تروى ثورة 1919 على أنها ثورة سياسية وطنية ضد الاحتلال الإنجليزي طالبت بالاستقلال والدستور، وإن كان ذلك صحيحا، فإنه يمثل جانبا واحدا من الحقيقة، والجانب المنسي هنا هو دور الفلاحين المصريين في الثورة، والذي يعد في جوهره ثورة أخرى، أو ما يمكن أن نسميه ثورة مزدوجة، حدثت في نفس الوقت، واحدة قام بها الأفندية في المدن بدوافع وأهداف سياسية، والثانية قام بها الفلاحون في الأقاليم بدوافع وأهداف اجتماعية واقتصادية.
يقدم كتاب “تمرد الفلاحين المصريين”[1] رواية مختلفة عن ثورة 1919، باستخدام أدوات التحليل التاريخي الاجتماعي، وبدراسة التغيير في الملكية الزراعية خلال القرن التاسع عشر، والتحول في نمط الإنتاج والذي انعكس على حياة الفلاحين، وساهم في إفقارهم، وهو ما دفعهم إلى الانتفاضات المستمرة على مدار قرن من الزمن وصولا إلى الثورة.
في إطار هذه الازدواجية، يظهر ما كان مخفيا من الثورة، ويجيب عن العديد من الأسئلة، منها: كيف تم استعمار المجتمع الزراعي؟ وما هي الطرق التي أدت إلى الثورة؟ وما هي مساهمة الفلاحين فيها؟ وكيف تعامل معهم الاستعمار؟ ما هي الاختلافات والتباينات بين الفلاحين من جهة وبين المثقفين من جهة أخرى؟
استعمار المجتمع الزراعي
بدأ توجيه الاقتصاد المصري نحو تصدير القطن في عهد الولاة والخديوية، محمد علي وعباس وسعيد وإسماعيل، وعندما جاء الاحتلال الإنجليزي إلى مصر عام 1882 عمل على دمج الاقتصاد المصري في السوق العالمي، ومع إنجاز الإصلاح الإداري والضريبي عام 1896 تحول القطاع الزراعي بشكل كامل إلى الرأسمالية، في صورة اقتصاد أحادي لزراعة القطن الموجه للتصدير.
وفي سبيل ذلك، اعتمدت الإدارة الاستعمارية على تجاربها في الهند، والمتخصصين والمهندسين القادمين من هناك، ثم على تعزيز سلطة الدولة المركزية، وإعادة تنظيم القطاع الزراعي الذي أدى إلى التغيرات الديموغرافية وهجرة السكان من الريف إلي المدن.
ولم يكن هذا التحول سوى نهب للموارد الزراعية المصرية من الاستعمار البريطاني، وهو ما انعكس على أوضاع الفلاحين وأفقرهم، مؤديا إلى انهيار النظام الزراعي التقليدي، فأصبح العمل في الحقل يتطلب مجهودا أكبر، لعدم زيادة عدد العمال بنفس درجة زيادة المستهلكين، ولأن الضرائب والفوائد على الرهانات العقارية قد ارتفعت بشكل كبير بسبب خصخصة ملكية الأراضي، وقد أثرت تقلبات أسعار القطن على أغلبية السكان بشكل مباشر، والبقية بشكل غير مباشر، وهو ما كان له دور كبير في الحياة الاجتماعية والسياسية.
كما أدى التنافس بين بريطانيا والولايات المتحدة على القطن إلي سعي بريطانيا للتوسع في زراعة القطن، وهو ما تطلب غطاء عسكريا لحماية الأماكن التي استغلتها، ويعد سحق الثورة المهدية في السودان مثالا على ذلك.
وقد أدى احتكار الزراعة المصرية من قبل الاستعمار وتوجيهها نحو القطن إلى تحولات هامة، انعكست على علاقات الفلاحين الاجتماعية، كما تأثر النظام البيئي شيئا فشيئا، حيث تأثرت زراعة محاصيل كان الفلاحون يعتمدون عليها في الاكتفاء الذاتي، مثل القمح والشعير والفول والحلبة، وهو ما دفعهم إلى الاعتماد على الأسواق الخارجية لقلة تلك المحاصيل.
وكان من ضمن التحولات الهيكلية في الاجتماع المصري في القرن التاسع عشر خصخصة الأراضي، لا سيما الزراعية منها، فبعد أن كانت الدولة تمتلك الأرض بشكل رمزي قبل ذلك، تحولت مع محمد على إلى الاحتكار بالوسائل العسكرية والقانونية.
ولم يتوافق هذا النمط مع الأوروبيين، فتخلي الحكام عن التقليد الإسلامي الذي يمنع الأجانب من تملك الأراضي في البلاد الإسلامية، مما زاد من سلطة الدولة وتركيز ملكية الأرض في يد بعض الأفراد، وكذلك ضياع امتيازات سياسية واجتماعية كان يحصل عليها المالك أو الملتزم بسبب حيازة الأرض، وتزايد عدد الفلاحين الذين صودرت ملكياتهم الصغيرة بسبب الضرائب وتحولوا إلى عمال زراعيين.
