يحمل التاريخ العديد من الإجابات على أسئلة الواقع، بل ويقدم دفعة استشرافية للمستقبل في بعض الأحيان لمن أحسن قراءته، فالتاريخ يحمل أنماطًا متشابهة يمكن من خلال تتبعها واستقصائها حل الكثير من الإشكاليات المعاصرة والمستقبلية، فالأمر يشبه البدء بدراسة الجذور من أجل الوصول إلى الثمار.
تعتبر قضية تقنين الشريعة الإسلامية من القضايا الشائكة في الفكر الإسلامي المعاصر، ويقصد بالتقنين تحويل أحكام الشريعة إلى مواد قانونية قابلة للتطبيق وفق الأنظمة القانونية الحديثة، وهي قضية شهدت -ولا تزال تشهد- الكثير من النقاش سواء حول المبدأ أو الآلية أو النتيجة، فثمة نقاش حول مدى مشروعية تقنين أحكام الشريعة، ونقاشات حول استمداد الأحكام المقننة ومدى الالتزام المذهبي، ونقاشات حول آليات التطبيق وأدواته ومدى توافقها مع الأنظمة القانونية المعاصرة.
لقد حصلت قضية تقنين أحكام الشريعة على الكثير من الجهود العلمية بداية من الأعمال العظيمة في فترة التنظيمات العثمانية وما تلاها من أعمال تصدت إما لتقنين أحكام الشريعة أو لمناقشة القضايا الشرعية والفكرية المحيطة بهذه المسألة، وفي هذا الصدد جاء الكتاب الذي بين أيدينا ليأخذنا في رحلة تاريخية عابرة للقارات في محاولة لإعادة ترتيب قطع أحجية تقنين الشريعة الإسلامية بطريقة مختلفة، والإطلال عليها من زاوية جديدة لفهم إشكاليات الحاضر والمستقبل.
من المهم أن أشير إلى أن الكتاب الذي بين أيدينا قد أرهق كاتب هذه السطور في قراءته وفي عرضه، وذلك في محاولة تتبع الأفكار المركزية في أطروحة المؤلف، وفي محاولة إعادة تركيب الأفكار الفرعية في أنماط متعددة سعيًا للوصول إلى أعمق نقطة ممكنة لفهم الطرح ومنهجياته والتماس جوانب تميزه وقصوره، ثم إعادة صياغة هذه النتائج في صورة مختصرة تتناسب مع هذه المقالة، وهو أمر عسير!
الوصف البيبلوغرافي والمؤلف والمادة العلمية
جاءت النسخة العربية من كتاب (سياسات تقنين الشريعة: النخب المحلية، والسلطة الاستعمارية، وتشكل الدولة المسلمة) في 432 صفحة من القطع المتوسط، وهي ترجمة للنسخة الأصلية الصادرة باللغة الإنجليزية، وقام بالترجمة باسل وطفة، وصدرت الطبعة الأولى للنسخة العربية عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر عام 2019، وهو إصدار مشترك مع مدارات للأبحاث والنشر.
صدر هذا الكتاب للمؤلفة عِزَّة حسين أستاذة السياسة والقانون في جامعة كامبردج، وهي حاصلة على دكتوراه من جامعة واشنطن، وماجستير من جامعة جورج تاون، وماجستير في الآداب والعلوم من جامعة هارفارد.
كما أنها عضو في هيئة تحرير عدد من الإصدارات العلمية المرموقة، وزميلة أبحاث مشاركة في المركز المشترك للتاريخ والاقتصاد، وتشرف على الطلاب والباحثين في السياسة المقارنة، والدين والسياسة، والقانون والمجتمع، والسياسة والتاريخ الاستعماري وما بعد الاستعمار.
ضم الكتاب مادة علمية دسمة على الصعيد الفكري، حيث أنه يطرح زوايا جديدة للإطلال على قضايا قديمة، وهو ما يستفز ذهن القارئ ويحفزه للوصول إلى الصورة النهائية التي تريد المؤلفة طرحها من خلال هذا الكتاب.
