من الصعب الحديث عن التيار الجهادي بإظهار القواسم المشتركة بين جماعاته ومُنَظّريه كافة، وجرد المرحلة التاريخية لكلٍّ منهم، لذا سوف نختزل هذه التجربة عبر تنظيم الجهاد المصري، لأسباب منها:
أولا: كونه من أقدم الجماعات الجهادية، حيث يَحكي أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة أن وجود هذا التيار الجهادي بمصر كان قد بدأ عام 1965[1]، وبعد ثلاث سنوات أي في 1968 أسست جماعة الجهاد أي بعد سنتين من إعدام سيد قطب سنة 1966.
ثانيا: هذه الجماعة هي التي وضعت المنهج الذي أثّر على كل المجموعات التي سوف تأتي من بعدهم، يقول أبو مصعب السوري: «تأتي أهمية الدور الفكري والمنهجي لتنظيم الجهاد المصري من أهمية مكتبته من كونها صارت أساسًا فكريا ومنهجيا لأغلبية التنظيمات والتجمعات ومعظم الأفراد في التيار الجهادي منذ مطلع التسعينيات وإلى اليوم، وصار عليها مدار ما كتب فيما بعد من الإنتاج الفكري والإعلامي لمختلف شرائح التيار الجهادي والأفغان العرب، وكذلك لِمَا عُرِفَ باسم -السلفية الجهادية- أو غيرها من المدارس الجهادية في العصر الحديث»[2] وبنحوه قال المُنَظّر يوسف العييري[3].
ثالثا: كونها الجماعة التي بُنيَ عليها تنظيم القاعدة بعد بيعتهم لأسامة بن لادن، وهذا التنظيم أصبح الذراع العسكري الأبرز للتيار الجهادي.
رابعا: كونها حملت في تاريخها عدة تكتيكات مختلفة في أساليب المواجهة.
الأفكار التأسيسية: السعي لتحكيم الشريعة
يُقدّر المؤرخ داخل التيار الجهادي أبو مصعب السوري عُمْرَ ولادة التيار الجهادي بمطلع الستينيات من القرن الماضي؛ أي بعد استقلال أغلب الدول عن الاستعمار المباشر، فكان ولادة طبيعية لمجريات الاستقلال الظاهر، حيث مهدت سياسات هذه الدول الطريق أمام نشوء هذا التيار، «فقد قامت حكومات الاستقلال كلها بلا استثناء في بلاد العالم العربي والإسلامي، على أسس عَلمانية تفصل الدين عن الدولة، وحكمت جميعها بغير ما أنزل ﷲ، وتولى المارقون من أبنائها مهمة التشريع من دون ﷲ، كما تولوا مهمة العمالة والولاء لأعداء الأمة وخدمة أهدافهم جهاراً»[4] ولغير ذلك مثل بطش هذه الأنظمة بالجماعات الإسلامية.
ويجب التنبيه أنّ التيار الجهادي يدور أو هو قائم على أساس الحكم الشرعي على نظام الحكم أو الحاكم معًا، فإن كانا كافرَيْن كان هذا بمثابة الشرعية للوجود، وهذا بخلاف التيارات الإسلامية الأخرى، لذلك مثلًا يربط أبو مصعب السوري بين شرعية نشوء الجماعات وبين كفر الحاكم فيقول: «طبعًا أنا أقول الذي لا يريد أن يُكفّر الحكام يضحك على نفسه، إذا كان ليس كافرًا معناها مسلم جاهل ظالم، وإذا كان كذا فهو حاكم شرعي، وبالتالي لا يجوز لنا أن نأخذ بيعات ونعمل جماعات، فنحن على أي أساس نعمل جماعات؟ معناها لازم تأتي المخابرات وتضرب عنق الآخر حسب الحديث»[5].
ولا نستطيع القول أنّ التيار الجهادي هو تشكّل مستقل عن التيارات والجماعات التي سبقته، ولكن أحيانا يحدث نوع من الطفرات بعد أن يتشكّل فكرٌ معين لشخص ما في أحد الجماعات مع استحالة تطبيق هذه الفكرة داخل جماعته، فتكون هذه الفكرة هي الممهد لنشوء جماعة أو تيار جديد بدلًا من القديم.
يرى أبو مصعب هذا الأمر مثلًا لدى سيد قطب الذي أنبتت أفكاره منهج التفكير ونظريات الحركة لدى التيار الجهادي المعاصر، ولكن ماذا كان موقف جماعته -الإخوان المسلمين- من أفكاره؟ «وقفت القيادة التقليدية للإخوان في مصر من سيد وأفكاره موقفا رافضًا مناوئا»[6].