الطرق المؤدية للثورة
أدت هذه السياسات من الاستعمار، باستخدام جهاز الدولة، إلى تغيير النظام الزراعي التقليدي، ودفعت نحو انهياره، كما دفعت الفلاحين نحو أشكال مختلفة من المقاومة على مدار القرن، منها انتفاضات اجتماعية كانت تأخذ طابعا دينيا، انطلاقا من ظاهرة المهدي المخلص، وكان الدافع وراءها هو الرفض التام للعالم المعاصر الفاسد، والتطلع إلى عالم أفضل.
عادة ما كان يظهر فرد يجسد هذا الموقف، محاولا تحرير الفقراء وإقامة مملكة العدل التي ينتشر فيها الإسلام، وقد شكلت هذه الظاهرة كل حركات الخلاص والتحرير في القرن التاسع عشر تقريبا، ومع تنامي الحركات الثورية السياسية تداخلت المضامين السياسية مع أشكال المقاومة التي تطورت في المدن، وسارت تحت نخب المدن العلمانية.
كانت البداية مع التحول الحاسم تحت حكم محمد علي بإعادة هيكلة مصر نحو نظام احتكار الدولة، والتي مست مجمل الهيكل الزراعي، وفرضت زراعة القطن قسرا، وأجبرت الفلاحين على التجنيد، بالإضافة إلى فرض الضرائب وأعمال السخرة، وهو ما أدى لتفخيخ البيئة الاجتماعية.
ومع قمع الدولة للانتفاضات لجأ الفلاحون إلى أشكال مختلفة للخلاص الفردي، عن طريق تشويه أنفسهم للهروب من التجنيد الإجباري، أو الهروب من القرى والسكن في الجبال والصحراء، أو البحث عن أشكال أخرى للمقاومة السلبية، بدلا من اللجوء إلى الانتفاضات الجماعية.
عصابات قطاع الطرق كانت نوعا آخرا من طرق المقاومة، فقد أعادت إنتاج علاقات القوة التي تشبه النظام الاجتماعي قبل دخول الرأسمالية، وكانوا يستهدفون في المقام الأول الملكيات الخاصة التي ظهرت حديثا.
وقد كان قطع الطرق مقتصرا على البدو قبل ذلك، إلا أنه مع تفسخ المجتمع الزراعي انضمت إليه أعداد متزايدة من الفلاحين، وهو ما أدى إلى اتخاذ إجراءات من إدارة الاستعمار، بتوسيع صلاحيات الشرطة وزيادة المحاكم وإعادة تنظيم السجون وزيادة المخصصات المالية للأمن.
كانت الجرائم الفردية هي الأخرى أحد أشكال المقاومة في المدن الكبرى، وقد ارتفعت بشكل كبير، واشتكى منها كرومر في تقريره الصادر عام 1904، واعتبرها جرحا في مصر الحديثة، وقد كانت أغلبها جرائم خاصة بالمجتمع الزراعي، حيث توجهت ضد الملكيات الزراعية للأعيان، وضد الهوة الواسعة بين الغنى والفقر.
في خضم هذه الأحداث والتحولات، لم تكن الطبقة السياسية على وعي بأوضاع الفلاحين، وهو ما انعكس على العلاقة بينهما، وكانت حادثة دنشواي أول ما نبهت إلى قضايا الفلاحين، لكن ليس بقصد دمج أحوال الفلاحين ضمن البرنامج الاجتماعي لتلك الطبقة السياسية، ولكن لإضفاء شرعية أوسع على صحوتهم ونشاطهم السياسي، كي تصبح ممثلة لكل الأمة.
ولم تكن تعبئة الفلاحين بواسطة الطبقة المثقفة على أساس ما يتعرضون له من ظلم اجتماعي، بل بوصفهم رمزا للشهداء في المعركة ضد الاستعمار.
كان فهم حادثة دنشواى لدى النخبة المثقفة مبتورا، باعتبارهم أن الفلاحين يقفون ضد الاستعمار وليس ضد الأعيان وكبار الملاك أيضا، لقد تصور أعضاء الحركة الوطنية أن الفلاحين أخيرا قد آمنوا بقضيتهم وشرعية حركتهم.
ومن الاختلافات أيضا؛ هو أن الطبقة الجديدة المثقفة من الأفندية والتي تشكلت من أبناء التجار والوسطاء التجاريين والمعلمون في المدارس العلمانية، كانوا يحملون طابعا سياسيا في رؤيتهم للعالم، وكانت المفاهيم مثل البرجوازية أكثر تعبيرا عنهم، بينما كان الفلاحون يحملون الطرق والوسائل التقليدية، وهو ما جعلهم ينفصلون عن الفلاحين وقيمهم ونظمهم الاجتماعية الإسلامية التقليدية.
ربما تمثل الاستثناء في الحزب الوطني، الذي وضع برنامجا زراعيا بما في ذلك إنشاء الجمعيات الزراعية، ولكنه كان برنامجا متواضعا، ولم يغير شيئا حقيقيا في مواجهة السيطرة الاقتصادية، والتي تركزت في أيدي الأجانب من البريطانيين والفرنسيين.
