تعاني الحياة السياسية المصرية منذ عقود من ضعف شديد فيما يتعلق بمسألة التنظيم، وبالتحديد العمل السياسي والمجتمعي المنظم ببنية تقدمية، بعيدا عن بدائية الممارسة في مجموعات أو ائتلافات، كما شهدت فترة الانتفاضة الثورية في يناير في 2011، أو كما يتم ممارسته الآن من قبل المجموعات الموجودة في المنفى، فما هي الجذور التاريخية لفكرة العمل التنظيمي في الحياة السياسية المصرية، وما هي العوامل التي أدت إلى إضعاف الفكرة وتدهورها؟
لقد كان لدي مصر تجارب تنظيمية مهمة في بداية القرن الماضي، ساهمت في تغيير الواقع السياسي والدفع قدما بحركة التحرر الوطني ضد الاستعمار، إلا أن هناك ثلاثة عوامل -من وجهة نظري- أدت لإضعاف فكرة التنظيم وإدراك أهميته.
أولها: الاحتلال الإنجليزي، الذي قام بمطاردة الفاعلين الرئيسيين في عملية التنظيم في الحياة السياسية المصرية، وبالتحديد مجموعة الحزب الوطني، الذي أسسه مصطفى كامل عام 1907، ففي الفترة السابقة لاندلاع ثورة 1919، قام الاستعمار البريطاني بمطاردة ونفي العديد من السياسيين المصريين، وكان معظمهم أعضاء في الحزب الوطني المصري، إلى جانب حركة طلابية واسعة، تنتمي إلى نفس الحزب، وقد تواجدت تلك الحركة في أوروبا وبصورة خاصة في ألمانيا وسويسرا.[1]
وكان السبب الرئيس خلف هذه المطاردة هو القدرة العالية لهذه المجموعات على التنظيم، ويعتبر الحزب الوطني هو الحزب السياسي الوحيد في التاريخ السياسي المصري الحديث، الذي استطاع أن يؤسس لنفسه فرعا في المنفى (في برلين)، وهي ظاهرة لم تتكرر في تاريخ المنفى المصري حتى اليوم، ويعود هذا إلى إيمان قادة هذا التيار بأهمية التنظيم المجتمعي والسياسي في العملية السياسية وتحقيق الأهداف،[2] حيث يعتبر قادة هذا التيار هم مؤسسو نظرية التنظيم الوطني المصري -إذا جاز التعبير- وعلى رأسهم عبد الله النديم، مصطفى كامل، محمد فريد، عبد العزيز جاويش، وآخرين، فهؤلاء رواد العمل الوطني المنظم.
حيث انطلق رجال الحزب ينظمون العمال في نقابات، وينظمون الفلاحين في جمعيات تعاونية زراعية، وقد كان محمد فريد حينها هو المحرك لهذه المسألة والدافع نحوها، وقد أوجد بذلك الأساس العملي للتحرك الحزبي في صفوف الطبقتين المقهورتين من خلال تنظيمهما في مؤسسات اقتصادية واجتماعية، يمسك الحزب الوطني بزمام التوجيه فيها.
كانت أولى النقابات التي أسسها الحزب نقابة عمال الصنائع اليدوية في بولاق، والتي اتسع نشاطها حتى أصبح عدد أعضائها 800 عضو، ثم أنشئت لها فروع أخرى في الإسكندرية والمنصورة وطنطا، وقد قام رجال الحزب أيضا بإنشاء 23 نقابة للتعاون الزراعي، و17 شركة تعاون منزلي.[3]
ثانيا: كان هذا العصر هو عصر التنظيمات على مستوى العالم، وكذلك عصر الإصدارات، ففي مصر مثلا وجدت جرائد أخرى مثل جريدة الأهرام 1875، والمؤيد 1889، والمنار 1898 والتي أنشأها رشيد رضا، أحد تلامذة محمد عبده، وقد لعبت هذه الإصدارات دورا كبيرا في الحياتين السياسية والثقافية في مصر والعالم العربي[4]، كما أن ارتباط فكرة الإصدارات بفكرة التنظيم وجدت مكانا داخل أجندة العمل السياسي للحزب، فمصطفى كامل مؤسس الحزب أصدر من قبل جريدة اللواء عام 1900، والتي كان عدد إصداراتها في العام الواحد يقدر بحوالي عشرة آلاف نسخة.
