وُصفت عملية طوفان الأقصى بأنها “أكبر هجوم” للمقاومة الفلسطينية على الكيان الصهيوني، أو بالأحرى، الاستعداد الأقوى لاستعادة الأراضي المحتلة. وعلى نفس الغرار، وصفت مصادر أخرى تبعاتها المرتقبة بأنها الحدث الذي قد يؤدي إلى انهيار الإستراتيجية الإسرائيلية تجاه قطاع غزة. توسّطت الحرب الدائرة منذ السابع من أكتوبر من العام اللاحق وحتّى يومنا هذا أحداث عدة على المستويات: العسكرية والسياسية والإنسانية، بينها جميعًا تفاعل، والكثير من العرب والمسلمين ومناصري قضايا التحرر ورافضي سياسات الاستيطان مع الحدث باعتباره الممثل في اللحظة الراهنة لما يُمكن أن يكون إنسانيا وحرا.
كان لطوفان الأقصى تأثير كبير على الأفراد والمؤسسات والجماعات في مختلف بقاع العالم العربي والإسلامي والدولي. تفاعل الفرد العربي مع الحدث باعتباره يُعبّر عن هوية عربية مسلمة، إذ يحمل جانبين: الأول ثقافي والثاني ديني. تراوحت أشكال التفاعل لدعم بقاء الفلسطينيين أو الغزيين من خلال المجال الافتراضي والآخر الفعلي، خصوصًا في البلدان التي تركت لهم مساحة للتعبير عن الرأي. وتُعد الكيانات المنظمة وغير المنظمة فاعلًا آخرًا، يحمل طابعًا أكثر جمودًا وأقل تأثيرًا في اللحظة الحالية. هذا بخلاف الفاعلين المنظمين الفعليين على الأرض، أي ممارسي فعل الحرب والمقاومة والمفاوضات من أجل الوصول إلى حلول محتملة، وعلى رأسهم حركة حماس، وجناحها العسكري. على المستوى الدولتي، حكمت النبرة الدبلوماسية لغة ونمط التفاعل مع قضية الفلسطينيين، إذ عُقدت مؤتمرات يُشارك فيها زُعماء دول إقليمية مثل مصر والأردن والسعودية وتركيا لرفض الظرف الإنساني الواقع على الإنسان الغزي، فيما قادت دول أخرى مفاوضات على فترات متفرقة لوقف الحرب والوصول إلى هدنة.
ما نتناوله الآن هو سؤال الكيفية التي تفاعل من خلالها الفرد العربي وغير العربي مع الأزمة، كما نتطرق إلى مشروع الفرد العربي في المستقبل وموقعه من القضية الفلسطينية. أي بعبارة أخرى، كيف يُمكن فهم فاعلية الناس العاديين مع قضية تحرر إنسانية، وكيف يُمكن أن تختلف أنماط تموضعهم داخل مسرح الحدث في المستقبل المنظور.
حراك متعدد الأبعاد
بدأ الحراك الشعبي منذ اليوم الأول من إعلان كتائب القسّام عن عملية مُوسّعة على غلاف غزة، ثم ما تبعه من حرب مُوسّعة على قطاع غزة. كانت الأيام واللحظات الأولى مُربكة لبعض الدول العربية في كيفية التعامل مع الأزمة، والأهم، إدارة الثورة الإنسانية لشعوبها الداعمة لأصحاب الأرض والمقاومة. واتجه الفرد العربي الداعم إلى منصات التواصل الاجتماعي بوصفها أحد أشكال الدعم البديل، لنشر أخبار ومعلومات تُسهم في تكوين الرأي العام، ولمقاومة الرقابة المفروضة على المجال الفعلي، الذي كان فضاء للتفاوض على فترات متفرقة من الطوفان، إذ خرجت تظاهرات في عدة عواصم ومدن عربية وعالمية، مثلت صوت الغزي، ورفضت ممارسات الكيان الصهيوني.
