تعتبر المراجعات العلمية أحد أهم الجهود التي ينبغي أن يكرس لها الباحثون جانبًا من وقتهم وجهودهم، حيث تختصر المراجعات الكثير من الجهود، وتقدم المعلومات الواردة في الكتاب محل البحث بصورة يجد فيها بعض القراء مبتغاهم فيكتفون بها عن قراءة الكتاب ذاته اختصارًا للوقت والجهد، ويجد فيها المتخصصون أو المهتمون بالكتاب نافذة مفتوحة على هذا العمل العلمي، فكأنهم قرأوه مرتين، مرة بعين القارئ ومرة بعين كاتب المقال، وهو ما يعظم الاستفادة من الكتاب.
إن انتشار المعرفة وتنوع أدواتها جعل من العسير على المتخصص الإلمام بكل ما كٌتب في تخصصه، علاوة على أن يطلع على المؤلفات التي تتصل بالحقل المعرفي الذي يعمل عليه دون أن تكون من صلب التخصص، وهو ما يعطي أهمية كبيرة للعمل على إنجاز المراجعات العلمية.
الوصف البيبليوغرافي والمؤلف والمادة العلمية
جاء كتاب “الدين والسياسة في الدولة العثمانية – قراءات في فكر الصدر الأعظم لطفي باشا” في 180 صفحة، توزعت بين مقدمة وثلاثة فصول وعدة ملاحق، وهو صادر عن مركز التاريخ العربي للنشر في عام 2022.
ألف الكتاب الدكتور رامي البنا، وهو أكاديمي مصري تركي، حصل على درجة الدكتوراه من جامعة إسطنبول، ويعمل أستاذًا مشاركًا بكلية الإلهيات جامعة أنقرة، وهو متخصص في المذهب الإسماعيلي باعتباره تخصص دقيق، كما له إسهامات في البحث التاريخي باعتبار اتقانه للغة التركية والعثمانية، وله العديد من المؤلفات والبحوث التي تجمع بين علم الكلام والبحث التاريخي.
اشتمل الكتاب على مادة علمية متميزة، حيث قام بترجمة رسالة لأحد أركان الدولة العثمانية “لطفي باشا” وتناولها المؤلف بالبحث العميق الذي يتناسب مع عقلية أكاديمية متميزة، حيث اعتبر هذه الرسالة منطلقًا للتعريف بالمؤلف وبالحقبة التاريخية التي عاش فيها من عمر الدولة العثمانية، وكذلك بآرائه في مختلف القضايا الفكرية والسياسية والدينية أيضًا.
إطلالة على الأفكار والمضامين
تحدث المؤلف في الفصل الأول حول لطفي باشا متناولًا عصره وحياته، حيث تحدث عن العصر الذي نشأ فيه، ملقيًا الضوء على مولده ونشأته والوظائف التي تقلدها أثناء رحلته الحافلة بالمسئوليات في عصر يعتبر أوج قوة الدولة العثمانية، حيث تنقّل بين الوظائف في عهد ثلاثة من أشهر سلاطين الدولة العثمانية بايزيد الثاني ثم سليم الأول ثم سليمان القانوني، فكان من “الرجال البيروقراطيين في الدولة العثمانية، من الطبقة العليا المنتقاة والتي أوليت منذ نعومة أظفارها تعليما خاصًّا حتى يتأهل أهلها كي يكونوا رجال دولة” وفق تعبير الكاتب، وهو كذلك زوج أخت السلطان الذي انتهت علاقتهما بالتطليق بعد زواج دام فترة طويلة، مما كان له أثر بالغ في منعطفات حياته السياسية وتركه للمناصب القيادية بالدولة.
يعتبر الفصل الأول مدخلًا تأسيسيًا في معرفة لطفي باشا على المستوى الشخصي والعلمي والسياسي والمؤلفات التي أنجزها في حياته التي امتدت من عام 1488م وحتى عام 1563م عن عمر يناهز 65 عامًا، تلك الحياة التي كانت حافلة بالأحداث الجسيمة على مستوى الدولة وكذلك على المستوى الشخصي باعتبار قربه من مركز الدولة العثمانية غالب عمره.