وأخيرا؛ كان قانون الحرب للاستعمار، والذي صدر مع بداية الحرب العالمية الأولى، وأدي إلي تغير كبير في مصر، حيث قام بدمج مصر في الإمبراطورية البريطانية بشكل كامل، وقد تأثر الاقتصاد المصري بالحرب، وتأثرت زراعة القطن أيضا، وهو ما انعكس على الفلاحين.
ومع اشتداد الحرب تم تجنيد المصريين قسرا، وللهروب قاموا بتشويه أجسادهم أو اضطروا للانضمام طواعية، بسبب البطالة وسوء الأحوال الاقتصادية التي تفشت مع الحرب، وأدت إلى مواجهات كبيرة بين القوات الانجليزية والفلاحين، وزادت الحوادث ضد العمد والشيوخ الذين ساعدوا في تجنيد الفلاحين، كما هرب بعض الجنود المصريين وانضموا إلي الجبهة السنوسية في ليبيا خلال تلك الفترة.
تمرد الفلاحين في ثورة 1919
لقد كان من الممكن أن ينتهي التمرد الذي قام به الطلبة والأفندية في المدن الكبرى بعد فترة من بدايته، كما حدث من قبل، ويذكر بوصفه مجرد ثورة طلابية انتشرت على نطاق واسع، إلا إن التمرد خارج المدن الكبرى كان له بعيد الأثر.
لقد حوّل الفلاحون المظاهرات السلمية إلى تمرد شعبي شامل ضد مؤسسات الدولة الخاضعة للاستعمار، وضد مصالحه، عبر قطع خطوط السكك الحديدية والاتصال والتلغراف، وهو ما أخرج البلاد من سيطرتهم وأدى إلى انهيار السلطة.
لقد كان الانفصال عن الدولة الخاضعة للإدارة الاستعمارية حدثا فريدا في تاريخ مصر الحديث، كانت نتيجته المباشرة هي تفكيك مركزية السلطة كما كان قبل عهد محمد على، وانعكست تلك اللامركزية في نماذج اللجان الوطنية التي تشكلت لإدارة المناطق، لكنه كان سلبيا على الأعيان في جانب الاقتصاد، لارتباطه بمؤسسات الدولة المركزية وخاصة تجارة القطن، وهو ما دفعهم إلى التراجع عن مساندة الفلاحين، والميل إلى السلطة البريطانية.
أما الثورة فقد أخذت مسارات مختلفة، أفقيا على المستوى الجغرافي ورأسيا على المستوى الاجتماعي والسياسي. أفقيا؛ كانت المدن الكبرى تطالب بالاستقلال السياسي، بينما الدلتا والصعيد حيث حراك الفلاحين كانت إما تحمل مطالب الاستقلال للفلاحين والقرى أو توجهات معادية للسلطة المركزية أو انتفاضات اجتماعية متفرقة.
وكذلك الوضع رأسيا، على المستوى الاجتماعي كان الفلاحون يطالبون بالاستقلال التام، بينما الأفندية يهدفون إلى الاستيلاء على السلطة، وتولى إدارة الدولة الخاضعة للإدارة الاستعمارية.
لقد لجأ المستعمر في سبيل قمع الانتفاضة إلي سياسة العصا والجزرة، حيث هدف أولا إلى كسب الوجهاء والسياسيين في العاصمة، وبعدها توجه إلي الأقاليم بإرسال التشكيلات من الجنود، للهجوم على القرى.
وتحرك الجنود من قرية إلى قرية ومن مركز إلى مركز، لاعتقال زعماء الحراك الثوري ومصادرة الأسلحة من الفلاحين، وقاموا بعمليات سلب ونهب وتدمير، كما أحرقوا بعض القرى للانتقام من التمرد المسلح للفلاحين، لتصل الانتفاضة إلى نهاية دامية، ويعود الفلاحون مرة أخرى تحت ظروف الحياة القاسية، بينما ظلت تصورات الأفندية السياسية غربية عن الفلاحين كما كانت من قبل.
أخيرا نقول؛ ما أشبه اليوم بالبارحة، لقد قامت ثورة يناير نتيجة سخط شعبي عام، كانت القوى السياسية جزءا منه، غير أن أعداد وشرائح الجماهير فيها كانت تفوق قدرة القوى السياسية المنظمة التي شاركت في الثورة، ويعود الفضل الأكبر للجماهير في إزاحة النظام السياسي، لذا فإن دراسة الأوضاع والتحولات الاجتماعية والاقتصادية، جنبا إلى جنب مع الأوضاع السياسية، تعتبر جزءا لا يتجزأ من محاولة فهم ديناميات الثورة ونتائجها.
المصادر
[1] كتاب تمرد الفلاحين المصريين 1919، راينهارد شولتز، ترجمة هبة شريف، دار المرايا.
تعليقات علي هذا المقال