إطلالة على الأفكار والمضامين
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام تحوي ٧ فصول، تنوعت موضوعاتها إلى درجة يمكن قراءة كل فصل بصورة مستقلة، وفي نفس الوقت تترابط الفصول لتفتح آفاقًا للقارئ ومزيدًا من التساؤلات التي لا مفر من بزوغها في ذهن القارئ مع ختام الكتاب.
جاء القسم الأول تحت عنوان (سياقات) واحتوى على فصلين، الأول بعنوان (الجذور التاريخية للأحجية المعاصرة) حيث انطلقت المؤلفة من مكان غير معهود، فمن خلال اطلاعها على الأرشيف الوطني الماليزي استطاعت أن تعتبره منطلقًا تاريخيا لبحث مسألة تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، وأكدت على ارتباط حركة التقنين بالحركة الاستعمارية (الكولونيالية) التي أثرت بعمق على النخب المحلية في الدول المستعمرة، خصوصًا في نظرتها للشريعة الإسلامية والقانون ومدى العلاقة بينهما.
جاء الفصل الثاني بعنوان (خارطة التحول) واستعرضت فيه المؤلفة التحول الذي طرأ على تطبيق أحكام الشريعة وعلاقة ذلك بالاستعمار الكولونيالي للأقاليم الثلاثة، وختمت الفصل بجدول زمني مقارن يتتبع التحولات القانونية في الأقاليم الثلاث في الفترة من 1765م إلى 1948م.
(معاهدات ومحاكمات وتمثيلات) هو عنوان القسم الثاني الذي يحوي الفصول من الثالث وحتى الخامس، وهذا القسم يمكن اعتباره ذروة الكتاب، حيث أكدت المؤلفة في بداية كتابها شمول البحث لثلاث نطاقات جغرافية خضعت للاحتلال البريطاني، وهي ماليزيا ومصر والهند، وقد بينت بالتفصيل نقاط التشابه والاختلاف في التجربة الاستعمارية للأقاليم الثلاثة[1] حيث صنفت أوجه الاختلاف في ثلاث مجموعات هي: التسلسل الزمني لمسيرة الاستعمار الكولونيالي، والاختلاف في الإرث المؤسسي، والاختلاف في الثقافة، فبينما كانت مصر على تماس مباشر مع الثقافة الإسلامية باعتبارها المركز، كانت كل من ماليزيا والهند تخضعان لنظم ثقافية مختلفة، كل هذه العوامل كان لها بالغ الأثر في تشكيل تجربة تحويل أحكام الشريعة الإسلامية إلى قوانين في هذه الأقاليم، وكرست هذا الفصل لبيان هذه النقاط بالتفصيل.
في الفصل الثالث تسعى للإجابة عن سؤال: من هو المعنيّ بالقانون الإسلامي؟ فهي تناقش مسألة الولاية القضائية، هل هو المستعمر باعتباره القيادة السياسية بحكم القوة، أم النخب المحلية باعتبارها ممثلة الشعب، أم أن هناك صورة من صور الشراكة ينبغي أن تنظم هذه المسألة؟
يتعرض الفصل الرابع لعدة محاكمات جرت في الهند وماليزيا ومصر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بعضها جرى بموجب الشريعة الإسلامية وبعضها بشأن الشريعة الإسلامية، وفيه تسعى للإجابة على عدة أسئلة منها: كيف طبق الاستعمار القانون الإسلامي؟ وكيف تم تفسير هذا القانون؟ وما الجهة التي تولت تطبيقه؟ وما هي الحقول التي “سُمح” بتطبيقه فيها؟ وما هي الحقول التي لم يشملها التطبيق؟
جاء الفصل الخامس فيما يزيد على 84 صفحة، وهو يعتبر أكبر فصول الكتاب، ويدرس العلاقة بين القانون الإسلامي والهوية التي تصنعها السلطة السياسية وتعيد إنتاجها كل فترة لتحقيق أهدافها، وكيف استعمل هؤلاء الحكام القانون الإسلامي لترسيخ شرعيتهم في مواجهة منافسيهم المحليين أو المحتلين.
