة من القراء أصول نشأة التيارات والجماعات الإسلامية عمومًا وأسباب تلك النشأة، والتي من أهمها تصدُع أركان السلطنة العثمانية وتهاوي الكيان الجامع للمسلمين بعد عقود من ضعفه، وبالتالي سعت التيارات إلى استعادة ذلك الكيان المفقود، ثم اتساع رقعة ابتعاد الدين عن الحياة مما أدى إلى ظهور تيارات إسلامية تعمل على إعادة الدين لمكانته القديمة في المجتمع، وقد تميزت كل جماعة أو تيار بمقاربات وطُرق إصلاحية متنوعة، تأسست بناء على منظومة الفهم الخاصة لديها.
هذا المقال سيركز أكثر على التناول المباشر لمقاربة الإصلاح عند أحد أجزاء التيار السلفي وبالتحديد ما بات يُعرف بـ(التيار السلفي الدعوي أو العلمي) وسوف يضيّق الدائرة أكثر متحدثًا عن هذا التيار في قُطر معين وهو مصر، كنموذج تطبيقي لهذه الحالة مترامية الأطراف.
الأفكار التأسيسية:
بدايةً يُعد مصطلح السلفية من أكثر المصطلحات المختَلف في فهمها وتطبيقها ومن أكثرها تعميمًا[2]، ولكننا هنا سنكثف الحديث عن جزئية محددة وهي الجانب التطبيقي فيما يخص مقاربة/ طريقة الإصلاح والتغيير التي تحرّك وفقها التيار السلفي الدعوي المعاصر، إذن فنحن أمام حالة معينة لا تشمل تاريخ السلفية ولا ظروف نشأتها ولا تجلياتها ولا تطبيق مبادئها في التجارب المختلفة في جغرافيا العالم الإسلامي.
إن سيولة مصطلح السلفية ومرادفته للدين نفسه (القرآن الكريم وسنة الرسول وفق فهم وتطبيق الصحابة) وعدم وجود جماعة منظمة بأدبيات صارمة يتبعها المنتمون لهذا التيار جعلته تيارًا متشظيًا وواسعًا، من داخله تجد اختلافًا يصل إلى التضاد أحيانًا في فهم أصول هذا التيار، ورسّخ هذا الخلاف عدم اتّباع التيار السلفي لمذهب فقهي معين من المذاهب الفقهية الأربعة المستقرة (بما فيهم مذهب ابن حنبل)، وبالتالي نشأت الاختلافات البينية التي ظهرت في صور مختلفة بدءً من الردود العلمية والأكاديمية ووصولًا إلى القتال أحيانًا في جبهات الحرب (سوريا مثالًا).
فسيولة مصطلح السلفية والسيولة الفكرية لدى التيار نفسه أثرت على المقاربة الإصلاحية أيضًا، فلم توجد مقاربة واضحة متماسكة التصور تُقدم إلى الأمة لتسير وفقها.
ولو شئنا أن نضع أيدينا على صلب مقاربة التيار السلفي الدعوي للإصلاح والتغيير فسوف تكون “التصفية والتربية” كما عبر عنها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، أو الكتاب والسُنة بفَهم سلف الأمة كما عبر عنها أكثر من مصلح سلفي كالشيخين السعوديين عبدالعزيز بن باز، ومحمد بن صالح العثيمين.
فالمسلمون مثلًا -كما يقول الألباني- وصلوا إلى حد سيء من الذل والاستعباد في جميع البلاد الإسلامية[3]، ولذلك “يجب أن نفهم الدين من جديد على ضوء الكتاب والسنة”[4]، “والعلاج الوحيد هو الرجوع إلى الدين”[5]، إن “أي إصلاح يجب أن يقوم به الدعاة إلى الإسلام والناشدون لإقامة دولة الإسلام بإخلاص هو أن يعودوا إلى أن يُفهموا أولاً أنفسهم، ويُفهموا الأمة ثانياً، الدين الذي جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام”[6].
فالرجوع إلى الدين في نظر الألباني من خلال دعوته وسيرته وكتبه، اختُزل في ما سُمي “تنقية” لكتب الحديث النبوي -المسانيد والسُنن وغيرها- من الأحاديث “الضعيفة”، إضافة إلى تبيين ما هو سُنة وما هو بدعة للناس، وبذلك يُنقى الدين مما علق به من خرافات وبدع[7].
