في ذي القعدة سنة 463هـ – 1070م، وعلى حدود أرمينيا بالقرب من مدينة ملاذكرد، جرت معركة هامة بين “السلاجقة” بقيادة السلطان “ألب أرسلان” “والقوات البيزنطية” بقيادة الإمبراطور “رومانوس الرابع ديوجينيس”.
وملاذكرد هذه بلدة مشهورة بين مدينة خلاط وبلاد الروم، انتصر فيها “ألب أرسلان” انتصارًا تاريخيًا في المعركة التي اعتبرها المؤرخون الضربة القاتلة والتي أدت لاحقًا إلى الانهيار الحتمي للإمبراطورية البيزنطية.
وألب أرسلان “عضد الدولة” أبو شجاع محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دُقاق، ابن أخ “طغرل بك” المؤسس الفعلي والحقيقي لدولة السلاجقة، عمل “ألب أرسلان” في بداية حكمه على تثبت السياسة الداخلية للسلاجقة خاصة بعد الخلافات التي نشبت بعد وفاة عمه، ثم تحرك بعدها نحو توسع فعلي على حساب الدول المجاورة كالأرمن والبلدان البيزنطية.[1]
ما قبل ملاذكرد:
نجح السلطان ألب أرسلان من خلال تحركاته في فتح أجزاء من أراضي أرمينيا، ما جعله يقف وجهًا لوجه دون حدود فاصلة مع الإمبراطورية البيزنطية.
شكلت تلك القوات خطرًا مباشرًا وتهديدًا حقيقًا تجاه الدولة البيزنطية، خاصة مع وجود إمبراطور جديد كان له نفس الطموح في تنظيم حملات لاسترداد ما أخذه السلاجقة قبل ذلك، كانت تلك المعركة حتمية لسياسات السلطان “ألب أرسلان” ونظيره البيزنطي. [2]
كان السلطان في حلب يحاول فتحها بهدف إجبار أميرها المراديسي وأهل الشام على محاربة البيزنطيين معه، لكنه رحل منها تاركًا ابنه ملكشاه فيها، وعبر الفرات ليستقر في “مدينة خوي” التي تقع في محافظة غرب أذربيجان، وأثناء وجوده هناك، وصلته أخبار توغل الإمبراطور البيزنطي “رومانوس” تجاه بلاد المسلمين نحو مدينة “أخلاط” والتي كانت تقع في محافظة “بدليس” في منطقة الأناضول الشرقية، وعلى إثره تحرك السلطان “ألب أرسلان” متجهًا نحو “أخلاط” التي سيطر عليها البيزنطيون ففتحها بعد أن انتصر على مقدمة جيشهم، وسار بعدها إلى “ملاذكرد” موقع المعركة التي سبقه إليه رومانوس. [3]
كيف سارت أحداث المعركة؟
أوردت المصادر التاريخية أن السلطان “ألب أرسلان” كان له في بعض معاركه مجلس حرب وقد عقد اجتماعًا مع كبار قادته قبيل “معركة ملاذكرد” وناقش معهم الخطة، ليكون زمام المبادرة بيده، ثم عاد مرة أخرى للاجتماع بقادته بعد انتهاء خطبته في الجند، حيث بحث معهم الخطط والوسائل المناسبة لتحقيق النصر.
“لم يعترض سبيله أيّ كان دفاعًا عن سلامته وذاته والحرية قبل كل شيء”
هكذا وصف المؤرخ اللاتيني وليم الصوري حال السلطان ألب أرسلان، وكانت الخطة العسكرية التي قسّم على أساسها الجيش إلى أربع فرق كل فرقة أقامها في منطقة وأكد عليها أن تلتزم به ولا تبرحه، وعد كل فرقة من الأربع بمثابة كمين في منطقتهِ المحددة له، معتمدًا على سرعة تحركهم، وبخاصة أن معظمهم كانوا من الفرسان ذوي التجهيزات الخفيفة.
طلب “ألب أرسلان” من قائد إحدى الفرق التراجع مع فرقته في حال التحام الجيشين، ليوهم العدو بانسحابه من المعركة، الأمر الذي يدفع الحمية في الجيش البيزنطي ليندفع قسم منه وراء هذه الفرقة بهدف القضاء عليها، فتأخذه الفرق الأخرى الكامنة في “موقع الرهوة” من الخلف والأمام. [4]
شُحنت معنويات الجيش وانطلقت المعركة بثبات وقوة شديدين، ونجحت تلك الخطة وانتصر السلطان “ألب أرسلان” انتصارًا ساحقًا، حتى عبر ابن الأثير في الكامل بقوله: “وانهزم الروم هزيمة ساحقة، وقٌتل منهم ما لا يحصى حتى امتلأت الأرض بجثث القتلى وأسر ملك الروم بعد معركة ضارية تواصل فيها ليلها مع نهارها”.
