“الحق أقوى سلاح في وش الدبابات” أغنية “مكملين”، فبراير ٢٠١٢
“الحق بدون القوة باطل وملوش نصير” أغنية “فرعون لسة بيحكم”، نوفمبر ٢٠١٤”
لماذا لم نستطع وقف الإبادة الجماعية لأهلنا في فلسطين، فضلًا عن تحريرها من الاحتلال الغاصب؟ لماذا استطاعت ثورة يناير في مصر إسقاط مبارك ثم لم تصمد كثيرًا؟ لماذا استطاعت ثورة الياسمين في تونس أن تحافظ على بعض مكتسباتها من الحريات عدة سنوات ثم استطاع سعيّد الإجهاز عليها؟ لماذا احتاجت الثورة السورية أن تدفع كل تلك الأثمان الباهظة، ولمَ استطاعت -أخيرًا- أن تسقط نظام الأسد؟ لا تختلف تلك الأسئلة كثيرًا عن سؤال النهضة؛ الذي عبر عنه عبد الله النديم بعنوانه المتسائل “بم تقدموا وتأخرنا والخلق واحد؟” كلها أسئلة لتفسير واقع يسومنا سوء العذاب، أو آخر قد ينتشلنا من هذا العذاب، علّنا نجد في تجارب “النجاح” و”الفشل” بعض أجوبة على سؤال العمل في سبيل تحقيق ما نرجوه. تقدم نظريات القوة أدوات تحليلية قد تساعدنا في هذه العملية، خاصة وأن النقاش حول سؤال العمل كثيرًا ما يثير قضية القوة: هل فعلًا “الحق أقوى سلاح في وش الدبابات” أم أن “الحق بدون القوة باطل وملوش نصير”؟ هل القوة الاقتصادية أساس كل أشكال القوة؟ وهل يمكن للضعيف أن ينتصر على القوي رغم موازين القوة غير المتكافئة؟ نناقش تلك الأسئلة فيما يلي.
مصادر القوة الأربعة: أيها تغلب؟
في كتابه الشهير “مصادر القوة الاجتماعية” بمجلداته الأربعة التي يتناول فيها التاريخ السياسي للعالم، يقول “مايكل مان” إن هناك أربعة مصادر رئيسة للقوة: القوة الثقافية، والاقتصادية، والسياسية، والعسكرية.[1] مصادر القوة تلك وسائل تنظيمية يمكن للفاعل السياسي أن يستخدمها لتحقيق أهدافه. تتمثل القوة الثقافية (أو الأيدولوجية، بمعناها الواسع الذي يشمل كل عالم الأفكار) في امتلاك أدوات التأثير في معتقدات الناس وما يرونه صوابًا وخطأً أو حسنًا وقبيحًا. وتأمين مصادر القوة الثقافية يكون ببناء بنية تحتية؛ يمكن من خلالها نقل الأفكار إلى الناس وتثبيتها في الصدور، كأن يكون أصحاب فكرة ما موجودين بين الناس أو بين أصحاب النفوذ وينشرون أفكارهم وسردياتهم، أو لهم سيطرة على ما يُعَلَّم في المدارس والجوامع والكنائس، ويُكتب في الكتب ويُنشَر في الصحف، أو يُبث في الراديو والتلفاز والإنترنت.
أما عن القوة الاقتصادية، فتنبع من ضرورة علاقات الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك؛ لسد حاجات الإنسان الضرورية والتحسينية من مأكل وملبس ومسكن وتعليم وترفيه، إلخ. أيّ أن القدرة على المشاركة أو السيطرة على تلك العمليات تكسب المرء قوة اقتصادية، وبقدر السيطرة على الموارد وما يمكن إنتاجه وكيفية الإنتاج وقواعد التجارة والتوزيع والاستهلاك والتوظيف؛ تزداد القوة الاقتصادية. والشبكات الاقتصادية غالبًا ما تكون ممتدة وعابرة وفيها اعتماد متبادل: فالعامل وصاحب العمل معتمدان على بعضهما، والأقوى هو من يمكنه الاستغناء عن الآخر؛ وسهل عليه إيجاد بديل، فالدول المستوردة للغاز -مثلا- تعتمد على الدول المصدرة، كما تعتمد تلك الدول المصدرة على عائدات التصدير، والدولة ذات المصادر المتعددة أقدر على الاستغناء عن هذه التجارة؛ والمستهلك والشركة معتمدان على بعضهما، إلا إن وجدا بديلًا أو استغنى المستهلك عن المنتج، وهكذا. وبسبب هذه العلاقة المتشابكة نرى ارتهان بعض الدول اقتصاديًا بشروط الجهات مانحة القروض، وبعض الدول أقدر على فرض عقوبات على غيرها بما يهدد حاجات الناس الأساسية، أو قدرة الشركات على التنقل حيث العمالة الرخيصة. ونرى أيضًا إضرابات عمالية أو حملات مقاطعة ودعوات لسحب استثمارات وفرض عقوبات؛ والتي يمكنها إرسال رسائل سياسية ضرورية إن تمت بشكل منظم.
