شهدت موريتانيا منذ الاستقلال مراحل مهمة من نظام الحزب الواحد إلى مرحلة الانقلابات العسكرية، ثم مرحلة النظام الدستوري والتحول الديمقراطي مع بداية تسعينيات القرن الماضي.
في هذا المقال، نحاول أن نتتبع الترتيب الزمني للإصلاحات السياسية والدستورية في موريتانيا، وتقييم التجربة الديمقراطية في هذا البلد العربي، ومعرفة الاختلالات والتعثرات التي رافقتها.
يعتبر الإصلاح السياسي هو جوهر كل الإصلاحات في الحكومات الديمقراطية، وشرط أساسي في بناء دولة حديثة تقوم على قيم الحرية وحقوق الإنسان، يشارك فيها جميع المواطنين دون تمييز أو إقصاء ويتمتعون بكافة حقوقهم المدنية والسياسية.
حيث يتيح الإصلاح السياسي المشاركة في صنع القرار داخل الدولة، كما يمنح الحق لكل فرد في صنع السياسات العامة، والمساهمة في بناء الدولة وتقوية مؤسساتها.
ما نقصده بالإصلاح السياسي، هو تلك الإجراءات التي يتعين على الحكومة القيام بها لتحسين فعالية الحكم، وخدمة مصلحة كافة المواطنين وتحقيق مطالبهم، وبناء ديمقراطية حقيقية، ونقل البلاد إلى مرحلة أفضل.
مراحل الإصلاح السياسي
بدأ الإصلاح السياسي في موريتانيا بفضل عملية الدمقرطة، التي أتاحت للنظام ممارسة شكلية للديمقراطية والتعددية الحزبية، وحرية الصحافة، وقد كان دستور ١٩٩١ أول دستور يصدر باللغة العربية، ويعترف باللغات الوطنية، ويفرض التعددية السياسية، ويضمن الحريات، وذلك خلال فترة حكم الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطايع.
ويلاحظ بعض الباحثين أن دستور 1991 تم تفصيله ليتلاءم مع استمرار النظام العسكري المنبثق عن انقلاب 12 ديسمبر 1984، فبعد تعثر تجارب العودة إلى النظام المدني، وجد النظام الجديد بقيادة الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطايع نفسه مضطرًا للانفتاح السياسي منذ الانتخابات البلدية عام 1984[1]، ليتكلل هذا المسار بالاستفتاء على الدستور في 12 يوليو 1991، “لكن الدستور الجديد لم يزد على تعزيز سلطة رئيس اللجنة العسكرية، وإعطائه سلطات تضمن لحزبه الهيمنة على الحياة السياسية، وامتلاك أغلبية مطلقة في البرلمان، كل ذلك باسم الانتخابات الديمقراطية”[2].
بعد الإطاحة بولد الطايع قام المجلس الانتقالي بتنفيذ إصلاحات جديدة، وتعد التعديلات الدستورية لعام 2006 من أهم الإصلاحات السياسية التي شهدتها موريتانيا، لأنها حددت عدد المأموريات الرئاسية باثنتين، ما فرض مبدأ التناوب السلمي للسلطة لأول مرة، لكنها رغم ذلك لم تجرم الانقلابات، مما كشف لاحقًا عن نية بعض العسكريين في العودة إلى السلطة، الأمر الذي أدى إلى انقلاب الجيش على الديمقراطية في 2008.
ومع فورة الربيع العربي أصبح الإصلاح السياسي مطلبًا ضروريًا لترسيخ الديمقراطية وحكم القانون والمؤسسات، “وجعل مسألة الإصلاح الدستوري عنصرًا مهمًا في أفق بناء نظام سياسي جديد”[3]، وهو ما تحقق بإقرار التعديلات الدستورية الثانية عام 2012، “والتي شملت الاعتراف بالتنوع الثقافي، ودسترة مناهضة الاسترقاق والتعذيب، بالإضافة لدعم ولوج النساء للمأموريات الانتخابية، وحظر الانقلابات، وتوسيع نطاق الحقوق الفردية والحريات”[4].
كما شهدت مرحلة إعداد التعديلات الدستورية لعام 2017 جدلًا واسعًا، حيث خرج الآلاف في مسيرات مناهضة لها، ومن أبرز ما تضمنته تغيير العلم والنشيد الوطنيين، وإلغاء مجلس الشيوخ، وإنشاء مجالس جهوية لتدعيم اللامركزية والحكم المحلي.
متطلبات وعوائق الانتقال الديمقراطي
اختلف أساتذة السياسة ومنظري الانتقال الديمقراطي في الشروط والأسباب الموجبة لتغيير النظم السياسية نحو الديمقراطية، وقاموا بوضع عدة شروط وتفسيرات بناء على تجارب سابقة ناجحة في أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، وأوروبا الشرقية والجنوبية، وبعض دول آسيا، ومن وجهة نظرهم أن: الثروة والتحديث، والبعد الاقتصادي والثقافة الاجتماعية والسياسية، ودور النخب، والوحدة الوطنية، العامل الخارجي، بالإضافة إلى وجود الدولة من العوامل التي تقود إلى الديمقراطية.