أما السبب الثاني في القضاء على تجربة التنظيم وإضعافه في مصر؛ هو دولة يوليو، التي أنشأها الضباط، ويرجع ذلك إلى عاملين أساسيين، أولهما: أن ضباط يوليو تأثروا بحركة التحرر القومي ضد الاستعمار، ومن هنا لم يكن لديهم إيمان بالديمقراطية لأنها لن تقوم بعملية جلاء الاستعمار، والعامل الثاني: هو خوفهم من مسألة التنظيم حتى لا يتم خلق مجال تنافسي على السلطة.
أما السبب الثالث؛ فقد كان الأيدلوجية، حيث إن التيارات التي تبنت فكرة التنظيم وحاولت ممارسته، قامت بذلك من خلال منظور أيديولوجي، مقدمة الأيدلوجية على التنظيم وجعلها الإطار الحاكم له وليس العكس.
تجربة الحزب الوطني
لعب التنظيم دورا أسياسيا في تقوية جهود الحزب الوطني خلال عملية مكافحة الاستعمار، حيث استطاع قادته إلى جنب قادة سياسة الجوار الأوروبية لعب دور حاسم في حشد المصريين للإعلان عن مطالبهم الوطنية للجمهور العام الأوروبي، وبالرغم من الانقسامات السياسية والثقافية والتفاوتات الاقتصادية بين أعضاء الحزب الوطني، إلا أنهم تمكنوا من خلق أرضية مشتركة حول هدفهم المتمثل في إنهاء الاستعمار وتعزيز حركة الاستقلال في وطنهم.
أثرت الطبيعة الاجتماعية والسياسية لألمانيا في ذلك الوقت كدولة مضيفة على أفكار المجموعات المصرية المنفية هناك[5]، فقد كان هناك تياران متنافسان داخل الحركة القومية المصرية، التيار الأول؛ كان يمثله الشيخ عبد العزيز جاويش، وكان يمثل الجناح الإسلامي، وهو الجناح الذي أصر على العلاقات الوثيقة مع تركيا (الإمبراطورية العثمانية حينها)، وهو كذلك التيار الذي كان يتمسك بالجامعة الإسلامية والولاء لدولة الخلافة.
أما الجناح الثاني؛ فكان يمثله الزعيم الوطني محمد فريد، والذي كان يمثل توجهاً علمانيًا أكثر براغماتية، والذي كان يهدف إلى الحكم الذاتي الكامل لمصر بعيدا عن الدولة العثمانية، كان فريد يفكر في اتحاد إسلامي شامل على غرار الاتحاد الألماني، على أن يتم تأسيسه بعد الحرب ويقوده العثمانيون، ولكن مع تمتع كل دولة إسلامية بالحكم الذاتي والمشاركة في الحقوق المتساوية مع الأتراك.
كان فريد يعتقد أن التحالف بين الاتحادات الألمانية والإسلامية سيكون معقلًا قويا ضد القوة الأوروبية والإمبريالية، لم يكن فريد أثناء فترة تواجده في مصر، قبل المنفي، يتبنى مثل هذا الطرح، لكن التغيير في موقفه هو وآخرين كان لسببين، الأول؛ الاحتكاك بالثقافة الأوروبية، والثاني؛ أن مسألة استقلال مصر والتصور الذي تبناه محمد فريد لشكل العلاقة بين مصر والدولة العثمانية عرضه للخطر والاعتقال على أيدي السلطات التركية، وكانت هذه أحد الدوافع التي دفعته لمغادرة إسطنبول إلى برلين.[6]
لكن بالرجوع إلى فكرة التنظيم التي تبناها الحزب الوطني وكانت أحد سماته في الممارسة السياسية، نجد أن قادة الحزب الوطني، كانوا سابقين للغرب في إدراك أهمية التنظيم، ولعل هذا الأمر يعود إلى احتكاك قادة الحزب، وعلى رأسهم مصطفى كامل، بالواقع الأوروبي، خاصة ألمانيا وفرنسا.[7] فقد دلت الأحداث التاريخية أن الحالة الجماهيرية لا تنتج حكما فعالا، حيث تنتهي تلك الحالات/الحركات الجماهيرية إما لدكتاتورية فردية أو إلى الفوضى، فظاهرة الأحزاب والتنظيمات السياسية ظاهرة حديثة وعصرية تبلورت بعد فشل أنصار الاتجاه الجماهيري الفوضوي إبان انتفاضة عمال باريس عام 1871.