ثم تُقدم هذه الطريقة أو المقاربة لا كعمل مهم يجب القيام به؛ بل كنهج إصلاحي باتباعه تعود الأمة إلى مجدها، وهذا بالضبط ما فعلته معظم التيارات السلفية، إلباس الجزء ثوب الكل.
وبالتالي تتسم مقاربة الإصلاح لدى التيار السلفي الدعوي بعدم التماسك، فجُل المقاربة فردية أكثر منها تعلقًا بالأمة، فالحديث متركز حول أهمية اتباع الدين الحق بفهم السلف الصالح على المستوى الفردي وبصورة أدق على مستوى الكف عن ارتكاب المحرمات وإصلاح النفس بالعبادة وتزكية القلب، فهي مقاربة جزئية وليست كلية، فردية لا جماعية، بسيطة-يسيرة وليست مركبة، هي أقرب إلى الوعظية منها إلى المنهجية، في حين أنها عوملت من قِبل رموز التيار كمقاربة شاملة للإصلاح والتغيير، وذلك استنادًا إلى نصوص ظنية الدلالة من أشهرها قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ… ﴾. [الأعراف: 96]
ما أدى إلى اختفاء كتب مهمة عن أدبيات التيار على مستوى التنظير والتدريس، كالتي تتناول النظرية السياسية الإسلامية أو الاقتصاد الإسلامي أو علم الاجتماع الإسلامي إلخ، فلا تجد هذه العناوين منسوبة إلى شيوخ التيار على الرغم من مركزيتها لدى تيار يسعى إلى “تحكيم الشريعة الإسلامية في مناحي الحياة كافة”، لكن من ناحية أخرى توجد مئات الكتب التي تتناول الأوامر والنواهي والحلال والحرام وتزكية النفوس وإصلاح القلوب، فهذا هو طريق التغيير الحقيقي لديهم مستدلين هنا أيضًا بنصوص ظنية الدلالة كقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ…﴾. [الرعد: 11]
فإذا شئنا أن نكثف مقاربة التيار من خلال مجمل أدبياته، سنجد أنها تتمحور حول الفرد الذي إن نجح في إصلاح نفسه من ناحية العقيدة والفكر والسلوك والنفس والعبادة من خلال طلب العلم الشرعي، سنصل في النهاية إلى مجتمع يستطيع تحكيم الشريعة الإسلامية ويحقق التمكين، بهذه البساطة.
إضافة إلى غياب الأفكار التي تعالج الواقع وتشتبك مع تحدياته عن مقاربة التيار الذي اقتصر عوضًا عن ذلك على عموميات من قبيل أن “تطبيق الشريعة فرض” وأنها “صالحة في كل زمان ومكان” مما جعل “الحكم بالشريعة” عند قطاع عريض من السلفيين غير واضح وأنه يعني تطبيق الحدود المتعلقة بالسرقة والخمر والردة وقذف المحصنات وما شابه ذلك فقط، دون إدراك لمعنى الشريعة الإسلامية المتكامل و”حدود الله” في سائر مناحي الحياة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فلم يكن هناك تصور علمي أو انشغال فقهي بشكل وصورة وكيفية “تحكيم الشريعة”.
الممارسة السياسية: الإفاقة من المقاربة الحالمة
هبّت عاصفة 25 يناير عام 2011م وانتبه معها قطاع واسع من السلفيين، فرغم عدم تغيير الناس ما بأنفسهم، ومع بقاء الانحلال كما هو في مناحي الحياة كافة، ومع عدم اتباع الشعب للكتاب والسنة بفهم سلف الأمة حدث التغيير وسقط الحاكم الفاسد.
لم تستطع عقلية كثير من الشباب السلفي معالجة هذا الأمر في ذلك الوقت، خاصة مع اضطراب موقف شيوخ التيار السلفي من المشاركة في الانتفاضة، فكان أغلبهم يرفض المشاركة، وذلك اتساقًا مع المقاربة السلفية التي لا تنص على الثورة أو الاحتجاج السياسي كأحد طرق الإصلاح.
