الدولة القومية السائدة في عالم اليوم هي أحد مخرجات التحديث السياسي في الغرب، حيث ظهرت كنتيجة لتفاعل مجموعة من العوامل الفكرية والواقعية عن عمل وفعل سياسي، أي عن طريق أطروحات عقلانية وفكرية مختلفة واستراتيجيات متعددة وضعت، فضلا عن ممارسات وتحديات واجهت من كان يملأ الحيز السياسي الغربي في القرون الوسطى، حيث أصبحت مخرجا لما يمر به من أزمات.
وهي مختلفة ومفارقة للدولة في العالم الإسلامي في جذورها الفكرية الثقافية وتحدياتها الواقعية، وتصور عالميتها وإمكانية تطبيقها خارج نطاق الغرب أصبح يواجه مأزقا أثبته الواقع وخرج نتيجة الاستيراد والتصدير خاصة في العالم العربي والإسلامي ما نشاهده من نماذج مشوهة.
يعتبر علم الاجتماع التاريخي أحد العلوم التي تمكننا من هذه الحقيقة عبر المقارنة بين النموذج الغربي والإسلامي، وتفحص عمليات التكوّن للدولة الحديثة باعتبارها خصوصية تنتمي لرحم التاريخ الغربي والدولة في العالم الإسلامي، كما يساعد في إدراك ما وراء التكون والنمو من ماهيات عقلية واستراتيجيات ومجازفات وممارسات واقعية.
الإسلام والغرب: ثقافتان متضادتان
أول ما يجب إدراكه هو الجانب الثقافي الذي شكل الحيز السياسي وهو ما يمكننا من إدراك جانب من الماهية العقلانية والفكرية والإستراتيجية الواقعية وراء تكون كلا النموذجين للدولة.
في الغرب برز حيز مستقل للنشاط السياسي تميز به تاريخهم عن أي تاريخ آخر، وكانت المسيحية من عوامل تشكله منفردا عن الحيز الديني، فلقد نمت الأخيرة لمدة ثلاثة قرون خارج الإمبراطورية الرومانية ثم اندمجت فيها، ومع التفكك والضعف السياسي للإمبراطورية شعرت المسيحية بالخطر وذلك لخوفها من الهيمنة وطموحات الحكام الساعين في السيطرة عليها وهو ما دفعها لتشكيل مجال مستقل بالسلطة، وأخذ رجال الدين يرفعون من شأن دورهم فاكتسبت تدريجيا المسيحية صفتين وهما التخصص الوظيفي والبناء الهيكلي، حيث الوظيفة المقدسة وتنظيم حول سلطة مخولة من الله.
ولقد لعبت هذه الإستراتيجية دورا أساسيا في بناء النشاطين السياسي والديني في حيزين منفصلين، فقد توجه منطق رجال الدين والحكام نحو تحديد ذاتية كل منهما بالنسبة للآخر، وإلى استقلالية وظيفة كل طرف.
هذه الثنائية بين السياسي والديني أخرجت تساؤلات عديدة منها التساؤل حول التحكيم في حالة النزاع بينهم وإلى أي طرف تنتمي القضايا المتنازع عليها كقضايا التعليم والزواج والتربية، فهناك من رأى مثلا أن التربية تخرج عن المجال الدنيوي وبالتالي هي من وظيفة الكنيسة المعنية بالحيز الروحي، وعليه فمن وظيفة الكنيسة حماية الفرد في المجال الخاص من المنطق والحيز الجماعي، وهنا خرجت ثنائية أخرى ميزت الثقافة الغربية، وكانت أحد سمات التحديث ثنائية الحيز الخاص والحيز العام.
ولقد هيمن توتر بين الحيز الخاص والحيز العام وأصبح أسلوب للتاريخ السياسي الغربي والذي ساهم مع ثنائية السياسي والديني في تشكيل مقولات التحديث السياسي الهامة، فالدولة من منطق عملها جماعية تنشد الكلي في حين أنها في نفس الوقت تعنى بالفرد المواطن، كما دفع التشتت خلف الفردية فقهاء الكنيسة والقانون لفكرة الشخص الممثل والشخص العام والتي بشرت بفكرتي المؤسسية والتمثيل فيما بعد وهي بذلك جاءت من إستراتيجية سياسية لمواجهة التشتت وليست من الثقافة الجماعية.