وهذا لا يعني أن هذه التفسيرات تجعل من الانتقال إلى الديمقراطية أمر محتم، لأنه لكل بلد إطار تطوري يناسبه، “وليس لأي عامل منفرد أن يكون مسؤولًا وحده عن الانتقال أو أن يفسره؛ فالانتقالات تنطوي على عدد كبير من العناصر الداخلية والخارجية التي تضم بين ثناياها علاقات معقدة، والانتقال من الحكم التسلطي إلى الحكم الديمقراطي صيرورة متعددة الأوجه وطويلة الأمد، تنطوي على مراحل مختلفة”[5].
ولا يمكن الحكم على التجربة الديمقراطية الموريتانية دون العودة إلى سياق النشأة والتطور والصعوبات التي واجهتها، فقد عرفت تجربة نواكشوط تعثرات أعاقت مسار الانتقال، وأجلت الديمقراطية في البلاد، ربما يعود السبب في ذلك إلى أن الديمقراطية في موريتانيا جاءت مفروضة من الدول المانحة للمساعدات، حيث يصف لاري دايموند هذا النوع من الديمقراطية بأنه “نتاج حماسة مؤقتة أو نتاج انتشار سطحي، أو تنازل مؤقت للضغط الدولي، من هذا المنظور يمكن للديمقراطية أن تنتشر في أي مكان، لكن لا يمكنها أن تتعزز وتدعم في أي مكان، لأنه حيثما فقدت الديمقراطية قيمتها الحقيقية من لدن الشعب، لن يٌكتب لها الظهور وإن ظهرت سرعان ما تزول”[6].
ولقد ساهمت الأنظمة العسكرية المتعاقبة في عدم تحقيق الديمقراطية، وبطء النمو الاقتصادي، لأنها تدرك أن خلق تنمية مستدامة لا يصب في مصلحتها، إذ قد يؤدي في النهاية إلى تخلص الشعب منها، واستبدالها بالنظام الديمقراطي.
وهذا حال “معظم الديمقراطيات الحديثة التي نشأت منذ عام 1991، فهي ديمقراطيات فقيرة بصورة فظيعة، إذ لم تتمتع أي من هذه الديمقراطيات بأي زيادة تذكر في إجمالي الناتج المحلي للفرد”[7] خلال الثلاثين سنة الماضية.
نظرة على النظام الحالي
بعد انتخابات 2019 وتولي محمد ولد الشيخ الغزواني مقاليد الحكم في موريتانيا، حصل اتفاق بين الأحزاب والنظام الحاكم والمعارضة، لتهدئة الوضع، وإعطاء وقت للحكومة للعمل على بناء المؤسسات، ودعم الديمقراطية في البلد، وكان هناك تفاؤل كبير بالرئيس غزواني تحول فيما بعد إلى يأس وعدم رضا، ورغم وجود بوادر في الإصلاح إلا أن التقدم هناك كان ضئيلًا للغاية.
هذا الاستياء والخيبة ناتجين عن ارتفاع توقعات المواطنين تجاه الحكومة، لكن عدم رضا الشعب لا يعبر عن فشل النظام، بل يرجع إلى رفع القيود عن العمل السياسي، لأن الشعب كان مقموعا وحصل على الحرية وحقه في ممارسة التعبير.
ومن جهة أخرى، فإن النظام الحالي ركز على ملف العشرية، واستنزف الكثير من الوقت من غير تحقيق النتائج المرجوة، وهذا لا يقلل من دور النظام في محاولة استرجاع أموال الدولة، ومحاربة الفساد المالي والإداري الذي ينخر المؤسسات، إلا أن الفساد ليس أهم المشاكل، ولا يمكن اختزال مشاكل الدولة الموريتانية كلها في الفساد، لأن هنالك قضايا كثيرة أخرى، كالقضايا الاجتماعية مثل الفقر والخدمات العامة، وهي مهمة أيضًا.
لكن يبدو أن القصور ناتج عن فشل النخب السياسية، وعدم قدرتها على مواجهة قوى النظام القديم، بالإضافة إلى التحالف معها أحيانًا، والذي قد يحقق إعادة سيطرة عناصر النظام القديم على كل مؤسسات الدولة، وعرقلتهم للإصلاح إذا كان ضارًا بمصالحهم.
علاوة على ذلك؛ كان الكثير من هذه النخب يراهن على رحيل ولد عبد العزيز للانفتاح السياسي، وإمكانية وجود ديمقراطية، وما اتضح لاحقًا هو أن هذه النخب والأحزاب السياسية لا تملك مشروعا لقيادة عملية الإصلاح.