لذلك كانت 25 يناير اختبارًا قاسيًا لم ينجح فيه أغلب رموزه، بل وأدى إلى اضطراب تنظيري أيضًا، فبعد أن كان التيار يرى أن المشاركة في العملية الديمقراطية لا تجوز، وبعد أن كان يمتنع فيما قبل 25 يناير عن المشاركة السياسية الديمقراطية تمامًا، بل ويهاجم بعض رموزه الإسلاميين المشاركين في العملية السياسية أصبح يرى بعد يناير أهمية إنشاء أحزاب والمشاركة السياسية، واحتشد التيار السلفي في أغلبه وراء أحزاب ذات مرجعية سلفية كالفضيلة والأصالة والنور وتعدد ظهور الأحزاب والروابط ذات الخلفية السلفية، وتقاربت رموز التيار هذه الفترة مع جماعة الإخوان المسلمين، وبعضهم دعا إلى الوقوف وراء الإخوان بصفتهم لديهم خبرة سياسية غير موجودة لدى الأحزاب السياسية التي يؤسسها السلفيون.
ولم يتوقف الاضطراب في بوصلة الإصلاح عند أحداث 25 يناير وما تلاها من أيام؛ بل استمر وأخذ أبعادًا جديدة وأشكالًا متنوعة، فقد بدأت الدعوة السلفية بالإسكندرية بالابتعاد عن بقية التيار السلفي الدعوي شيئًا فشيئًا بعد شهور قليلة من التقارب الكبير عقب الانتفاضة، ثم نأت بنفسها أيضًا عن جماعة الإخوان تدريجيًا. الأمر الذي تحول إلى العداء وتجلّى في مشهد إعلان انقلاب 3 يوليو، وذلك بعد الشهور التالية لتنحي حسني مبارك والتي تميزت برومانسية تجاه جماعة الإخوان، فلا يوجد أساس نظري متماسك يحدد من هم الحلفاء ومن هم الأعداء.
مع زيادة وتيرة التحديات بعد 25 يناير تعمّق الخلاف في أوساط التيار السلفي، وأصيب عدد من شبابه بخيبة أمل وهم يشاهدون تصدع البيت السلفي وفشل رموزه في التعاطي مع الأحداث والاتساق مع أنفسهم، ثم كانت الضربة القاضية بحدوث الانقلاب وانهيار حلم التمكين الذي كان على مرمى حجر من السلفيين بعد 25 يناير أو كما كانوا يتصورون.
التحديات: أن تأتي متأخرًا خيرٌ من ألا تأتي
مما سبق يتبين أن مقاربة الإصلاح لدى التيار السلفي بحاجة إلى الإحكام في التنظير، وبحاجة إلى المراجعة الشاملة فكرًا وتطبيقًا، مراجعة تدرك أن الإصلاح عملية طويلة ومركبة ولا تقتصر فقط على إصلاح النفس مع أهميته، مراجعة لا تحتكر الفهم الصحيح للدين وتعي أن محاولات الفهم والمقاربات الأخرى بها العديد من المساحات المتقاطعة يجب اعتبارها والاستفادة منها والتقارب معها، حتى مع وجود الاختلاف. مراجعة لا تتعامل بنفسية المدرِس مع تلاميذه، فهو صاحب العلم وعلى البقية الاستماع وفقط، مراجعة تتصالح مع هذا البحر الذي لا شاطئ له من تراث الأمة. لا أن تتعارك معه وتجعل من أولوياتها إحياء قضايا الخلاف المندثرة والتي لا تصلح مناقشتها إلا في الأروقة العلمية بين المتخصصين، مراجعة تعيد الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي إلى صدارة مقاربتها التغييرية ويختفي فيها الخلاف والتناحر حول القضايا الفرعية -بزعم عدم جواز تقسيم الدين إلى قشور ولباب- التي لم ولن ينتهي الخلاف حولها.
