كنت قد قرأت منذ فترة رواية كورية مترجمة تحمل عنوان “أفعال بشرية” للكاتبة “هان كانغ”، تحكي عن ثورةٍ طلابية شعبية اندلعت في كوريا الجنوبية عام 1980م ضدَّ الدكتاتور “تشون دو هوان”.
قامت الثورة احتجاجًا على قانون الطوارئ الذي فرضته الحكومة الكورية آنذاك على شعبها، وتمَّ قمع هذه الثورة عسكريًا بطريقة وحشية، مجازر جماعية، جثث مشوَّهة، سجون وتعذيب، تخويف وترويع، والكثير ممَّا تفيض به صفحات الرواية، ازداد يقيني بأن الطغاة يتشابهون في طغيانهم وجبروتهم في كل زمان يعيشون فيه، وفي كلِّ مكان يوجدون به، وبأنَّهم لا يتورَّعون من أجل بقائهم على كرسي الخلود والأبدية عن الضرب بيد من حديد ضد البشر والحجر والشجر، متعامين عن الإنسانية المهدورة المعنى والمسحوقة الإرادة.
ولو عكسنا مرآة الزمن على سورية لوجدنا ما يجري من أحداثٍ في سورية اليوم يرتبط بأحداثٍ جرت في الماضي غير البعيد، إذ إنَّ الحركات الثورية لا تنشأ بين يوم وليلة أو بدون أيِّ مبررات، ويعود نشوؤها إلى بداية شعور الإنسان بالاستبداد والقهر وتوقه إلى الحرية.
فالثورة ليست رغبةً مجردة إطلاقاً، بل هي حاجة ضرورية ومن أهم حقوق الإنسان الذي ينبغي له أن يعيش في جوٍّ من الحريات السياسية وغير السياسية، كما ينبغي له أن يمارس فعله السياسي ضمن فضاء عام من الديمقراطية، وهذا ما أعطى الثورات شرعيتها، وذلك حين تحمل الثورة معنى البدايات الجديدة، ومعنى التغيير الجذري لكل ما يمكن أن يصبَّ في صالح المواطنين ويكون فيه خيرهم.
سورية: دولة تأسست على الطائفية
لقد لعبت الولاءات الطائفية دوراً كبيراً في الصراع السياسي في سورية، وازدادت حدَّة منذ وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة بانقلاب عسكريٍّ عام 1963م، فقد كانت بعض الطوائف تتمتَّع باستقلالها الذاتي أثناء الانتداب الفرنسي، مثل الدروز في جبل الدروز (حوران- العرب) من عام 1921م حتَّى عام 1936م، والعلويين في جبل العلويين في اللاذقية من عام 1920م حتَّى عام 1936م.
وعندما أعلنت فرنسا انتدابها على الدولة السورية تودَّد عدد من زعماء الطائفة العلويَّة للفرنسيين، لإعلان جبل اللاذقية دولة مستقلَّةً، كما وجدت فرنسا فيهم داعمًا لوجودها، واستمرارًا لبقائها في المنطقة، إذ لم يحمل علويو الجبل مشاعر ودٍّ لسكَّان سهل اللاذقية من سنيِّين وغيرهم، كما كان سكَّان السهل لا يوفِّرون فرصةً لاستغلال علويي الجبل إلا واستفادوا منها.
وقد كانت لسليمان جد حافظ الأسد اليد الطُّولى في التأسيس لهذه الدولة من خلال تمتين علاقته بالضُّباط الفرنسيين، وبثِّ الروح الطائفية بين سكَّان القرية التي كان يعيش فيها، مستغلَّاً مشاعرهم الفطرية وعلاقاتهم القليلة وشبه النادرة بالعالم خارج الجبل، وقد تمَّ دعمه من قبل مجموعةٍ من مثقفي الطَّائفة ومن أبرزهم الشاعر “بدوي الجبل” محمد سليمان الأحمد الذي كان أحد الموقِّعين على وثيقة العلويين التي تمَّ إرسالها إلى الخارجية الفرنسية والتي يرفض فيها كبار العلويين استقلال سورية واندماجهم مع الدولة السورية، ويطالبون بإقامة دولة مستقلة لهم في الجبل، مثلما كان الحال عليه أثناء الانتداب الفرنسي، فقد كانوا يشعرون بعدم انتمائهم للدولة السورية، بل كانوا يؤكِّدون الاختلافات الشاسعة بين طائفتي السُّنة والعلوية في الدِّين والمعتقد والتَّربية والعادات الاجتماعيَّة على الرغم من تعايشهم السلمي مع بعضهم البعض لمدة طويلة من الزمن.