وساهمت عدة أفكار أخرى في تثبيت هذه العلاقة المتوترة بين الخاص والعام، منها فكرة تصوير المجتمع الإنساني عند أرسطو بأنه طبيعي، بمعنى أن الله خططه كوحدة كاملة تسمو على أجزائها، يستمد هويته من تحقيق الصالح العام، وبذلك اكتسبت الفكرة الكلية الجماعية العامة طابعا لاهوتيا حاميا للنظام وممهدا للفكرة الحديثة الخاصة بالدولة.
والفكرة الطبيعية للمجتمع الإنساني أيضا لاقت رفضا من أنصار الفردية باعتبارها ضد القدرة الإلهية المطلقة، وبالتالي يعود منطق المدينة عندهم إلي تجمع كيانات مفردة وكل وجود ليس إلا حادثا يمكن تأمله وتبرير وجوده وهو ما مهد لفكرة التفسير التجريبي الامبريقي وللعلمانية والقانون الطبيعي والعقد الاجتماعي أيضا، إذ فرق بين إرادة الله وإرادة البشر والمجتمع ما هو إلا إرادات فردية متعددة.
على النقيض من هذه الأسس، جاء النظام السياسي الإسلامي لا يفرق بين المعرفة والعقيدة، وجاء فيه الحيز السياسي وفق الالتزام بإنشاء دولة مرتبطة بالعقيدة، وعندما أنشأت النخبة السياسية دولة مبتكرة واجهت تحديات داخلية وخارجية وتسببت في توتر بين الديني والسياسي، لكنها لم تؤد إلى الانقسام بين الحيز الديني والسياسي كما في النموذج الغربي.
وفي العلاقة بين الخاص والعام كان الواقع الإسلامي ذا طبيعة جماعية من قبائل وتشكيلات اجتماعية وهو ما صعب حدوث “فردنة” للعلاقات الاجتماعية مماثلة لما اتسم به تطور العالم الغربي، وهو ما دعا إليه الفكر الإسلامي أيضا يبحث عن الجماعية استنادا إلى القرآن، وعندما بحث الفلاسفة والمنظرون المسلمون في الأفكار المنتشرة في العالم اختاروا بين الأفكار التي تخدم هذا التصور الإسلامي.
وفي النظرية السياسية الإسلامية التي لا تفصل بين الديني والسياسي كان على جموع أعضاء المدينة التزامهم بمعرفة القانون الإلهي وتجاوز الجهل، وهو الأمر الذي يعكس تضامن الأمة وكذلك تعبئة واعية واجتماعية، كما أن عدم الفصل ومع وجود الطبيعة البشرية الناقصة يخلق توترا دائما بين من يسعى للمثل وبين من يرتبط بحكم الضرورة في مواجهة أخطار فناء المدينة.
وكانت نقاشات المسلمين عن العقل تدور حول نفعيته ومعاونته في معرفة الوحي لا حول فرضية جعل العقل وسيلة مستقلة للوصول إلى إدراك الواقع كما في الفكر الغربي، وهو ما ساهم بدوره في صياغة الفكر الإسلامي وتحديد بنيان الحيز السياسي.
كيف هيمن التحديث الغربي على العقل الإسلامي؟
ابتكر الغربيون تحديثا سياسيا أقام نموذجا في القرن التاسع عشر ينبع من تلك الثقافة مستندا إلي سمات ثلاث وهي: علاقات سيطرة حيث مركز حكومي ثابت متجاوز تفسخ علاقات السلطة، وأسبقية زمنية جعلت منه النموذج الوحيد الذي يتم تقليده أو رفضه، وتنوع مع وحدة في الثقافة كالنموذج الإنجليزي والأوروبي الشرقي والغربي وهو ما زاد من قوته في الخارج.