لقد حُمّل التيار السلفي الدعوي فوق طاقته ونُقل من كونه تيارًا دعويًا وعظيًا إلى حركة إصلاح شاملة، وقد شارك هو نفسه في ذلك بترديد رموزه أن الاستقامة على الدين هي “طريق التمكين” الوحيد والسبيل الأكيد لـ”انتصار المسلمين”، وبخلطه خلطًا عشوائيًا في مساحات السياسي والديني، فصار كلام الشيخ في السياسة ضروريًا لأنها من الدين، ويصبح علمانيًا من يقول إن الشيخ عليه الانشغال بما هو مختص فيه ويترك السياسة لمن هم مختصون فيها، عدّوا هذا القول من العلمانية لأنها تعني فصل السياسة عن الدين، وبذلك أصبح الدين هو الشيخ من الناحية التطبيقية، لا مجرد المعنى الذي يؤكد ضرورية اعتبار الدين بمظلته الواسعة في العمل السياسي.
وهذا الخلط أيضًا من آثار عدم وضوح مقاربة التغيير في أدبيات التيار، وقد أدى إلى كوارث تطبيقية وعملية أثناء 25 يناير وما تلاها وصولًا إلى انقلاب الثالث من يوليو كما مرّ.
إن التيار السلفي الدعوي هو مجرد تيار وعظي يحث أتباعه على الاستقامة على الدين (وفق التصور السلفي) وطلب العلم الشرعي (بالطريقة السلفية)، وقد اكتسب شعبيته من هذه الأفكار غير المعقدة، وسيظل فاعلًا في المجتمع لما اكتسبه ويكتسبه من شعبية، والسؤال هو: هل مقاربة التيار السلفي الدعوي المعاصر تُعد ما بين المشاريع الواعدة للنهوض بالأمة؟ أم أنها تعمل على جزئية محددة؟ وهل الحل هو إهمالها كليًا أم توظيفها في مقاربة إصلاحية شاملة؟ أترك الجواب للقارئ.
المصادر:
[1] محمد حسين يعقوب، الجدية في الالتزام، 2008م، موقع طريق الإسلام، رابط إلكتروني: iswy.co/e4975
[2] بعض المفكرين العرب كالشيخ محمد عبده وتلميذه رشيد رضا مرورًا بأنور الجندي ووصولًا إلى محمد عمارة وغيرهم قدّموا السلفية نقيضًا للأصالة وبصفتها عنوانًا للبعث الحضاري للأمة الإسلامية ضد التبعية للغرب والتقليد والجمود بل وكشعار مقاوم للاحتلال الأجنبي. وقُدمت السلفية واتّباع السلف الصالح كحل وحيد في إطار الإجابة عن السؤال الذي ذاع: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ فحين تخلى المسلمون عن الدين الصحيح تخلفوا، على عكس السلف الصالح الذين تمسكوا بالدين ونشروه حول العالم. هذه الرؤية لن أقول اختفت بل لم تعد العنصر الأساسي المنشغَل به لدى التيارات السلفية، بل أصبحت القضايا الفرعية والجزئية تستحوذ على الاهتمام الأكبر في ظل فقدان البوصلة.
[3] الألباني، معالم المنهج السلفي في التغيير، علق عليه: سليم الهلالي، القاهرة، ط. دار الإمام أحمد، 2006م، ص5.
[4] المصدر السابق، ص8.
[5] السابق، ص9.
[6] السابق، ص8.
[7] تُنتقد طريقة الشيخ الألباني في تقسيم كتب الحديث إلى صحيح وضعيف، بحجة أن عمل الأمة الإسلامية وعلمائها على غير ذلك وأنهم قبلوا كتب الحديث كما هي وهذا لا يعني جهلهم برتبة الأحاديث. لكن الحديث الضعيف يقع فيه الخلاف وله اعتباره عندهم ويُعمل به فقهيًا وبفضائل الأعمال بشروط وأطر معينة. كما يُنتقد الألباني في توسّعه في إضفاء وصف “البدعة” على أمور مختلف فيها فقهيًا. لكن الألباني أحيى الحس النقدي لروايات السُنة بجهوده إضافة إلى إشارته للروايات المكذوبة (الموضوعة) التي تعج بها أحاديث الدعاة والكتب الدعوية. ولا تصلح تلك العجالة لتقييم شخصية مهمة مثل الألباني.
تعليقات علي هذا المقال