هكذا انتهت مجريات واحدة من أحلك المعارك في تاريخ الإسلام، وأُسر الإمبراطور البيزنطي على يد جنود “ألب أرسلان”، وكان للانتصار الذي حققه المسلمون بقيادة السلطان ألب أرسلان صدى واسعًا فقد عمت الفرحة والاستبشار مختلف بقاع بلاد المسلمين ولاسيما في بغداد حيث جرى احتفال مهيب في ديوان الخلافة أثنى فيه القائم بأمر الله على ألب أرسلان وأطلق عليه أرفع الألقاب.[5]
كيف غيرت ملاذكرد استراتيجية العالم؟
لم تكن تلك المواجهة هي الأولى بين العالم الإسلامي والبيزنطي بالتأكيد، فقد بدأ الصراع بينهما منذ العهد الراشدي مرورًا بالدولة الأموية وكذلك العباسية، حتى مع الدويلات التي حكمت في الشام، حيث مثلت الدولة البيزنطية القوى الثانية في العالم مع الإسلام، بالإضافة إلى أنها كانت على الحدود سواء من البحر أو البر، لذا كانت الصراعات بينهما لا تُحسم لطرف نهائي دون الآخر، لكنها كانت مستمرة على طول الوقت، حتى جاء فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح.
لكن منذ تلك اللحظة التي هُزم فيها الجيش البيزنطي في “ملاذكرد” ودفة الحكم في آسيا الوسطى تغيرت تمامًا، إذ فتحت “ملاذكرد” الحدود الشرقية للإمبراطورية البيزنطية على مصراعيها أمام التقدم السلجوقي، واتسعت رقعة الدولة السلجوقية في آسيا الصغرى.
وعلى النقيض تقلصت الدولة البيزنطية بشكل كبير، فأصبح ميزان القوى في تلك المنطقة الاستراتيجية في يد السلاجقة، مما اضطر الأباطرة البيزنطيين إلى الاستنجاد بزعماء أوروبا، تلك السيطرة الفعلية على آسيا الوسطى، عملت على تأسيس أول دولة تركية في آسيا الصغرى، وهي ما سُميت بدولة سلاجقة الروم. [6]
أدت تلك السيطرة والمعركة الهامة كذلك إلى زعزعة الاستقرار داخل المنظومة البيزنطية، فقد اغتصب الإمبراطور “ميخائيل السابع” كرسي العرش من يد الإمبراطور الأسير مدعيًا أنه فرط في حقوق بلاده، مما أدى لنشوب حرب أهلية حول منصب عرش الإمبراطور.
تلك الفوضى والحروب الأهلية التي انتشرت داخل الإمبراطورية البيزنطية، أدت بشكل رئيسي إلى تدهور أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والإدارية، إذ تمرد كثير من رعاياها الأرمن وعملوا على إنشاء إمارات مستقلة لهم في المنطقة. [7]
اعتٌبرت معركة “ملاذكرد” بمثابة كارثة حلت بالإمبراطورية البيزنطية، ولم يعد البيزنطيون ينعتونها عند حديثهم عنها إلا بـ”اليوم الرهيب”، فقد تقلصت أملاكها في أرمينية وآسيا الصغرى، ولم يعد لها إلا بعض المدن المعزولة على الساحل الجنوبي لآسيا الصغرى، ولم تعد الإمبراطورية قادرة على إعادة أملاكها أو بسط نفوذها على ما فقدته.
كما تضاعفت هذه المعاناة بعد أن أرسل السلطان “ألب أرسلان” ابن عمه سليمان بن قتلمش للاستيلاء على سهول وسط آسيا الصغرى التي كانت تشكل المصدر الرعوي للأغنام البيزنطية، مما أدى إلى انسياح الأتراك السلاجقة بحرية في آسيا الصغرى وبلاد الشام والجزيرة الفراتية، كما فُتح الطريق أمام سلاجقة الروم للتوجه نحو الغرب والتوغل في أراضي الإمبراطورية البيزنطية وطرق أبواب عاصمتها.[8]
أما فيما يتعلق بموازين القوى العالمية، فالعلاقات بين الدولة البيزنطية والفاطميين كانت متصلة على طول الخط منذ أن نشأت في المغرب حتى وجودها في مصر، صحيح أنها مرت بأزمات وتقلبات مختلفة إلا أنها كانت مستمرة، تلك الصلة انقطعت بعد المعركة، فتغيرت خريطة العالم وتحالفاته.