الممارسة السياسية: الانقلاب أم المواجهة؟
التوجه الذي حَمله قطب سوف يُلهم آخرين ليشكّلوا جماعة من أوائل الجماعات الجهادية وهي جماعة الجهاد المصرية، يذكر الظواهري أن سبب تأسيسه للجماعة هو «التأثر بمشروع هذا الرجل -سيد قطب- من خلال القراءات والكتابات البليغة والوضوح في تشريح الواقع»[7]. بالإضافة إلى التأثر بأمور أخرى مثل جماعة أنصار السنة المحمدية التي كانت المدخل لقراءة الكتب السلفية، مثل كتب ابن تيمية التي أثّرت فتاويه فيهم تأثيرًا كبيرًا[8]، ومثلّت أطروحات قطب والمودودي الخط الفكري العام، لكن البعض لاحظ أن هذه الأطروحات لا تعطي أجوبةً فقهية تفصيلية[9]، فكان لابُدَّ من البحث في الأطروحات الشرعية لسدّ هذه الثغرة، وكما يقول أبو مصعب: «فَبَحَثَ الجهاديون في قضية الحكم والحكومات وما هو حكمهم؛ فلم يجد التيار الجهادي جوابًا لهذه المسائل إلا في فقه ابن تيمية، فأجابت على تساؤلات التيار الجهادي»[10].
ولكن قبل مرحلة الحصول على الأجوبة من الكتب، كانت هناك مرحلة الحيرة والشك والسؤال، يَحكي مثلًا سيد إمام -وهو منظر جهادي مصري- أنّهم في بداية الأمر سألوا بعض المشايخ الذين رفضوا الإجابة على أسئلتهم[11]، فولّد هذا رَدّ فعلٍ تجاه المشايخ؛ وتم الاستعاضة عنهم بكتب السابقين والتعلم الذاتي[12].
والتأصيل الشرعي هو الممهّد لتطبيق هذه الأفكار على أرض الواقع، فلما رتقت الثغرات في الرؤية المنهجية، حان وقت التنفيذ، لذلك كانت فترة السبعينيات هي فترة التجنيد؛ وقد اختارت جماعة الجهاد المنطقة التي تريد أن تحدث الأثر من خلالها، وكانت عبر البحث عن أشخاص مجندين في الجيش، وذلك عبر إحداث انقلاب لا عبر مواجهة مباشرة، وكان سبب تركيزهم على الجيش هو أنه «أسهل ورقة للتغيير دون إهدار دماء»[13]، لكن انخراط بعضهم في التغيير عبر السلاح لم يمنع بعضهم الآخر في المشاركة العلنية والسيطرة على بعض الاتحادات الطلابية، فقد «كان التيار الجهادي السلفي يسيطر على اتحادات الطلاب في جامعات جنوب مصر، ويرفض محاولات الإخوان لاحتوائهم وإدخالهم في خط التهادن مع الحكومة»[14].
فشل هذه التجارب الانقلابية التي قامت بها جماعات جهادية مختلفة مثل تنظيم الفنية العسكرية، جعل البعض يُفكّر في تغيير استراتيجية المواجهة من اختراق الجيش إلى مواجهته عبر حروب العصابات، فقد عرض يحيى هاشم أحد مؤسسي تنظيم الجهاد هذه الفكرة على الظواهري فرفضها، وذكر «أنّ طبيعة البلد لا تصلح لهذا النوع من الحروب، ولكن الفكرة كانت تختمر في رأسه وفي رأس عدد من إخوانه»[15]، وبدأ هاشم في العمل على خطته التي انكشفت ليُحاصر مع رفاقه في منطقة جبلية بمحافظة المنيا ويقعوا ما بين قتيل ومعتقل.
بعد فشل هذه التجربة تعززت فكرة الاستمرار في اختراق الجيش التي نجحت في اغتيال السادات بعد توحّد وتنسيق بين الجماعات الجهادية، ولكن اتّضح وجود ثغرة مركزية وهي؛ أنّ قتل الرئيس لا يعني السيطرة على الحكم، وأنه لم يكن هنالك مشروع حقيقي لِمَا يجب أن يحدث بعد السيطرة على الحكم[16].
فبدأ اعتقال أفراد الجماعات الجهادية ومحاكمتهم إلى أن حصلَ شيء من الانفراج وحُكِمَ على أغلبهم أحكامًا مخففة، سافر أعضاء الجماعات إلى أفغانستان للملمة الجراح وإعادة ترتيب الأوراق، واقتضت المرحلة اللاحقة وبالأخص من جماعة الجهاد العمل على استراتيجية جديدة تتمثل في تجنيد الأفراد وإرسالهم إلى أفغانستان لتدريبهم ثم إرجاعهم إلى مصر على شكل خلايا سرية انتظارًا للحظة صفر، أو حسب ما أسماه الظواهري بمرحلة «الانتشار وتجنيد العناصر استعدادًا لمعركة التغيير»[17]، ولكن هذه الخطة فشلت عندما تم القبض على هذه الخلايا في قضية ما يُعرف بطلائع الفتح، فاعتقلت هذه الخلايا البالغ عددها حوالي 800 شخص دون طلقة واحدة.