وقد ساعدت العوامل الجغرافية على تعزيز قوى الأقليات الطائفية التي كانت في معظمها ترتكز في مناطق ريفية، ذلك لأنَّ حزب البعث العربي الاشتراكي الذي أصبح حزبًا قائدًا كان من أبرز شعاراته الاشتراكية التي تنصف الفقراء وتعلن مبادئ المساواة، ولذلك فإنَّه لاقى إقبالًا كبيرًا من تلك الأقليات الطائفية التي لعبت دورًا سياسيًا بعد وصول حزب البعث للسلطة من خلال المناصب التي كان يستحوذ عليها مجموعةٌ من الضبَّاط المنتمين للأقليات الطائفية مثل: محمد عمران، وصلاح جديد، وحافظ الأسد، من الطائفة العلوية، وعبد الكريم الجندي، وأحمد المير، من الطائفة الإسماعيلية، وسليم حاطوم، وحمد عبيد، من الطائفة الدرزية.
فالمسألة الطائفية التي أنهكت سورية هي مسألةٌ ليست جديدةً على بشار الأسد الذي سعى إلى إثارة النعرات الطائفيَّة منذ بداية الثورة، وحاول جعل الطائفية ورقة رابحة بيده لتكون له حجَّته الدائمة، وبالتالي كان من مصلحته أن تتحوَّل الثورة إلى ثورةٍ طائفيةٍ، إذ يحقُّ له حينذاك قمعها، فتكون طائفية مقابل طائفية، ودائمًا هناك وراء الغايات المباشرة غايات أخرى تخدم مصلحة بشار وأصدقائه الإيرانيين والروس، وبهذا المعنى للطائفية لم يكن الانشقاق بين السُّنة والعلوية ابن لحظته.
مجزرة حماة: إجهاض الثورة الأولى
هذا التشابه بيت الماضي والحاضر يعود بنا إلى فترة الثمانينيات من القرن العشرين، حيث اقترف النِّظام السوري ما يمكن أن نسمِّيه إبادة منظمة بحقِّ الشعب السوريِّ، وقد تمَّ تصدير الثورة باسم الإخوان المسلمين، ممَّا أدَّى إلى اتساع الفجوة بين الطوائف من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد سعى النظام إلى إعطاء الثورة طابعًا طائفيًا متطرِّفا ليتسنَّى له قمعها بالقوة العسكرية، أي أنَّه حاول إظهار سلطته –والتي تقوم في أساسها على الطائفية- بمظهر الحامي للوحدة الوطنية التي تنصهر فيها الطوائف والأقليات الموجودة داخل سورية جميعها.
وتمَّ بعد القضاء على التمرُّد والعصيان المدني -على حدِّ تعبير النظام الأسدي- اتِّباع سياسة التهميش، طالت هذه السياسة مناطق سورية عديدة أهمُّها مدينة حماة وجسر الشغور وغيرها من المدن ممَّن انطبعت في ذاكرتهم قصص عن القتل والتَّعذيب والخطف والاغتصاب، تلك القصص التي ترسَّخت في الوعي الشعبيِّ حتَّى وصلت إلى مرحلة الخرافة، وذلك ليس من باب المبالغة، فما حدث أفقد العقل البشريَّ صوابه فأصبحت القصص تلك أشبه ما يكون بهذيان من فَقَد عقله.