كما أنها أكدت على الاستحقاقية التاريخية للفلسطينيين. وبجانب ذلك كان هناك حراك استهدف الشركات العالمية الداعمة ماديًّا وعسكريًّا، من خلال تدشين حملات مقاطعة واسعة أدت إلى خسائر مالية تستمر إلى اليوم.
إضافة إلى ذلك، ظهر نشاط المحتوى المرئي والمسموع، الذي يحاول الدمج بين المناصرة والتوعية وتوضيح بعض الحقائق التاريخية التي تدعم الفلسطينيين خارجيًّا وداخليًّا. وهذا إجمالا هو مجهود الأفراد؛ الناتج عن شعورهم بأنهم جزء من هذه القضية، كما تعظّم ذلك على المستوى الفعلي والشعوري؛ بفعل تأثير أحداث طوفان الأقصى والدعم الأمريكي غير المحدود عسكريًّا والعربي دبلوماسيًّا.
موقع الفرد العربي من الطوفان ومستقبل التأثير
أرى أنه ثمة إمكانات غير مُستثمرة إلى الآن لدعم القضية الفلسطينية، وهي التي ترتبط ارتباطا مباشرا بسؤال موقع الفرد العربي من الحدث، بعيدًا عن تمثُّل الأنظمة العربية اليوم وفعلها.
شعبيًّا، كثير من أبناء الجيل الأصغر عُمرًا والأقل خبرة، لا يعرفون إلّا القليل عن تاريخ تلك الأرض، وتاريخ الصراع الدائر، والواجب الفردي والجماعي تجاه ما يحدث، بل إنّ البعض يكاد يغفل عن بديهيات الأدبيات والشخصيات التاريخية والأحداث الفارقة.
مؤخَّرًا، بدأ الأفراد في تغيير أولوياتهم واهتماماتهم كما تغيرت نظرتهم إلى السياسة، والتي تنفتح انفتاحا أكبر على قضايا أوسع من قضاياهم المحليّة. وفي سياق أحداث طوفان الأقصى، فإنّنا نُلاحظ أن ثمة فئة كبيرة في الشارع أو في المجال الافتراضي أصبحت تمثل ذواتها بوصفها جزءًا من المقاومة. يُمكن استثمار هذا في ربط أجيال الحاضر والمستقبل جذريًّا بالقضية الفلسطينية؛ من خلال البرامج والأنشطة الثقافية في المدارس والجامعات والمنتديات والنوادي الاجتماعية، والذي بدوره يُمكن أن ينقل التضامن الشعبي من مستويات دعم آنية إلى أخرى طويلة الأمد وأكثر عُمقًا وفاعليةً، أي قادرة على المحاججة في سياقات تختلف ثقافيًّا وعرقيًّا عن الثقافات العربية.
على المستوى الفلسطيني، يبدو أن هناك حاجة لجهود أكبر لتمكين الشباب الفلسطيني معرفيًّا وتقنيًّا؛ من أجل تعويض فقدان طاقات بشرية هائلة في الحروب المتتالية على قطاع غزة. ذلك هو لُب مشروع العودة عند الفلسطيني اليوم. وكما قال لي أحد الأصدقاء الغزيين بأنّ الشاب الفلسطيني هو الذي سيعوّض دمار الحرب، وليست المشروعات الاستثمارية للبلدان والمنح الأجنبية، فالحياة اليومية أكبر من خرسانات وعمائر تُبنى محل التي هدمها المحتل.