ما حصل في موريتانيا بعد انتخابات 2019 هو انتقال سلمي للسلطة، لكنه في نفس الوقت استمرار للنظام القديم، لأن عملية الانتقال الديمقراطي ليست عملية فورية، وإنما عملية تراكمية مستمرة، قد تصل بالبلاد إلى استقرار سياسي، وإنتاج نظام ديمقراطي، ما دام النظام السياسي الحالي يملك رغبة في التغيير والإصلاح.
إن المواطن الموريتاني ما عاد يكترث لعمل الحكومة، ولا يقوم سلوك المسؤولين، وهو غير نشط في العملية السياسية، ولذلك سببان: أولهما يعود إلى أن المواطن الموريتاني لا يثق بالأحزاب السياسية، والحكومة، والبرلمان.
وثانيهما، يعود إلى عزف الشباب عن السياسة، والسعي من أجل الحصول على لقمة عيش تضمن لهم الحياة الكريمة.
وما دامت الأحزاب السياسية ضعيفة وغير قادرة على القيام بوظائفها الديمقراطية، فإنها لا تستطيع جلب الشباب، لذا تبقى مسألة مشاركتهم في العملية السياسية محدودة، إلى أن يحدث أمر يعيد لهم الحافز والثقة في المنظومة السياسية.
كذلك تعاني البلاد من تركة الأنظمة الفاسدة، المتمثلة في غياب المؤسسات منذ استقلال الدولة، ويبدو واضحا أن أي نظام يأتي للحكم في موريتانيا لا يجد أمامه بنية مؤسسية تساعد في نجاح الديمقراطية، ولا بد له من أن يبدأ من الصفر، وهنا “يصبح النضال لبناء الدولة متزامنًا مع النضال لبناء الديمقراطية، ويصبح على القوى السياسية النضال لمعالجة فشل وعجز الدولة، أو مقاومة انهيارها، في الوقت نفسه الذي يفترض فيه أن تؤدي مهام الانتقال الأخرى، وغني عن القول إن هذه المهمة تعجيزية”[8]، يصعب معها تحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي وجاد.
علاوة على ذلك؛ فالديمقراطية تتطلب وجود مؤسسات حاضنة لها، وتقوية المؤسسات القائمة، وبناء مؤسسات جديدة، وهذا ربما يبطء العملية الديمقراطية في بلد مثل موريتانيا، يفتقر إلى وجود المؤسسات اللازمة للحفاظ على الديمقراطية.
لقد أصبحت آليات الديمقراطية في موريتانيا معروفة: حزب واحد مسيطر متحكم في مؤسسات الدولة، لا يسمح إلا بتعددية حزبية مقيدة، وهذا ما تقوم به الأنظمة السلطوية التي تتمحور فيها الأحزاب والسياسة حول الحاكم، مع استمرار سيطرة الحزب الواحد.
الانتخابات الموريتانية وإن كانت غير مثالية، إلا أنها دائمًا ما تأتي لحل الأزمات السياسة في البلاد، لكن لا يمكن اعتبارها ديمقراطية حقيقية ما دامت السلطة المطلقة هنا بيد الجيش، بل يمكن اعتبارها ديمقراطية انتخابية أخذت شكل الديمقراطية دون جوهرها.
المصادر:
[1]فليب مارشزين، القبائل والإثنيات والسلطة في موريتانيا، ترجمة، محمد ولد بوعليبة بن الغراب، دار النشر جسور، نواكشوط، 2012، ص 200.
[2] محمد المختار ولد بلاتي، دستور 20 يوليو 1991 والتداول السلمي على السلطة، المجلة الموريتانية للقانون والاقتصاد، العدد 27، 2020، ص107.
[3] حسن طارق، دستورانية ما بعد انفجارات 2011: قراءات في تجارب المغرب وتونس ومصر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت ،2016، ص229.
[4] أحمد سالم ولد بوبوط، الدستور الموريتاني عود على بدء خواطر حول المراجعة الدستورية بتاريخ 15 أغسطس 2017، تعريب، محمد ولد الداه ولد عبد القادر، والحسن ولد ماء العينين، المجلة الموريتانية للقانون والاقتصاد، العدد 25، 2018، ص8.
[5] غيورغ سورسن، الديمقراطية والتحول الديمقراطية: السيرورات والمأمول في عالم متغير، ترجمة، عفاف البطانية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، لبنان، 2015، ص51.
[6] لاري دايموند، روح الديمقراطية: الكفاح من أجل بناء مجتمعات حُرّة، ترجمة، عبد النور الخراقي، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيرت 2014، ص 51.
[7] زولتان باراني و روبرت موزر (محرران)، هل الديمقراطية قابلة للتصدير؟، ترجمة، جمال عبد الرحيم، جداول للنشر والترجمة والتوزيع، بيروت، لبنان، 2012، ص383.
[8] عبد الوهاب الأفندي، تحديات التنظير للانتقال نحو المجهول تأملات في مآلات الثورات العربية وفي نظريات الانتقال الديمقراطي، في: مجموعة مؤلفين، أطوار التاريخ الانتقالي: مآل الثورات العربية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، لبنان، 2015، ص200.
تعليقات علي هذا المقال