في إنجلترا أدى ضعف البيروقراطية إلى تطبيق نظام سياسي حديث منذ وقت مبكر يحد من الاستبدادية الملكية، كما عجل من طرح مسألة التمثيل والشرعية وحرص الملك على بناء قانون عام في كل البلاد من أجل إحلالها محل محاكم أصحاب الإقطاعيات، فساعد في تفكيك النظام الإقطاعي ومن ثم بناء مجتمع مدني بدوره دفع إلى إقامة برلمان يمثل الطبقة الأرستقراطية المتكونة، وعززت الثورة الإنجليزية من هذا البنيان السياسي، وتكونت نماذج أوروبية أخرى مختلفة خاصة في العلاقة بين الحيز الديني والسياسي كما في روسيا وفرنسا لكنها اتحدت في ثقافة الفصل والثنائية.
وقد أدى التحدي الذي واجهته الدولة العثمانية في نهاية القرن الثامن عشر حينما هزمت وواجهت تهديدا في البر والبحر إلى الاستيراد من هذا النموذج الذي فرض نفسه، وكان الهدف الحصول على الوسائل التي حققت هيمنة الغرب خاصة العسكرية والتقنية لحماية قوة الإسلام، وهذه هي الاقتباسات الأولي والتي جاءت إلي مصر عن طريق محمد على أيضا.
ثم جاءت مدرسة الإصلاحيين الأولى رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، محاولة التوليف بين مواد غربية وبين العقيدة الإسلامية، وعلى أثرها ظهرت مدرسة الإحيائيين تنقد هذا النقل والتقليد من الغرب باعتباره غير مقبول وغير فعال أيضا، وبعدها ظهرت المدرسة الإسلامية لكن التحديث الغربي كان قد هيمن حيث استمرت الدولة في الاستيراد الذي لم يتوقف في ظل ما تواجهه من أخطار دائمة.
التحديث الغربي: إستراتيجية بناء الدولة
هناك فرضيتان في تفسير بناء الدولة الغربية الأولى تتحدث عن أن الاقتصاد ممثلا في توسع الرأسمالية التجارية وراء ابتكار الدولة، والثانية تربطها بوجود نخبة وطنية استطاعت بإرادتها إقامة البناء، وكلاهما يعاني من قصر نظر تاريخي، ويساهم دحضهما فى هدم الرؤى التي تتحدث عن إمكانية تنفيذ نفس النموذج خارج الغرب بنفس الطريقة إما عن طريق النظرية التنموية أو بوجود نخبة وطنية.
إن فهم جوهر التحديث السياسي الكائن وراء ابتكار الدولة يستند إلى فهم العملية التي دفعت عناصر اجتماعية فاعلة إلى تسليم الغير ما تمتلكه من امتيازات سياسية، وعلى هذا يعود الابتكار إلى فصل النظام الاجتماعي عن السياسي وإسناد السيطرة على النظام والحيز السياسي إلي جهاز متخصص قام بامتلاك هذه الامتيازات، وهنا تخرج أسئلة عن مقابل هذا الإسناد والتفويض للدولة ومنطقه وهل تم بشكل جماعي أم فردي.
تعود الجذور العميقة لابتكار الدولة إلى أن القرون الوسطى جاءت بعد غزوات وعدم استقرار سكاني ساهمت في خلق مجموعات سياسية خاضعة لنفس السيادة، سيادة الأسر الملكية، فعملت الأخيرة على تأمين أمنهم الذاتي وأمن رعاياهم، ثم ظهرت الحاجة لتنظيم للخروج من فترة عدم الاستقرار، وهذا على العكس مما مرت به الدولة العثمانية في نهايتها، والتي كانت فى حاجة إلى استراتيجيات للحد من التجديد السياسي وخنقه، والتي تتوافق مع السلبية التي تولدها إدارة ميراث إمبراطوري.
لا شك في المنابع الإقطاعية لنظام الدولة والتي ساعدت الملكية أيضا في استخدام وسائلها للقفز نحو نظام سياسي جديد ومهد للقضاء عليها ولاحتكار الحيز السياسي، وقد مهد الاحتكام إلى الملك كسلطة قضائية استئنافية لاحتكاره التدريجي سلطة القضاء، وعلى هذا المنوال في سماتها الأخرى مع فقدان الصيغة التقليدية للعلاقات الاجتماعية فاعليتها كان ابتكار الدولة ونموها في توافق مع العناصر الاجتماعية الفاعلة التي رأت في النظام المجزأ بمثابة تهديد أو فرصة ضائعة.