أكاديميًّا وعلميًّا، هناك العديد من الجهود الفردية والمؤسساتية للباحثين ومراكز الأبحاث والمنتديات والمؤتمرات العلمية؛ التي تأخذ من فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي مركزًا لها، من زوايا مختلفة، للتأكيد على أهمية الفلسطيني وفلسطين بوصفها قضية تستحق أن تكون دائمًا محور فحص بحثي، لكنّها لا تتشابك مع أوساط عدة غير أكاديمية/علمية. ولذلك، فإنّ ترجمة هذه المحاولات الأكاديمية إلى نصوص أكثر قربًا من الناس بمختلف إمكاناتهم العلمية والمعرفية وخلفياتهم الاجتماعية والاقتصادية؛ يُعد أمرا ضروريا واجب أخذه بعين الاعتبار. وهذا يعني بعبارة أخرى، أننا يجب في المستقبل أن ننتقل من البحث بصيغة الوضعية الجامدة إلى دوائر السرد الذي يؤكّد على سردية أصحاب الأرض، والوعي العام بكيفية الدفاع عن قضية التحرر ومقترحات التغيير المستقبلي.
على مستوى الخطاب، ربما لاحظنا عدة تناقضات في الخطاب بين الفاعل العسكري والمدني على الأرض ومن هم خارج ساحة المعركة. ولذلك، فإنّنا بحاجة إلى خطاب على مستويين: شعبي وتحليلي، يعي بحاضر الأحداث وقادر على استشراف مستقبلها، بطريقة لا تخلِطُ بين التمنيات الشخصية والجماعية ومسار الحدث الفعلي.
وهذا ينقلنا إلى دور النخب بوصفها فاعل رئيس من أجل الضغط السياسي في السياقات المحليّة والإقليمية والدولية، التي من المفترض أن تطور من خطابها مستقبلًا تطويرا دائما، وذلك على المستويين السياسي والحقوقي، وهو الذي يجب أن يتشابك مباشرة مع تأثير الأفراد في دوائر علاقاتهم، فالمستويات الفوقية لا تنعزل عن الأخرى التحتية، إذ إنّ نتاج الفجوة بين الأفراد والنخب، هو هزيمة سيكولوجية، فكما حدثني أحد الأصدقاء الغزيين ساخرًا: “الآن النخب خذلتنا، وهي تُخبرنا أننا نتقدم والعدو ينهار، لكنّ أسرتي يشترون الغذاء بأضعاف أثمانه، ويموتون جوعًا في غزة”.
تكثّفت حملات الدعم الفردي والجماعي الإنساني تجاه المجتمع الغزي في الفترة الأخيرة بفعل تبعات الحرب الكارثية، التي دفعت أفرادًا ومؤسسات في جميع أنحاء العالم إلى توجيه الأولوية إليهم، من خلال التبرعات التي يُقدّمها رجال أعمال أو قوافل طبية يقودها أطباء من عدة دول عربية وإسلامية، لكن في الوقت نفسه، على الداعمين والمتضامنين، أن ينتقلوا من مرحلة الدعم الإنساني إلى “الدعم المُعقّد” الذي يتضمن أموالًا، وإضافة إلى ذلك التفاعل المباشر مع حملات التوعية والتثقيف الهوياتي، الذي يضع القضية الفلسطينية أولوية وجامعا مشتركا، وهذا لا يتم إلّا من خلال عرض ونقاش واهتمام مستمر بتاريخ وحاضر ومستقبل الحرب في المجالين الافتراضي والفعلي، على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
يعيش حوالي نصف الفلسطينيين خارج فلسطين مُوزّعين على البلدان العربية وغير العربية، كما أنّه قد نُفي وهاجر الآلاف، ونزح قسرًا الملايين من العرب من جنسيات مختلفة، وهذا يجعلنا نُحمِّلُ المنفى والشتات الفلسطيني/العربي خصوصية كبيرة، من ناحية التنظيم والفعل المرئي، غير الافتراضي، الذي يتشابك مع الثقافات والشعوب.
