تحاول تلك المقالة أن تشرح البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لصعيد مصر عبر حقب مختلفة، كانت شاهدة على حضارة عظيمة تحمل بين طياتها عبق التاريخ وأصالة الماضي، وذلك من خلال رصد عوامل الصعود والانحدار، لنحاكم الصورة التي جرى اختزالها في بؤر من أشكال الرجعية التي رسمت صورة نمطية حصرت مجتمعا بأكمله في داخلها دون أن تقدم تفسيرا جليا لهذا الانحدار الذي جعل الصعيد يتصدر المحافظات الأكثر فقرا وطردا للسكان، مما يضعنا أمام علامة استفهام كبيرة: كيف تحول صعيد مصر من منطقة كانت سلة غلال إقليمية إلى وضع غاية في التردي؟
تجادل الدكتورة زينب أبو المجد أستاذة التاريخ في جامعة أوبرلين الأمريكية بأن لصعيد مصر رواية مختلفة مع كل الإمبراطوريات التي تعاقبت على حكم البلاد، بداية من العثمانيين وصولا إلى الاحتلال البريطاني وهو ما سنعرضه بالتفصيل هنا[1].
صعيد مصر والدولة العثمانية
لشرح العلاقة بين صعيد مصر والدولة العثمانية يجب في البداية إلقاء الضوء على العلاقة بين الدولة العثمانية والولايات التابعة لها، يحلل الدكتور خالد فهمى في كتاب “كل رجال الباشا” علاقة الدولة العثمانية بالولايات التابعة لها خاصة في القرن الثامن عشر، حيث منيت الدولة العثمانية بهزائم ثقيلة على أيدى الأوروبيين أدت إلى اجتزاء مساحات شاسعة من أراضيها، وبناءً على ذلك كانت محاولات الإصلاح في الدولة العثمانية تعتمد على النخب المحلية داخل كل قطر، فكانت سياسات الباب العالي قابلة للتعديل على أرض الواقع من خلال تلك النخب، وبذلك لا يمكن تصوير الدولة العثمانية كإمبراطورية مركزية على غرار الإمبراطورية الرومانية وإنما كومنولث commonwealth يشارك في الاستمتاع بمزايا جميع أعضائه ولو بدرجات متفاوتة[2].
بالنسبة لولاية مصر، ولد نظام أشبه بالدولتين بعد دخول سليم الأول، غير أن بذور هذا النظام كانت موجودة من فترة طويلة عندما سيطرت نخبة من المماليك على شمال مصر، بينما نجحت قبيلة الهوارة في فرض سيطرتها على صعيد مصر إداريا، وعندما دخل العثمانيون أقروا بالأمر القائم فلم يكن للولاة على الصعيد أي سلطة فعلية عدا جمع الضرائب، حيث نظمت “الهوارة” الزراعة والري وجمع الضرائب وأنشطة التجارة واحتفظت بحق “الالتزام” لنفسها على الصعيد كله بل وجعلته بالوراثة، هذا الأمر الذى لم يتحقق لأي من الملتزمين في الشمال، كما أمدت إسطنبول بالمؤن والغلال، وبهذا تحولت من نخبة اقتصادية إلى نخبة سياسية، بأن عمدت لإنشاء عقد اجتماعي بين فئات المجتمع (الفلاحين- الأقباط -العربان)، وقدمت الحماية للفلاحين من أي اعتداء في مقابل الالتزام بدفع الضرائب، واستعانت بالأقباط في الشؤون الاقتصادية كما هو المعهود منذ بداية الفتح الإسلامي، وتصالحت مع العربان موفرة لهم بعض الأراضي حتى ينعم الجميع بالأمن والاستقرار، وأسست نظاما قضائيا اعتمدت فيه على المذهب الحنفي والمجالس العرفية لفض المنازعات.
كانت تلك الحالة إيذانا بميلاد دولة شيخ العرب همام والتي استمرت لأكثر من أربعين عاما، لكن الخطأ الذي ارتكبه شيخ العرب همام هو تحالفه مع على بك الكبير ضد السلطان العثماني، والذي استدعى من الأخير الانتباه لخطورة استقلال الصعيد على هذا النحو، فعقد تحالفا مع ابن عمه الشيخ إسماعيل الطامع في السلطة ليحارب في صفوف المماليك، ما ألحق الهزيمة بشيخ العرب ليموت كمدا على إثر ذلك، منهيا أول حضور حقيقي للصعيد كحالة شبه مستقلة سياسيا.