يأتي القسم الثالث تحت عنوان: (إشكالية القانون الإسلامي)، وفي الفصل السادس منه تقدم المؤلفة طرحًا نظريا حول إشكالية العلمنة والدين في السياق الحديث من خلال أعمال وائل حلاق وطارق البشري وغيرهم من المفكرين المعبرين عن مختلف وجهات النظر في هذه القضية، وذلك تحت عنوان (السياسات الكولونيالية للقانون الإسلامي).
أما الفصل السابع والأخير: (السياسات المعاصرة للقانون الإسلامي) فهو تطبيق وبلورة للإشكالية المركزية التي ركزت عليها في طرحها، وهي: قانون إسلامي جرى تهميشه خلال الحقبة الاستعمارية، وفي الوقت نفسه؛ إسلام وقانون إسلامي أصبحا مكونين رئيسين لسلطة الدولة وسلطة الفاعلين الاجتماعيين على حد سواء، وفي هذا الإطار عرضت عددًا من القضايا الشائكة التي تناولها القضاء الماليزي، وكذلك تناولت مسألة تطبيق الشريعة الإسلامية عبر التحكيم خارج إطار المحاكم.
المنهجية والقيمة العلمية
يقدم الكتاب طرحًا علميًا متماسكًا لقضية شائكة هي تقنين أحكام الشريعة الإسلامية وعلاقته بالسلطة السياسية، سواء المحلية أو الاستعمارية، وفي سبيل ذلك؛ استخدمت المؤلفة منهجيات البحث العلمي سواء في قراءتها العامة للأوضاع في الأقاليم الثلاثة محل البحث (ماليزيا ومصر والهند)، أو في التطبيقات التفصيلية التي تناولتها في مختلف الحقب الزمنية والنطاقات الجغرافية.
ارتكزت أطروحة المؤلفة على اعتبار القانون الإسلامي منتجًا من منتجات الشريعة الإسلامية، كان لظهوره أبعاد تاريخية وحيثيات سياسية ينبغي أخذها في الحسبان عند تصور هذه المسألة، حيث إنه ظهر في ظرف تاريخي محدد هو العصر الحديث بما حملته رياحه من احتلال للبلاد المسلمة تحت شعار (الاستعمار)، وكذلك التطور في مفاهيم الدولة، وانطلاق حركات الرأسمالية والعلمانية، بل وتحولها إلى أساس نظري قامت عليه أغلب الدول المعاصرة.
لهذا ينبغي التأكيد على أن القانون الإسلامي -كما تؤكد المؤلفة ويؤيدها كاتب السطور- ليس هو ذات الشريعة الإسلامية، بل هو منتج آخر ساهمت في تشكله اجتماع عدد من العوامل منها أحكام الشريعة الإسلامية المستخدمة لترسيخ سلطة الدولة الحديثة، وسياسات الاستعمار، والضغوط الشعبية وغيرها من العوامل التي أنتجت هذا المنتج “المختلف” والمتميز عن الشريعة الإسلامية في صورتها المعهودة تاريخيًا.
انطلقت المؤلفة في تناول طرحها من مكان غير معهود تمامًا، حيث عندما نتحدث عن تقنين الشريعة الإسلامية يتبادر إلى الذهن تركيا باعتبارها مركز الدولة العثمانية لقرون طويلة، وهي منطلق حركة التقنين، أو مصر باعتبارها من الدول السابقة في حركة التقنين، ولكن طرح المؤلفة انطلق بشكل أساسي من ماليزيا، وهو ما يقدم للقارئ العربي تحديدًا وجبة علمية مميزة غير معتادة في هذا المجال، كما كان التنقل المستمر بين الأقاليم الثلاثة (ماليزيا والهند ومصر) يشحذ ذهن القارئ باستمرار ويبعد عنه الملل أو الشرود رغم كثافة المحتوى النظري في الكتاب.
خيرًا فعلت المؤلفة في تقسيم الفصول على التوالي وعدم البدء من جديد في كل قسم، حيث يمكن قراءة كل قسم وحده باعتباره وحدة متكاملة، كما يمكن إعادة ترتيب الفصول بصورة مختلفة، وهو أمر استمتع به كاتب هذه السطور في قراءته الرابعة والخامسة لهذا الكتاب.