كان الفكر الديني عند لطفي باشا هو محور الفصل الثاني من الكتاب، حيث بدأ المؤلف بعرض نظرة عامة للدين والدولة في العصر العثماني، حيث تحدث عن المذهب الحنفي باعتباره المذهب الفقهي المعتمد للدولة، وكذلك التصوف باعتباره الجناح الروحي للدين في الدولة العثمانية، وهو ما قاده للحديث عن مؤلفات لطفي باشا في علم الكلام وآرائه الكلامية، حيث لم يكن الرجل من رجال الدولة والسياسة فقط، بل كان مفكرًا من طراز رفيع، حيث كتب رسالة بعنوان “رسالة في بيان أصل الإيمان وجوهره وصفاته” وفيها ناقش أوجه الإيمان وقضايا كلامية مثل: رؤية الله في الآخرة وصفات الله والاعتقاد في الملائكة وغيرها من الموضوعات التي تشير إلى عمق تناوله لقضايا علم الكلام.
انتقل بنا الكاتب إلى الحديث عن الفرق الضالة عند لطفي باشا وآثار اعتقاده السني على تصنيف الفرق السنية والضالة، وبعدها تحدث بصورة عامة حول نبذة عن علم المقالات وتعريفه وتاريخه من حيث النشأة والتطور، وتحدث كذلك عن عدد من المصطلحات المهمة مثل: (الفرقة – الجماعة – السواد الأعظم – فئة الإسلام- الفرقة الناجية).
وتحدث بعد ذلك عن أبرز كتب علم المقالات بداية من عصر صدر الإسلام وحتى كتاب الملل والنحل للشهرستاني (توفي 548هـ / 1153م)، ويمكن اعتبار هذا الجزء مقدمة يعبر به الكاتب إلى الحديث عن رسالة لطفي باشا في الفرق الضالة، وهي رسالة ترجمها المؤلف من اللغة العثمانية إلى اللغة العربية وأدرجها في ملاحق الكتاب.
استعرض المؤلف فكرة “التجديد في الدين” بصورة عامة ولدى لطفي باشا خاصة من خلال كتابه “تواريخ آل عثمان” حيث كان يرى أن “مجدد القرن السادس الهجري فهو السلطان غازان خان بن أرغون خان بن هولاكو خان من نسل جنكيز خان، والذي بإسلامه فرح المسلمون شرقًا وغربًا بمحوه للبدع، والقرن الذي يليه مجدده هو عثمان غازي ملك الأتراك، ومجدد القرن التاسع هو السلطان سليم الأول”.
وقد أطال لطفي باشا في سيرته، فكانت تربطه علاقة قوية مع السلطان سليم، فقال بأن سليم أحيا سنة رسول رب العالمين، فالعالم آنذاك كان مليئا بالفساد والفتنة، وهو الذي استطاع ان يوقف المدّ الشيعي الذي كان يقوم به الشاه إسماعيل، وبظهوره قويت شوكة أهل السنة.
ويعقب المؤلف قائلًا: “والملاحظ هنا على ذكر لطفي باشا للمجددين أنه ركّز بشكل أساسي على ولاة الأمر والسلاطين، وهذا لأن لطفي باشا كان شخصية قيادية عسكرية بالأساس، لهذا وقع اهتمامه على هذا الجانب، الشيء الثاني الملاحظ هنا أن لطفي باشا ركّز بشكل أساسي على العثمانيين في القرون القريبة منه، وهذا لحبه المتناهي للعثمانيين”.
ويلخص المؤلف نظرته لقضية التجديد في فقرة عميقة الطرح متميزة الصياغة فيقول: “وفكرة التجديد -في رأينا- لا تقتصر على العلوم الشرعية فقط، بل ينبغي أن تمتد إلى كل العلوم، وهذا يرجع بالأساس إلى تعريفنا لكلمة “الدين” فمعنى الدين هنا لا يقتصر بالأساس على العلوم الشرعية فقط، فإننا إذا قلنا بأن الإسلام دين ودنيا، ولا فصل بين علوم دين وعلوم دنيا، فسنعترف إذن بأن التجديد في الدين كما يكون في الحديث والفقه والتصوف، يكون أيضًا في الفيزياء والكيمياء والأحياء والرياضيات وغيرها، كما كان الأمر في ولاة الأمور، فقد أدخل العلماء أمر ولاة الأمور والسياسة الصالحة في مسألة التجديد، من هذا الباب، ذلك لأن نفعهم وأثرهم يطال عامّة المجتمع، فالأمر نفسه ينطبق على العلوم الحديثة.” وهو طرح متميز لفكرة التجديد ومتوافق مع النظرة الشاملة للدين الذي لا يقتصر على علوم الشرع دون غيرها من العلوم.