صعيد مصر والحملة الفرنسية
تعتبر الحملة الفرنسية أول تعدٍّ أوروبي على بلد شرقي إسلامي من بلاد الدولة العثمانية، وهنا يمكننا القول أن المسألة المصرية دخلت طورا جديدا من أطوار الضغط الأوروبي على الدولة العثمانية بعدما بدأت تلفظ أنفاسها الأخيرة، كانت أهداف تلك الحملة تعويض فرنسا ما فقدته من مستعمرات في أمريكا، وتوجيه ضربة لبريطانيا من خلال السيطرة على أفضل طرقها للهند.
بدأت الحملة بدخول الإسكندرية عام 1798، ثم بدأت بالزحف نحو القاهرة حيث معركة إمبابة والتي منى المماليك فيها بهزيمه كبيرة نظرا لبدائية أسلحتهم وأساليب قتالهم، وفكر نابليون في إرسال حملة إلى الصعيد منذ دخوله مصر حيث توافرت الموارد الزراعية لكنه تراجع نظرا للمقاومة المتصاعدة في الشمال، فقرر التفاوض مع مراد بك طالبا أن يدفع الصعيد الضرائب المقررة عليه للفرنسين لكن مراد بك رفض ذلك بعد معرفته أنباء تدمير الأسطول الفرنسي في الإسكندرية، فأرسل نابليون القائد ديزيه إلى الصعيد ودارت معارك كثيرة في قراه، ونظرا لتفوق الفرنسيين العسكري وقوة مدفعياتهم لم تختلف النتائج عن الشمال إلا أن الثورات المناهضة لأهالي الصعيد والقتال غير المنظم والهجوم المستمر على قوافل الإمدادات للفرنسيين جعلت من الصعيد كرة لهب مشتعلة لم يحصل منها الفرنسيون على ما كانوا يطمحون إليه من مشاريع وإمدادات واستقرار.
وبهذا تحطمت صورة المستعمر المستنير على صخرة جهاد الأهالي ما اضطر الفرنسيون للاستعانة بمراد بك ليكون حاكما بالنيابة عنهم، ولم يمض عام على الاعتراف بمراد بك حاكما على الصعيد من قبل الفرنسيين حتى قضى نحبه بوباء الطاعون الذي ضرب الصعيد حاصدا آلاف الأرواح، لكن ما فعله أبناء الصعيد في مواجهة الحملة الفرنسية سيظل شاهدًا على أصالتهم في مواجهة أي مستعمر[3].
محمد على والنظام السياسي الجديد
أنشأ محمد على نظاما سياسيا جديدا شكل الصعيد فيه نواة رئيسة للدولة، فلم تمض أشهر قليلة حتى احتكر التجارة، وأصدر مرسوما بزيادة الرقعة الزراعية لمحصول القطن بغية السيطرة الكاملة على هذه الصناعة، كما أصدر مرسوما بمنع تسجيل أي مغزل أو محلج خاص، وبذلك أنهى الباشا تحرير الاقتصاد واللامركزية العثمانية في الإدارة الاقتصادية، فترتب على ذلك أن عمت الحركات الاحتجاجية على فترات متقطعة مما استدعى قمع تلك الحركات والقضاء عليها، وتبع تلك السياسة العنيفة إرسال المستوطنين من الأتراك ورجال الدولة لإنشاء المزارع الشاسعة وإصدار عدة إصلاحات جوهرية خاصة بالأراضي الزراعية كالتالي:
١- الأبعدية: مزرعة خاصة غير مملوكة لأحد لكنها صالحة للزراعة تم اقتطاعها للأتراك وكبار موظفي الدولة ورجال الجيش من أجل زراعتها، وإعفاؤها كليا أو جزئيا من الضرائب، قبل أن تتحول لاحقا إلى ملكية كاملة.
2- العهدة: المزارع العمومية التي تملكها الدولة أو تلك المصادرة من الفلاحين الهاربين من التجنيد أو ممن عجزوا عن دفع الضرائب، حيث تم إسنادها للأغوات بعد سداد ما عليها من ديون.