والقوة السياسية تُحصّل بالسيطرة على الدولة وما فيها من مؤسسات مركزية؛ يمكن من خلالها توجيه المجتمع وموارده إلى الاتجاه المرغوب. والقوة السياسية قد تكون داخلية تسن قوانينَ وتطبقها في حيّز سيطرتها، أو خارجية تدير علاقات مع دول أخرى أو مجموعات خارج حدودها. وكلما كان للمرء دور في صناعة القرار داخل أجهزة الدولة التنفيذية أو التشريعية أو القضائية؛ زادت قوته السياسية. وأخيرًا، فإن القوة العسكرية تتمثل في وجود مجموعات مقاتلة وما تمتلك من مهارات قتالية ومعدات عسكرية وأسلحة. وكلما زاد عدد المقاتلين ومهارتهم ومعداتهم وأسلحتهم؛ زادت قوتهم العسكرية.
يبقى السؤال المهم: أي مصدر من مصادر القوة تلك يغلب؟ أيها أكثر تأثيرًا في تقرير مصير الصراعات؟ شغل هذا السؤال كثيرا من علماء الاجتماع والسياسة في نقاش مع الماركسية الكلاسيكية؛ التي أكدت غلبة القوة الاقتصادية، أو الواقعيين الذين أكدوا غلبة القوة العسكرية في العلاقات الدولية، وكُتب في “الاستقلال النسبي” لكل مصدر من مصادر القوة ما يتعذر جمعه هنا. وخلاصة “مايكل مان”-وهو ما أحسبه المستقر الآن في النظرية الاجتماعية-أنه لا حتمية اقتصادية، أو عسكرية، أو سياسية، أو ثقافية، وأن كل تلك القوى تؤثر في بعضها.[2] كما أن امتلاك أحد أنواع القوة يمكن استخدامه لامتلاك أنواع أخرى. وقد تتغلب قوة ما على أنواع القوة الأخرى في بعض الأحيان، غير أن هذا ليس قانونًا مضطردًا في كل زمان ومكان.
وحرب الإبادة على غزة اليوم تُرينا كيف للتفوق العسكري أن يمضي دون أي رادع. فلم تكن الغطرسة الإسرائيلية اليوم ممكنة إن لم يتوفر لها دعم اقتصادي وعسكري؛ يسمح لها باستيراد الأسلحة دون أن يعيش الإسرائيليون أوضاعا اقتصادية خانقة، ودعم سياسي يسمح لها أن تعربد دون أي تبعات حقيقية، وقوة ثقافية تمتلكها لوبياتها وأنصارها في قلب الإمبراطورية التي تدعمها. والحديث عن الثورة السورية بوصفه دليلا قاطعا على نجاعة الخيار المسلح يغفل السياق الإقليمي والقوة السياسية التي صحبت القوة العسكرية؛ من أجل منع حلفاء الأسد أن يتدخلوا، وقد كانت تدخلات هؤلاء الحلفاء (والحلف قوة سياسية) أصل تفوق النظام العسكري على الثوار سابقًا. وقد يكون الصراع العسكري أقدر على التغيير الجذري. لكن هذا إن نجح، ونجاحه ذو تكلفة باهظة. لكن اللجوء إلى القوة العسكرية صعب أن تخبو جذوته في ظل أنظمة استئصالية إبادية مجازرية. فالمجازر قد ترهب البعض، لكنها تحث آخرين على الدفاع عن أنفسهم بنفس أدوات القمع، وتورث ثاراتٍ قد لا تنتهي إلا بما يراه الضحية قصاصًا، ما دام القانون لا يعطي الناس حقوقهم، ومنطقتنا ليست استثناءً في هذا.[3]
أبعاد القوة الثلاثة: كيف نُفسّر واقعنا؟
يمكن تفسير الهزائم والانتصارات والأحداث والأفعال السياسية بالنظر في موازين القوى بين الأطراف المختلفة؛ وقدرتها على تسخير ما تملكه من أدوات القوة التنظيمية للدفع نحو ما تبغاه (أو ما يمكن تسميته بالقوة الهيكلية). ويستلزم هذا النظر في خرائط القوة بأنواعها الأربعة التي يملكها كل فريق. لكن هذا غير كافٍ. فموازين القوى أو القوة الهيكلية هي بُعد واحد فقط من أبعاد القوة التي يمكن تفسير الواقع بها. بمعنى أن عدم التكافؤ في امتلاك أدوات تنظيم القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية هو بُعد واحد لتفسير واقعنا، ويتشابك مع بُعدَين آخرَين: الخِطابي والأدائي.[4]