في الفصل الثالث تناول المؤلف الفكر السياسي لدى لطفي باشا، حيث ناقش فيه قضايا الإمامة والخلافة في فكر لطفي باشا، وفيه ناقش تعريف الإمامة والخلافة، ووجوب الإمامة، ومعاني عدد من المصطلحات مثل: (الخلافة والإمامة والسلطنة والإمارة)، كما ناقض الشروط الواجب توفّرها في الخليفة، وبالأخص الشرط الخاص بقرشية الخليفة وتاريخية المسألة.
وهو المدخل الذي جعله منطلقًا للتعريف برسالة “خلاص الأمة في معرفة الأئمة” التي كتبها لطفي باشا حول قضايا الخلافة والإمامة.
تحدث المؤلف بعد ذلك عن منصب الصدر الأعظم الذي يشبه الآن منصب رئيس الوزراء، وألقى نظرة تاريخه حوله، لتكون مقدمة لحديثه حول رسالة آصف نامة، وهي الرسالة التي كتبها لطفي باشا متحدثًا فيها عن أخلاق الوزير الأعظم، وواجباته العسكرية ،والمالية، والسياسية.
وقبل أن يكتب خلاصة البحث أرفق بالكتاب ملحقين مهمين هما نص رسالة في الفرق الضالة، ورسالة آصف نامة، وكلاهما من تأليف لطفي باشا وترجمهما المؤلف من العثمانية إلى العربية.
المنهجية والقيمة العلمية
تعتبر المنهجية التي قدم المؤلف الكتاب من خلالها مثيرة للاهتمام، حيث لم يكتف بالطريقة المعتادة في عرض أعمال الترجمة، حيث اعتاد المترجمون في تقديم دراسة بين يدي الأعمال يمكن اعتبارها من المقدمات، بينما غاص الدكتور رامي البنا بالقارئ في مزاوجة متميزة بين علم التاريخ وعلم الكلام، حيث يحقق القارئ المتخصص متعة في الاطلاع على شخصية لطفي باشا وأعماله التي ترجمت من العثمانية إلى العربية، وكذلك يستفيد القارئ غير المتخصص من المقدمات الشيقة التي تعرض القضايا الكلامية عرضًا موجزًا لا يشترط للاستفادة منه قدرًا كبيرًا من التخصص أو المعرفة السابقة بتلك الموضوعات.
أعتقد أن هذا الكتاب يحمل في طياته قيمة علمية كبيرة تجعله مستحقًا للقراءة للاستفادة من المحتوى والمنهجية على حد السواء.
نظرة ناقدة
نظرًا لأنه لا يوجد عمل بشري كامل، فغالبًا ما تكون القراءة الثانية أو الثالثة للكتاب هي قراءة ناقدة، ولقد قرأت الكتاب عدة مرات، أولها وهو في طور الإعداد حيث شرفت بمراجعته، ومرتين عقب صدوره وذلك من أجل إعداد هذه القراءة، ولعل أبرز مأخذ هو المسلك الذي سلكه المؤلف في التقديم العميق لكل فكرة يود عرضها، وهو ما يجعل القارئ يصاب بالحيرة والتشوش أحيانًا أثناء الانتقال من الحديث عن لطفي باشا وأعماله وأفكاره إلى الحديث عن قضية أخرى بصورة عامة استعدادًا لعرض تلك الفكرة لدى لطفي باشا.
كما أن المادة العلمية الدسمة والقيمة التي قدمها المؤلف كانت تستحق بعض التوسع في العرض، حتى تتحقق الاستفادة الكاملة للقارئ لا سيما غير المتخصص في علم الكلام.
استثمار المادة
لا يمكن النظر إلى الأعمال العلمية المتميزة باعتبارها نهاية مطاف البحث العلمي، بل ينبغي التعامل معها باعتبارها منطلقًا لآفاق أرحب، ومن المميز في الكتاب الذي بين أيدينا أنه جمع بين الترجمة والبحث التاريخي وعلم الكلام، وهي وجبة علمية دسمة ينبغي استثمارها والاستفادة منها على الوجه الأمثل.
يمكن استثمار المادة العلمية بالكتاب باعتبارها مدخلًا للتعرف على الدولة العثمانية في أوج قوتها من الداخل، والتعرف عليها من خلال رجالاتها حيث تركز غالب البحوث التاريخية المشهورة على شخصية السلطان دون غيره من رجال الدولة.
كذلك يقترح أن تتم دراسة الطريقة التي انتهجها المؤلف في جمعه بين البحث التاريخي والكلامي والترجمة، والاستفادة منها لتكون مقدمة للمزيد من البحوث المتميزة التي تحذو حذو هذا العمل الأكاديمي المتميز.
تعليقات علي هذا المقال