تضمن الكتاب عددًا من الخرائط والجداول التي تقدم مساعدة للقارئ في تصور البيانات التي تقدمها المؤلفة، خصوصًا تلك التي تضمنت معلومات جغرافية أو مقارنات متعددة.
يكشف هذا الطرح المتميز خطورة السياسات الاستعمارية البريطانية، وكيف أنها كانت تهدف إلى إحداث تغييرات عميقة في المجتمعات المحتلة، وكيف استخدمت مسألة تقنين الشريعة الإسلامية لترسيخ سلطتها، وكذلك خطورة تكريس هذه القضية لإكساب بعض النخب المحلية شرعية تساعدهم في ممارسة السلطة على المجتمع.
قدمت المؤلفة كذلك تأريخًا لمسألة الفصل بين ما هو عام وبين ما هو خاص، و أيضا بين ما هو ديني وما هو غير ديني فيما يخص تقنين الشريعة الإسلامية، وكيف أن هذا البلاء جاء مع الاستعمار الذي سعى لتحويل الإسلام إلى فكرة دينية مسالمة على النمط المسيحي، حيث تحكم العلاقات الخاصة وتبتعد تماما عن التدخل في القضايا العامة مثل السياسة ونظام الحكم، وهو ما يؤثر على وضع بلادنا حتى الآن، فنجد قوانين الأحوال الشخصية تستند إلى الشريعة بينما القوانين العامة بعيدة كل البعد عنها في مفارقة عجيبة يمكن فهم جذورها عبر تتبع الطرح الذي احتواه هذا الكتاب.
نظرة ناقدة
يعتبر هذا الكتاب من الكتب المتخصصة التي ينبغي قراءتها بعد تكوين خلفية نظرية كافية عن قضية تقنين الشريعة الإسلامية، حيث يقدم أطروحات عميقة من المهم أن يتم فهمها بصورة متكاملة، وفي حين يرسخ الفهم المتكامل للطرح التمسك بالشريعة الإسلامية فإن الفهم المجتزأ قد يقود إلى اعتقادات مغلوطة حول قضية تقنين الشريعة.
قدمت المؤلفة في عرضها إطلالة على ماليزيا ومصر والهند، ورغم أهمية تركيا باعتبارها دولة مركزية في العالم الإسلامي خاصة في العهد العثماني إلا إنها لم تدرجها في الدراسة، ولعل هذا يكون مفهومًا باعتبارها تبحث علاقة التقنين بالاستعمار والنخب المحلية، ولكن النظرة الفاحصة لمسألة التقنين ومرحلة التنظيمات العثمانية يمكن أن ترصد تأثير محاولات الاستعمار (الثقافي والفكري) على عمل اللجان التي عملت على إصدار هذه القوانين.
جاء عرض المؤلفة لماليزيا والهند أعمق بكثير من عرضها لمصر سواء في العرض التاريخي أو المعاصر، وهو ما يعتبر أحد أوجه القصور التي اعترت الأطروحة المتميزة في الكتاب.
ينصح كاتب هذه السطور المهتمين بقضية تطبيق أحكام الشريعة بقراءة الكتاب قراءة عميقة، وإدراج البحث التاريخي الموسع باعتبارها أحد الأدوات المهمة في بحث هذه القضية، خصوصًا أن الإطار التاريخي المعتاد غالبًا هو الإطار المحلي في البحث، ونادرًا ما يهتم الباحث المصري بقراءة تاريخ تقنين الشريعة الإسلامية في الهند أو ماليزيا مثلًا، وهي نقطة التميز الكبرى في طرح الكتاب الذي بين أيدينا.
المصادر
[1] نستخدم مصطلح أقاليم وليس بلدان لأن مصر في هذا الوقت كانت تشمل مصر والسودان وأجزاء من فلسطين، وكذلك الهند كانت تشمل باكستان وبنجلاديش وهكذا.
تعليقات علي هذا المقال