إنّ الملاحظة الأجدر بالذكر هنا أنّ الاستثمار الأهم في ذلك الحضور العربي في الخارج؛ يُمكن أن يتمثل في محاولة بناء شبكات داخل البلدان التي يعيشون فيها، (مع الحكومات المُستَقبِلة لهم وجماعات الضغط والتأثير) وبجانب ذلك بناء شبكات أخرى عابرة للحدود، أي بين تجمعات العرب والفلسطينيين في بلدان مختلفة، وهذا بافتراض أن القوة الناعمة إحدى أدوات الصراع؛ التي ربما افتقدها الفلسطيني والعربي عقودًا من الزمن. وإضافة إلى ذلك، فإنّ امتلاك فضاء حرّ وديموقراطيّ إلى حد ما، قد يُتيح فرصًا للعرب والفلسطينيين في الخارج؛ من أجل بلورة سردية لا تتأثر بموقف الحكومات والأنظمة غير الفعّال تجاه القضية الفلسطينية.
تلك السردية التي تُخاطب المواطن العالمي تتضمن ثلاث نقاط انطلاق رئيسة: أولًا، الحفاظ على الحق الفلسطيني التاريخي إعلاميًّا، ثانيًا، رفع الغطاء عن بعض الصور النمطية التي يُروّج لها الإعلام الإسرائيلي، مثل أن المقاومة إرهاب، وأنها المقاومة تستخدم المدنيين دروعا بشرية، وثالثًا، أن فلسطين هي “قضية تحرر وعدالة عالمية”، وليست فلسطينية أو عربية فحسب، لذا، فإنّ ثمة حاجة إلى “عولمة” أدوات التفكير والفعل.
نحو مأسسة الدعم العربي
من باب التفاؤل قليلًا، يُمكننا القول بأنّنا الآن أمام لحظة راهنة، يتحول فيها الفاعلون لفهم موقعهم من الحدث، من كونهم جزءا من الأزمة الكبيرة، إلى فهم أنفسهم بوصفهم في قلب الحرب، وربما محاربون، بأدوات أخرى غير السلاح، خصوصًا، مع تقدم إسرائيل إلى حدود دول عربية مثل مصر، وتطبيعها مع دول أخرى تطبيعا كلّيا مثل الإمارات العربية المتحدة.
يجب مأسسة هذه العناصر جملة، لتوفير قدرة استيعابية للمواطن العربي ودعم متعدد الأبعاد: شعبيًّا وثقافيًّا وإعلاميًّا وفنيًّا وأكاديميًّا، تُحافظ على موقع القضية الفلسطينية في أعلى هرم الأولويات، كما تدفع بالسلوك التأثيري للأفراد خطوات إلى الأمام. وهذا يعني أن تنفيذ وتتبع ذلك، قد يحتاج إلى عمل ممنهج/منظّم، ودوري، لا يترك الأفراد وحدهم يدعمون فلسطين في أوقات الكوارث والأزمات، فيما يُنسى الهم والصراع الأكبر في أوقات انعدام الحرب المباشرة على الفلسطينيين، في حين أنّ الحصار مستمر.
قد تظهر صور هذا العمل الداعم فوق الفردي (above-individual) الممنهج في صورة مؤسسات تُوسّع من نطاق عملها، ليدمج بين المادي والإعلامي والتقني والثقافي والمعرفي والتاريخي، أو منصات إعلامية وصُحف أو منصات رقمية توثيقية (وهي التي ظهرت مؤخرًا)، وإنّ النمط المؤسسي الأكثر رسوخًا قد يتمثل في التأطير للقضية الفلسطينية بوصفها نمط معيش إنساني، عابر للجغرافيا والزمان.
ختامًا، كما كانت رؤية المفكر المصري عبد الوهاب المسيري، حول مصدر قوة إسرائيل، بزعمه أنّ الدعم الأمريكي غير المشروط أحد أهم ضمانات البقاء الإسرائيلي، فإنّ الدعم العربي غير المشروط للفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية على المستويين الشعبي والنخبوي، وموقع الفرد العربي بكونه مُستهدفا إسرائيليا إستراتيجيا رئيسا، أي دمجه في قلب الحرب، هي بمثابة ضمانات لتحرير الأرض، وللتقدم خطوات في الحرب العسكرية والسياسية والسيكولوجية القائمة اليوم.
تعليقات علي هذا المقال