لتضطر هنا حركة الجهاد للدخول في استراتيجية جديدة تتمثل في المواجهة المباشرة مع النظام بعد أن استقرت في السودان، فشنّت عدة هجمات كان أبرزها استهداف موكب حسن الألفي وزير الداخلية وقتها لكنه نجا، واستهداف موكب عاطف صدقي رئيس الوزراء وقتها بسيارة ملغومة، ونجا منها هو الآخر، ثم تفجير السفارة المصرية في باكستان عام 1995[18].
وبعد عملية اغتيال حسني مبارك الفاشلة، ضغطت مصر على حكومة السودان لطرد الجماعات الجهادية التي عادت إلى أفغانستان مجددًا، وقد تشكّل لدى الظواهري قناعة جديدة بعد أن رأى استحالة نجاح قتال الأنظمة المدعومة غربيا، فتغيرت لديه الاستراتيجية بأن قتال العدو البعيد أولى من قتال العدو القريب، فسقوط العدو البعيد يعني تباعا سقوط العدو القريب، أو كما قال أبو مصعب السوري وهو يصف التحوّل لدى الظواهري، أنه بدأ «يقتنع بالاتجاه المتاح للجهاد والعمل في أفغانستان مع الشيخ أسامة بن لادن في حربه مع أمريكا لأسباب واقعية ولقناعات سياسية وميدانية بدأت تتشكّل عنده»[19].
الانفجار من الداخل
العقبات التي واجهت التيار الجهادي:
التشظي والفرقة: قد يكون من المعقول عدم توحّد الجماعات القُطرية التي تُمثّل كل جماعة منها مشروعها الخاص في بلدها، ولكن من الغريب ألا تتحد الجماعات التي تسلك ذات الفعل في البلد الواحد، كما حصل مع جماعتي الجهاد والجماعة الإسلامية في مصر، وأحيانًا العقبات لا تكمن في عدم التوحّد مع الجماعات الأخرى بل في عدم القدرة على الحفاظ على وحدة الجماعة من التشظي، وهذا حدث مع جماعة الجهاد المصرية في عدة مناسبات.
ومع وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر وحدوث التوحد القسري والطوعي في آن واحد للجماعات القطرية داخل تنظيم القاعدة، خرج تشظٍ من نوع آخر عبر خروج تنظيم الدولة (داعش)، وعرض نفسه بديلًا للقاعدة، وهذا ما أدى إلى تشظي الأفراد داخل التيار الجهادي الذين انقسموا إلى فريقين، بينما بقيت غالبية المُنظّرين في خط تنظيم القاعدة، لكن هذا التشظي حمل بعدا جديدا تمثّل في نشوء قتال وسفك دماء وتبادل تهم الخارجية والتكفير بينما كانت الخلافات السابقة تكتفي عادةً بالتجريح.
الطرح النخبوي والانعزال عن الأُمّة: فقد رأى أسامة بن لادن أنّ تفاعل الأُمّة هو بمثابة الماء للحركة الجهادية التي مثلها بالسمكة، فقال: «فالشعب للحركة كالماء للسمكة فأي حركة تفقد التعاطف الشعبي تضعف قوة الدفع لديها باستمرار إلى أن تتلاشى الحركة»[20].
كانت هنالك عدة طرق لوجود هذا الانعزال –حسب تصور بعض القيادات الجهادية- من بينهم القيادي الأمريكي آدم يحيى غدن الذي رأى أنّ التعصّب لمسمى السلفية الجهادية ولهجتهم الحادة ضد المخالف هي من الأمور التي تبعد عموم المسلمين عن المجاهدين، وأن «السلفية ما هي إلا تيار واحد من تيارات المسلمين، والسلفية الجهادية تيار صغير داخل تيار صغير»[21]، ولم يختلف رأي القيادي الآخر في القاعدة يونس الموريتاني في نظرته لمصطلح السلفية الجهادية، بل له كلام أكثر حدةً من سابقه[22]، وهذا ما دفع قياديا ثالثا هو محمد بن محمود البَحْطِيطي لكتابة رسالة عنونها بـ (تأملات في مصطلح السلفية الجهادية) ذكر في خلاصتها: أن هذا المصطلح قد أضاف سببا جديدا للفرقة بين الأُمّة بسبب تعصب بعض من ينتمي إلى هذا الاسم، بينما الواجب على المجاهدين أن يتقربوا من أُمّتهم بإزالة مختلف العوائق[23].