تكمن القوة الخطابية في أن المفردات التي يفكر بها الناس تؤثر في أفعالهم. فليست الإبادة الجماعية نتيجة حتمية للتفوق الصهيوني في موازين القوة، بل أيضًا نتيجة لتصوراتهم وتصورات داعميهم العنصرية عنّا باعتبارنا “حيوانات بشرية” و”إرهابيين”، حتى أطفالنا. ولو كانت موازين القوة فقط ما تحدد الفعل، لكانت الإبادة نتيجة كل صراع بين القوي والضعيف. والواقع غير ذلك، لأن أخلاق الحروب التي أرستها الثقافات والأديان والأعراف الدولية مثلا؛ تجعل المحارب يفكر في الخصم بمفردات تفرق بين الحربي وغير الحربي، أو العسكري والمدني. ولو كانت موازين القوة فقط ما تحدد الفعل، لما شهدنا مقاومةً ضد مستعمر تفوق قوته قوة أهل البلاد. والواقع غير ذلك، لأن من يرى نفسه “صاحب الأرض والحق” وعدوه “محتل” “مستعمر” “باغٍ”، ويرى في فعله “مقاومة” أو “جهادًا” و”شهادة” يتجاوز فعله موازين القوى. فلتلك المفردات أو الخطابات دورٌ مهم في تشكيل أفعالنا؛ إذ تشرعن بعض الأفعال وتكبِت أخرى، وفي ذلك تكمن قوتها.
أخيرًا، فالواقع يتأثر أيضًا بما يسمى بالقوة الأدائية. وتنبع القوة الأدائية من التأثير اللحظي لفعل ما في موقف محدد بشكل يغير مشاعر الناس وتوقعاتهم؛ ويحدو بهم نحو فِعلٍ ما كان مخططًا له من قبل. مثالٌ على هذا: قصص الناس غير المُسيّسة التي قررت الالتحام بالثورة عفويًا؛ بعدما شهدت مناظر المظاهرات المهيبة وهم ينادون “يا أهالينا انضموا لينا”. وإسقاط نظام بشّار في الحملة الأخيرة نجح إلى حد ما بسبب توقيته المباغت والملائم إقليميًا؛ ونجاحاته الخاطفة التي أقنعت الثوار بالتقدم إلى دمشق، وأقنعت باقي الفصائل بالانضمام إلى القتال، وأقنعت داعمي بشار الدوليين أن التدخل مقامرة خاسرة (رغم تفوقهم العسكري على الثوار بالطائرات التي كان لها الدور الأكبر في خسارة الجولات السابقة). ولفهم خصوصية القوة الأدائية يمكن المقارنة بين القصف الصهيوني على المستشفى المعمداني أول الحرب، الذي أثار دهشة الناس واستنكارهم لعدم توقعهم تلك الهمجية بشكل أدى بإسرائيل إلى أن تنكر فعلها، وقصفها مستشفى كمال عدوان مؤخرًا دون أن يستدعي ذلك دهشة أو استنكارًا واسعًا بعدما اعتاد الناس ذلك. فخصوصية القوة الأدائية تكمن في قدرتها على أن تهز الناس وتدهشهم. والمناشدات التي يطلقها أهلونا في غزة محاولة لاستخدام تلك القوة، وكان لها دور في اشتعال انتفاضة الطلاب. ولا نستصغر دور الأغاني والفن، ففي قوته الأدائية تثبيت عميق لخطابات المقاومة التي تشحذ النفوس لرفض موازين القوى القائمة. وضبط نتيجة أداءٍ ما شديد الصعوبة وقد يستحيل؛ لأنه معتمد على المؤدي والجمهور معًا. وما زالت الأبحاث تحاول أن تدرس الخليط الذي يمكنه أن يُنشئ أداءً مؤثّرًا[5] يمكِن للضعيف أن يستخدمه في نضاله لقلب ميزان قوة ليس بصالحه!