استعان حافظ الأسد آنذاك بأخيه أو بجناحه العسكري رفعت الأسد قائد جيش سرايا الدفاع الذي أسَّسه الأخير لتُسنَد إليه المهام الجسام لحماية النظام وكلِّ ما يهدِّد وجوده، وتمَّ بواسطته قمع تلك الثورة.
وبالفعل استطاع رفعت كما هو متوقَّع أن ينهي الثورة، وقد نفَّذ ذلك بوحشية تفوق التصوُّر لإخماد الثورة بأرضها، وتصفية كلِّ من تحدِّثه نفسه بالمطالبة بحقوقه، فقد قصف حماة بمدفعية “غراد” حتى دكَّها دكَّا، عائلات كاملة قُتلت، وامتلأت السجون بالمشاركين علنًا بالثورة، وبمن خدمهم من أصحاب الخطوط الناعمة “المخبرين”، حتى أُطلق عليه اسم “جزَّار حماة”.
وعلى النهج نفسه سار بشار الأسد إذ مكَّن قوة ماهر الأسد العسكرية ليضرب بها الثورة السورية عن طريق الفرقة الرابعة التي هي ذاتها جيش سرايا الدفاع أو النسخة المحدَّثة عنه، لتقوم بمجازر بشعة خاصة تلك التي وقعت في حمص “حي بابا عمرو”، والكلام على تدمير هذا الحي وغيره لا يزال رطبًا في الذاكرة، أي أنَّ السياسة بين الأخوين “بشار وماهر” تتشابه إلى حدٍّ بعيد مع سياسة “حافظ ورفعت”، حيث يشكل كلٌّ من رفعت في الماضي وماهر الآن الجانب العسكري الذي ينفِّذ القرارات السياسية الاستبدادية بدون رحمة أو تفكير.
وقد يكون الاختلاف هو أنَّ ثورة 2011م كانت أكثر اتساعًا ولذلك استعان بشار إلى جانب جيش أخيه بقواتٍ عسكريةٍ خارجيةٍ عملت على توسيع الشروخ الطائفية وإثارة الفتنة بينها، فقد كانت هذه الثورة تهديدًا واضحًا ومباشرًا لوجود الطائفة العلوية في السلطة والتي يمثِّلها بشار الأسد.
سورية المستقبل: البحث عن دولة وطنية
ومهما تكلَّمنا على تصوُّر عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ لسورية قد يكون بالإمكان أن يلوح في الأفق، فإنَّه يبدو أنَّنا أصبحنا ندرك خطورة الحقيقة التي لا تنفكُّ تؤكِّد نفسها يومًا بعد يوم، وهي أنَّ الطائفية والولاءات والانتماءات أصبحت واقعًا لا يمكن أن ينكره السوريون وهم يسعون إلى تأسيس دولة سورية المستقبل؛ ذلك لأنَّ مشروع الدولة الوطنية المستقلَّة عن الاستعمار الأوروبيِّ لم يتكلَّل بالنجاح الكامل في أغلب البلدان العربية التي قامت في أساسها على نظمٍ شموليةٍ استبداديةٍ صهرت كلَّ الهويات المختلفة والمتباينة في بوتقة الدولة الوطنية، ممَّا أدَّى إلى عودة هذه الهويات، فظهرت في فترة تزعزع سلطة هذه النظم الشمولية.
وأخيرًا يمكننا القول: إنَّ الطائفية نظامٌ تفكيكيٌ سيطر على سورية لأكثر من خمسين عامًا، ويقوم هذا النظام على تجزئة الشعب وتفريقه على مبدأ فرِّق تَسُد ليسهل القضاء على ثورته، وتتحوَّل الحرب الأهلية الطائفية بعد ذلك إلى حرب بين أكثر من جهة نتيجة التدخلات الدولية العربية والأجنبية التي لم تفتأ تشعِّب أزمة سورية والسوريين بدعمها العسكري والمالي، ليمتنع أيُّ حلٍّ سياسي عن التحقق منذ أوَّل رصاصة أطلقت في سماء سورية.
تعليقات علي هذا المقال