وفكرة الأمن وهي علامة مميزة أخرى للدولة تلاءمت مع مطلب واقعي يفهم منها كيف قبل الأفراد التنازل عن السيادة لصالح الدولة، إذ تعود إلي حرص السادة الإقطاعيين والقضاة على احتواء الهجرة الريفية وتفادي حدوث تمرد من الفلاحين، وكان الملك من خلال الامتيازات يقوم بحماية أمن البرجوازيين في المدن، وتم ذلك عن طريق نزع سلاح السادة الإقطاعيين وهو ما مهد إلى مصادرة العنف لصالح الدولة.
ولا يقتصر ابتداع الدولة على هذه المرحلة الأولية، إذ تستند أيضا إلى عملية نمو بطيئة خاصة بقيام المؤسسات وبالحصول على الاستقلالية وبمنحها سماتها الخاصة وتزويدها بالموارد الفاعلة، وكلها تتعاطى مع المعطيات الثقافية التي تم ذكرها. وكانت الدولة مع كل منازعة تعزز من سلطتها وتقوى من مؤسساتها واستحواذها على المجال السياسي، وعلى العكس في العالم الإسلامي مع كل منازعة تتعرض للخطر أمام رفض التبعية لها.
التحديث الإسلامي: رغبة أم اضطرار؟
كان التحديث الإسلامي في القرن التاسع عشر أقرب إلى التكيف منه إلى التجديد، رغبة من السلطان فى الدولة العثمانية والشاه فى بلاد فارس في تنشيط قوتهما السياسية فى مواجهة التحديات الخارجية والداخلية ولم يتلاقى مع أي إستراتيجية أخرى.
وعلى عكس الغرب الذي كان مصادرة الحيز السياسي لصالح الدولة يتم بالتوافق كان يتم في بلاد الإسلام بالصدام، وما زال حتى الآن تضطر الدولة إلي تعويض الفشل بمصادرة الحيز السياسي والاستئثار بالوظائف، وبسهولة يمكن إسناد فشل التحديث فيها إلى المحاكاة، حيث إن فكرة مصادرة الحيز السياسي ينتمي إلى الثقافة والواقع الغربي.
وقد لاقت عملية التحديث هذه معارضة من النخب المحلية، ولم تساهم الاستراتيجيات والسياسات التي اتبعتها الدولة في تقوية سلطتها كما كان يحدث في الغرب، بل في تقوية مركز اجتماعي آخر خارج النطاق الرسمي، وهو ما أدى إلى فقدان الدولة هويتها وزيادة الانشقاقات بين نموذجين: أحدهما يتجه نحو الداخل والآخر نحو الخارج، ودفع بالمركز السياسي الحديث إلى الانطواء على ذاته، فيما ظل التحديث فى المجالات الاجتماعية هشا وجزئيا.
وفي مواجهة جميع إخفاقاته يلجأ إلى القمع المتزايد والذي يتيحه له التقدم التكنولوجي، وقد شهد العالم الإسلامي وما زال صورا أخرى من التحديث غير الغربي، لكنها ما زالت تلاقي إما صعوبات كبيرة أو فشل، وبعضها لا يحمل أي صورة مبتكرة لإعادة بناء النظام السياسي، وبعضها الآخر قسري لا يحمل صورة شرعية.
تعقيب
لقد تعرض كتاب ومفكرون لأفكار الكتاب من قبل منفردة، على سبيل المثال ناقش الدكتور عبد العزيز صقر التحديث الغربي فى جانبه الفكري والواقعي فى كتابه “الدين والدولة في الواقع الغربي”، وناقش المستشار طارق البشري التحديث الإسلامي في كتاب “الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر”، غير أن منهج المقارنة واستخدام علم الاجتماع التاريخي أظهر جوانب ومقابلات مثيرة في الفكر والواقع وأجلى الاستراتيجيات المتبعة، مما يمكن المهتم من الاستفادة من هذه النماذج ويبصر العيون بأسباب الفشل والنجاح سواء على مستوى الأفكار أو السياسات والتحديات.
المصادر
[1] هو كتاب للباحث الفرنسي برتران بادي متخصص في العلاقات الدولية وأستاذ في معهد الدراسات السياسية بباريس وصدر له عدة كتب منها: “الدولة المستوردة تغريب النظام السياسي”.
تعليقات علي هذا المقال