وبعد أن فشلت تلك الانتفاضة بسبب الطابع الفوضوي الذي تحكم بها، طالب عدد من القادة الاشتراكيين بإقامة حد أدنى من العلاقات التنظيمية والسياسية لتنسيق توجهات وحركة الطبقة العاملة في أوروبا، وعندما نشر ماركس وانجلز البيان الشيوعي في العام 1848، بدأ مفهوم الحزب الحديث يتبلور ويتغلب على المفاهيم الأخرى مثل الرابطات الأممية والحركات العمالية الفكرية، وأطلق ماركس وانجلز على هذا التشكيل السياسي المطلوب اسم حزب البروليتاريا، أي حزب الطبقة العاملة.
واستمر العمل غير منظم حتى ظهور لينين على الساحة السياسية عام 1905، والذي طور أفكار ماركس بشأن حزب البروليتاريا ووضع نظرية متماسكة عن مفهوم الحزب ودوره في كتابه الشهير: “ما العمل؟”، وطالب بتكوين منظمة مركزية تتألف من الثوريين المحترفين بقيادة زعماء سياسيين، وهكذا رد لينين على التيار الفوضوي الاشتراكي من خلال تأسيس تنظيم محترف لقيادة النضال ضد الشرطة السرية ومؤسسات القيصرية الروسية، وتمكن الحزب الشيوعي من الوصول إلى الحكم في روسيا العام 1917.
إدراك الحزب الوطني لأهمية التنظيم ودمجه في الممارسة السياسية من أجل إحداث تغيير ترك أثره على الحركات الإسلامية التي مارست السياسة من منطلق أيديولوجي، ولعل هذا ما دفع فيما بعد عددا من الإسلاميين للسعي نحو الاستفادة من أساليب الحزب السياسي التي مارسها الحزب الوطني، لاستعادة المجد الإسلامي، ولهذا أسس حسن البنا “الإخوان المسلمون” في 1928، وأسس أبو الأعلى المودودي “الجماعة الإسلامية” في فترة مقاربة، وتأسست أحزاب أخرى مثل حزب الدعوة الإسلامية في العراق عام 1958، وهذه الأحزاب الإسلامية اعتمدت على اجتهادات مثل مقدمة الواجب واجب، بمعنى إذا كانت استعادة الحكم الإسلامي واجبة فإن الطريق إلى ذلك (التنظيم السياسي) واجبة أيضا.
لكن ونتيجة لعدم إدراك العوامل التي أدت لضعف التجربة التنظيمية في مصر وفي المجتمعات العربية والإسلامية، ومحاولة تقديم معالجة لها، إلى جانب عدم الاطلاع على تجارب الدول الأوروبية في كيفية تطور فكرة التنظيم، والخروج من عباءة المفاهيم التقليدية، وإقامة حد أدنى من العلاقات التنظيمية والسياسية فشلت التجربة لدى الإسلاميين وغيرهم من التيارات الأخرى، وأدي ذلك إلي تعميق الحساسية تجاه العمل السياسي والمجتمعي المنظم.
المصادر
[1] عبد الرحمن الرافعي: ثورة 1919. تاريخ مصر القومي من 1914 إلى 1921. دار المعارف 1978.
[2] للاطلاع على نقاشات أوسع عن الحزب الوطني يمكن الرجوع إلي: Jacob M. Landau: Parliaments and Parties in Egypt. Routledge. 2016
[3] رفعت السعيد: محمد فريد الموقف والمأساة: رؤية عصرية. ص95 الهيئة العامة للكتاب، 1991
[4] Robert L.Tignor: Modernization and British Colonial Rule in Egypt. 1882-1914, 1966. P.249-291.
[5] للاطلاع علي سياسات الدول المضيفة يمكن الرجوع إلي:
Yossi Shain, The Frontier of Loyalty: Political Exiles in the Age of the Nation-State (University of Michigan Press, 2005), 6.
[6] Raouf Abbas Hamed: Germany and the Egyptian Nationalist movement 1882-1918. New Series, Bd. 28, Nr. 1/4, P. 19, (1988)
[7] Höpp, G., „Die ägyptische Frage ist in Wirklichkeit eine internationale” – Zur politisch-publizistischen Tätigkeit ägyptischer Antikolonialisten in Berlin 1918-1928, in: Afrika, Asien, Lateinamerika, رقم . 15, 1987, ص. 87-98;
تعليقات علي هذا المقال