لم يعد بوسع تلك الثنائية أن تكتمل، وأصبح السلاجقة منذ تلك اللحظة هم ممثلو الإسلام وعليه قامت العلاقات لضمان المصالح المتبادلة، حتى أن الخطبة داخل القسطنطينية في المسجد الذي أقيم للتجار المسلمين داخل المدينة كانت للفاطميين، أما بعد “ملاذكرد” فاتجهت ليذكر اسم الخليفة العباسي مقترنًا بذكر السلطان السلجوقي، لم يكن هذا فحسب وإنما داخل أرمينية لم يعد للإدارة البيزنطية أية سلطة فيها، بعد أن هجرها سكانها وخضعت بشكل كامل إلى السلاجقة.[9]
كانت الدولة البيزنطية هي حائط السد والحاجز القوي الذي كانت تعتمد عليه أوروبا المسيحية في الغرب في حجب العالم الشرقي عنها، بعد تلك المعركة لم يعد لهذا الحائط أن يقوم بمهمته التي بٌني عليها، إذ فٌتح المجال أمام القوى الأوروبية المسيحية القادمة من الغرب بناءً على طلب من القسطنطينية ذاتها التي استنجدت بالكنيسة الغربية متمثلة في بابا الفاتيكان لرد اعتبار الإمبراطورية البيزنطية.
ترتب على تلك التحركات أن دخلت القوى المسيحية الغربية منطقة آسيا الصغرى وبلاد الشام ومصر، فيما عُرف بالحروب الصليبية التي استمرت قرنين من الزمن، تلك الحروب كان لها وقع كبير وتأثير شديد على مجرى التاريخ.[10]
وبناءً على تلك التغييرات الديموغرافية أصبح لسلاجقة الروم أثر واضح في نشر الإسلام في المناطق السابقة، خاصة مع هجرة بعض السكان من منطقة الأناضول بعد المعركة، وسكن القبائل التركية لها.
عمل هذا على تشكيل نتاج حضاري كامل، حيث استٌبدلت الثقافة والآداب المسيحية التي كانت سائدة في تلك المنطقة الهامة من العالم بالثقافة والتقاليد الإسلامية، فضلًا عن انتشار الإسلام واللغة العربية وآدابها، أي أن الحضارة الإسلامية قد حلت محل الوجود البيزنطي.
أصبح السلاجقة يشكلون دولة مهيبة الجانب على الأقل بالنسبة للإمبراطورية البيزنطية التي أصبحت منهكة القوى بعد معركة “ملاذكرد”، كما أُتاحت فرصة للسلاجقة بقيادة ألب أرسلان التوجه بفتوحاتهم للشرق، بهدف كبح جماح شاه خوارزم الذي تزايدت قواه آنذاك، وإن كان هذا التحول لم يحدث سوى في نهاية حياة السلطان “ألب أرسلان”.
خاتمة:
كان للدولة السلجوقية وجود مؤثر في أحد أهم المناطق الاستراتيجية في العالم آنذاك، وهي منطقة آسيا الوسطى والأناضول، لذا كانت أية حركة أو نشاط سواء عسكريًا أو اجتماعيًا له دور على تغيير توجه التاريخ.
يمكن القول أنه كان للسلاجقة يد في تغيير العالم وسياساته، وبالتالي فمعركة هامة كتلك كان لها تأثير فعال على تغيير الاستراتيجية العالمية.
عند معركة “ملاذكرد” توقف التاريخ حتى يكتب مجددًا إلى أين يسير العالم، هذا الأمر وتلك الرؤية لم تكن حبيسة المصادر والدراسات الإسلامية فحسب، إنما كانت رؤية بيزنطية كذلك، فلقد أدرك المؤرخون على الجانبين ما لتلك المعركة الفاصلة من تأثير على مجريات التاريخ.
المصادر:
[1] الكامل في التاريخ، ابن الأثير. – النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، جمال الدين أبو المحاسن ابن تغري بردي – أخبار الدولة السلجوقية، الحسيني.
[2] تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب في العصور الوسطى، أحمد الشامي.
[3] تاريخ دولة آل سلجوق، الأصفهاني.
[4] معركة ملاذكرد، محمد قجة.
[5] زبدة التواريخ, الحسيني
[6] تاريخ الدولة البيزنطية، جوزيف نسيم يوسف
[7] الإمبراطورية البيزنطية وحضارتها, محمد سعيد عمران – الحروب الصليبية, وليم الصوري
[8] المدنية البيزنطية والحروب الصليبية, ستيفن رانسمان.
[9] العلاقات الإقليمية والحروب الصليبية “الموصل وحلب”, كمال بن مارس – السياسات الخارجية للدولة الفاطمية, جمال الدين سرور – الدولة الفاطمية تفسير جديد, أيمن فؤاد سيد.
[10] عاومل النصر والتمكين للدولة السلجوقية في عهد السلطان ألب أرسلان، حسن محمد حسن.
تعليقات علي هذا المقال