التكفير: وهو العائق الذي يَحولُ بين وظيفة حركة الجهاد -وهي تثوير كل الأُمّة- وبين عموم الأُمّة، حيث يرى أبو مصعب أن حركة الغلو في التكفير هي رديف المخابرات في ضرب التيار الجهادي، وأنها «السبب الأساسي للحيلولة بيننا وبين المسلمين»[24]، ويرى أبو قتادة أن هنالك عدم وضوح في الرؤية لعموم الناس بشأن تلبسّ الجماعات الجهادية بمنهج الغلو، وأن انشقاق (داعش) وإظهار منهجها كان عاملا حاسما ليميز الناس بين المناهج، وبذلك يقول: «وإني لأحمد الله تعالى من جانب آخر أن صار الأمر إلى هذا الحال، حتى يظهر الحق وتتمايز الصفوف، وليُعْلَمَ الفرق بين طوائف الجهاد وجماعات الغلو والبدعة»[25].
الاختراقات الأمنية: عاش تنظيم القاعدة في اليمن لحظات صعبة بعد أن تم اغتيال قياداته تباعا من خلال جواسيس تم تجنيدهم بطرق مختلفة وإرسالهم إلى اليمن، وقد مَثّل البُعد الجديد في هذه القضية كون بعض هؤلاء المجندين أصحاب سابقة جهادية، وقد تم القبض، عليهم وعرض طرق تجنيدهم، والطريقة التي تسببوا بها بقتل القيادات عبر سلسلة إصدارات حملت عنوان (هدم الجاسوسية).
لقد سلك تنظيم القاعدة الممثل العسكري للتيار الجهادي مَسلكًا يُعدُّ أكثر انتفاحًا تجاه المخالفين له داخل التيار الإسلامي، وأكثر مرونة، وهذا لم يُعجب بعض أنصاره، ولا زال هذا النزاع قائما داخل التيار الجهادي بين مؤيد لهذا الانتفاح وآخر رافض له؛ لأنه يرى أنه يَمَسُّ المنهج، فملاينة المخالف تعني بالضرورة تهوين أخطائه، وأما الموافق له فإنه يرى أن التقوقع هو سبب الفشل، ولكن لا شك للناظر أن هنالك مرحلة جديدة يفرضها الواقع، وعلى صخرة الواقع تتمَحَّصُ الآراء.
المصادر
[1] فرسان تحت راية النبي (ص11).
[2] دعوة المقاومة الإسلامية العالمية، (ص735) بتصرف يسير.
[3] دفاعاً عن المجاهدين: رسالة مفتوحة للشيخ سفر الحوالي (ص19).
[4] دعوة المقاومة الإسلامية العالمية، (ص686).
[5] مقومات التنظيم ودور المنهج (ص35).
[6] دعوة المقاومة الإسلامية العالمية (ص688).
[7] د. هاني السباعي، قصة جماعة الجهاد (ص3).
[8] قصة جماعة الجهاد (ص4).
[9] انظر: أبو قتادة (سلسلة ألف كتاب قبل الممات: كتاب واقعنا المعاصر لمحمد قطب)، وسيد إمام (الجامع: ص699).
[10] الجهاد هو الحل (ص342).
[11] قناة أون إن، برنامج السادة المحترمون، لقاء مع السيد إمام، 27 مايو 2013 (د35).
[12] المصدر السابق، وقناة العربية، برنامج الحدث المصري، لقاء مع السيد إمام، 5 مارس 2013 (د3).
[13] قصة جماعة الجهاد (ص5).
[14] فرسان تحت راية النبي (ص18).
[15] فرسان تحت راية النبي (ص21).
[16] أنظر: قناة الجزيرة، وثائقي: الجريمة السياسية، اغتيال السادات، الجزء الثاني (د28).
[17] فرسان تحت راية النبي (ص113).
[18] انظر: فرسان تحت راية النبي (ص 113-117).
[19] دعوة المقاومة الإسلامية العالمية (ص736).
[20] مجموع رسائل وتوجيهات الشيخ أسامة بن لادن (ص812).
[21] وثائق أبوت آباد، الدفعة الأولى، وثيقة رقم: SOCOM-2012-0000004.
[22] وثائق أبوت آباد، الدفعة الأولى، وثيقة رقم: SOCOM-2012-0000019.
[23] انظر: تأملات في مصطلح السلفية الجهادية (ص6).
[24] لقاء مع صحيفة الرأي العام الكويتية (ص172).
[25] الإفادة في جمع رسائل ومقالات الشيخ أبي قتادة (ص52).
تعليقات علي هذا المقال