3- الجفلك: هي مزرعة الباشا أو أحد أفراد أسرته وكانت مساحات كبيرة تصل لقرى بأكملها.
تمثل التأثير المباشر لتلك القرارات في تغيير التركيبة السكانية في صعيد مصر، الذي لم يكن يعتمد على الحضور المكثف للملتزمين من الأتراك مثل الشمال، ما أدى لخلق نخبة اقتصادية جديدة من الأتراك أضحى لديها أموالا ضخمة بفعل الأبعديات والاستيلاء على أراضي صغار الملاك من الفلاحين، الأمر الذي غير وجه الحياة لاحقا في صعيد مصر.، كما ساهمت اللائحة السعدية التي سمحت بحق الملكية الخاصة في توسيع طبقة أصحاب الملكيات الكبيرة لتضم الأوروبيين بجانب الأتراك وكبار موظفي الدولة على حساب الفلاحين الذين تمتعوا بحق الإيجار، ولكن تم تجريدهم وتحويلهم لمجرد عمالة موسمية، كما تم تقنين أوضاع أصحاب الأبعديات وفتح الباب لبيع المزيد منها للأوروبيين وكبار الموظفين أو أي شخص قادر على دفع ضرائبها المقررة، وبهذا اقتصر مفهوم النخبة الاقتصادية على طبقة غير محلية بالأساس أو ممن هم قريبون من مراكز السلطة الحاكمة.
الاحتلال البريطاني لمصر والإدارة الاستعمارية
يطرح بندكت أندرسون منظر الدراسات ما بعد الكولونيالية فرضية مفادها؛ أنه في ظل الإدارة الاستعمارية في بلد ما تخلق الأساطير حول الهوية الوطنية التي تشكل منها الأمم الحديثة، تلاقت المصالح الرأسمالية للمستعمر مع نخبة محلية في مشروع بناء الدولة القومية في بقاع مختلفة من العالم الثالث، ليؤسس الطرفان هذه الدولة القومية من خلال عملية توحيد الأسواق المحلية القريبة والنامية، وليشكلا سويا ما أطلق عليه مجتمعات متخيلة، وبالفعل نجحت في خلق مجتمع بهويات وطنية محدودة، مثلا بعد احتلال بريطانيا لمصر على إثر أزمة الديون أصدر المندوب السامي اللورد كرومر جملة من الإصلاحات سواء التشريعية أو السياسية كان منها: تأسيس برلمان جديد والذي اعتمد عدة مشاريع لكنها في مجملها لم تكن تصب سوى في صالح محافظة القاهرة والوجه البحري، من ذلك مشروعات الري الحديث التي حرمت منها محافظات الصعيد، ما أثر على المساحة المزروعة والمحاصيل الزراعية مقارنة بالدلتا.
كما أن مشروعات المرافق العامة كخطوط السكك الحديدية تجاهلت تماما الصعيد، إذ كان التطوير موجها بالأساس لخدمة نقل البضائع في الدلتا والإسكندرية، حيث جري الاعتماد على السكك الحديدية لنقل القطن من مزارع الدلتا ومنها إلى بريطانيا، بينما لم يعير الاحتلال أي اهتمام بالصعيد سوى في وقت متأخر، فلم يكن البرلمان معبرًا عن حالة الصعيد نظرًا لأن نخب الشمال مثلت القوى الأكبر على عكس نخب الصعيد التي كان نفوذها الاقتصادي أقل بكثير.
ختامًا؛ نستطيع القول إن الحالة التي وصل إليها الصعيد لم تكن وليدة حقبة زمنية معينة، بل مرت بمراحل عديدة تحول الصعيد خلالها من شبه دولة يمتلك مقومات اجتماعية واقتصادية وسياسية إلى وضع مهمش عمليا فقد أهم مصادره، وبالتالي حدث الهبوط المتدرج، فيما لم تخلق الحقب اللاحقة حالة مختلفة عن السابق، وظلت مناطق الصعيد تعاني من التهميش والبطالة وتدني مستوى التعليم.
المصادر
[1] زينب أبو المجد، إمبراطوريات متخيلة: تاريخ الثورة في صعيد مصر
[2] خالد فهمى، كل رجال الباشا، الطبعة الأولى، دار الشروق
[3]نبيل السيد الطوخي، صعيد مصر في عهد الحملة الفرنسية
تعليقات علي هذا المقال