كيف يمكن قلب موازين القوة؟ عن الأمل والعمل
هل يعني عدم تكافؤ موازين القوة أنه لا أمل مُطلقًا في انعتاق الضعيف من ظلم القوي؟ لا، وإلا لظل أصحاب القوة منذ الأزل لا يتغيرون. بل هناك دومًا أمل أن تتغير موازين القوى، ولو ببطء. ذلك لأنه لا يوجد نظام مهما بلغ قمعه قادر على السيطرة المطلقة على كل أشكال القوة بما لا يترك للضعيف مساحات يمكن استثمارها. فنظام الأسد بكل شموليته وقمعه لم يستطع أن يُرهب طفلًا لكيلا يكتب “أجاك الدور يا دكتور” بعدما رأى الثورات العربية تَتْرى، ولا أن يقنعه أن حياته زهرية ليس فيها ما يستحق الاحتجاج. لا يوجد نظام قادر على السيطرة المطلقة على مواطنيه سواء بالقمع العسكري، أو الهيمنة الثقافية، أو الترغيب والترهيب الاقتصادي، أو الضبط السياسي. ضف إلى ذلك أنه لا يوجد نظام قادر على السيطرة المطلقة على العالم كله، حتى إمبراطورية “القطب الأوحد”. ولو كان هذا هو الحال لما كان أهل فلسطين يقاومون حتى اليوم. وما دام هناك متسع لتطوير قوة خارج مناطق سيطرة القوي، فهناك دومًا إمكانية للضعيف لتغيير موازين القوة.
الأمر الآخر الباعث للأمل في إمكان قلب موازين القوة؛ عدم الرضوخ لخطابات القوي ومفرداته. فليست الثورات ولا المقاومة ولا المطالبة بالحقوق “إرهاب” ولا “خروج على الحاكم” ولا “مؤامرات خارجية”. ولا يمنع نقدنا الداخلي رفضنا للخطابات الاستشراقية العنصرية؛ التي لا ترى في تاريخنا إلا الشر وترانا “غير مؤهلين للديمقراطية”. وقدرة قوة الأداء على تجاوز موازين القوى أحيانًا باعث آخر على الأمل، لأنها إما قادرة على حسم معارك في لحظات حرجة؛ أو أن تراكمها مرشح أن يغير موازين القوة رويدًا رويدًا. لكن الأمل النظري القائم على إمكانية تغيير موازين القوة لا يعني حتمية تحققه. فلا تغيير دون عمل حثيث للتغيير.
ما العمل، إذًا؟ إن كانت مصادر القوة الثقافية والاقتصادية والعسكرية والسياسية لا غلبة مطلقة لأحدها على الآخر في كل زمان ومكان، وإن كان الواقع يتشكل بأبعاد القوة الهيكلية والخطابية والأدائية، فالعمل على كل تلك الجبهات ضروري لأي تحرر منشود. أي أنه ليس لسؤال العمل إجابة واحدة قاطعة. وواجبنا الشخصي هو أن نسهم بما نتقنه، أو أن نرى ثغرًا نقف عليه، وأن تتكامل جهودنا، وألا يخذّل أو يخوّن أحدنا الآخر ولو اختلفنا وتجادلنا. فلا يمكننا مهما جمعنا من بيانات وطورنا من نظريات التنبؤ التام بنجاح أو فشل إستراتيجية ما في نيل الغاية. والميدان واسع، والاحتياج شديد، ولا تدري نَفْسٌ أي جهد قد يكون القشة التي تقصم ظهور أنظمة الجور التي ملأت أرضنا، ولا تدري نفْسٌ أي بذرة قد تتفتق بمستقبل أكثر حرية وكرامة وعدالة لنا جميعًا.
المصادر
[1] Mann, Michael. 2012. The Sources of Social Power: Volume 1, A History of Power from the Beginning to AD 1760. 2nd ed. New York: Cambridge University Press.
[2] Mann, Michael. 2012. The Sources of Social Power: Volume 4, Globalizations, 1945–2011. New York: Cambridge University Press. (Chapter 13, section on “The Question of Primacy”)
[3] Hendawy, Abdallah. 2022. Bleeding Hearts: From Passionate Activism to Violent Insurgency in Egypt. Lanham: Lexington Books; Wieviorka, Michel. 2009. Violence: A New Approach. Los Angeles: SAGE Publications Ltd.
[4] Reed, Isaac Ariail. 2013. “Power: Relational, Discursive, and Performative Dimensions.” Sociological Theory 31(3):193–218. doi: 10.1177/0735275113501792.
[5] See: Stuart Brundage, Jonah. 2023. “Representation and Recognition: State Sovereignty as Performative.” American Journal of Sociology 128(5). doi: 10.1086/724674.
تعليقات علي هذا المقال