“لقد قام الفلاسفة فقط بتفسير العالم، غير أن الهدف بالأحرى هو تغييره”، هكذا لخص ماركس مشكلة العلم وعجز العلماء عن تغيير الواقع، رغم أن أفكارهم في الحقيقة تشكل هذا الواقع، وهو ما يمثل مفارقة لغزا مثيرا للاهتمام.
ورغم أن التغيير دائم ومستمر في الحياة، إلا أن قدرة البشر على ضبط هذا التغيير أو إحداثه عمدًا ضعيفة للغاية، وهو ما تشهد به تجارب التغيير والحركات الاجتماعية، وهكذا يعاني العلم والحركة من علاقة مضطربة مع الواقع قد تصل إلى حد العجز، ولكن هل هذا العجز حقيقي دائما؟
في واقع الأمر، إن فرص التغيير قد تكون متاحة وقوية في ظل شروط وظروف الواقع، لكن رغم ذلك يفشل البشر في اغتنام هذه الفرص.
ومنذ مطلع الألفية الثانية كان الباحثون والناشطون في مصر يرددون مقولة مفادها؛ أن السلطة ملقاة على قارعة الطريق في انتظار من يتلقفها، ولكن لم يستطع أحد إشعال شرارة الثورة أو استفزازها لتندلع لاحقًا فجأة.
كيف يمكن تفسير هذه الظاهرة ومثيلاتها؟ ولماذا تقعد همم الناس عن المطالب العظيمة الممكنة فعلًا والمستحيلة في تصورهم؟ ولماذا لا تنجح الحركات السياسية في استغلال الفرص المتاحة؟ وماذا يمكن للناس فعله في مصر وخارجها بعد تلقي الثورة هزيمة منكرة؟
يقدم لنا علم النفس السياسي تفسيرًا مهمًا لهذه الظواهر، ومفاتيح إجابات لهذه الأسئلة، تساعدنا على فهمها والتعلم منها، على أمل الخروج بدروس تعزز الحراك من أجل التغيير، والنضال من أجل الحرية.
وعلم النفس السياسي؛ هو علم بَيْنيٌّ (interdisciplinary) يختص بدراسة السياسة والسلوك السياسي من زاوية علم النفس، كما يدرس الظواهر النفسية من مدخل اجتماعي-سياسي، وتعتبر العلاقة بين السياسة وعلم النفس ثنائية الاتجاه، إذ يمكننا أن نستخدم علم السياسة لدراسة النفس البشرية، كما يمكننا أن نوظف علم النفس لدراسة السياسة.
وكعلم بَيْني يستفيد علم النفس السياسي من حقول معرفية أخرى عديدة، منها: علم الأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، والعلاقات الدولية، والاقتصاد، والفلسفة، والإعلام، والصحافة، والتاريخ.
ويهدف علم النفس السياسي إلى فهم العلاقات المتعاضدة بين الأفراد والسياقات والمؤثرات المتعلقة بالقناعات، والدافعية، والتصورات، والمدركات، وعملية تمثل المعلومات، واستراتيجيات التعلم، والتنشئة وتكوين التوجهات.
وقد وُظَّفَت نظرية واقترابات علم النفس السياسي في سياقات وموضوعات عديدة، مثل: دور القيادة السياسية، عملية صنع السياسة الداخلية والخارجية، الحرب والإبادة، التصويت، القومية، وغيرها، وجوهر علم النفس السياسي دراسة أسس وديناميات ومخرجات السلوك السياسي باستخدام تفسيرات إدراكية واجتماعية.
يتناول هذا المقال طرفًا من نظرية “العجز المكتسب” وتطبيقاتها على الفكر والحركة، وهي تدور حول سؤال أساسي هو: كيف يمكن للفاعلين الاجتماعيين استدامة مقاومتهم للقمع والظلم؟
البداية: تجربة سيليجمان
العجز المكتسب يشير إلى ظاهرة مثيرة: عندما يتعرض البشر لخبرات وأحداث أكبر منهم لا يستطيعون التحكم فيها، وتمنعهم من تحقيق أهدافهم، ومن ثم يتوقف هؤلاء البشر عن السعي ومحاولة تحقيق أهدافهم، حتى عندما تكون هناك فرصة متاحة لتحقيقها.
وكمفهوم، يتم توظيف العجز المكتسب لتفسير أسباب سلوك البشر مسلكًا سلبيًا، أو إحساسهم بكونهم ضعفاء ومغلوبين على أمرهم في مواقف يستطيعون عمليًا تغييرها أو تجنبها.
تطورت نظرية العجز المكتسب في الخمسين سنة الأخيرة، وتم اختبارها من قبل الكثيرين من العلماء والباحثين، وعلى رأسهم مارتن سيليجمان الذي اكتشف ظاهرة العجز المكتسب عام ١٩٦٧ خلال تجاربه النفسية.
وذلك عبر إخضاع مجموعة من البشر لأحداث قاهرة أو غير مريحة، مثل دفقات من ضوضاء عالية ومزعجة للغاية، أو ألغاز لا يمكن حلها، ثم بعد ذلك يتعرضون لأحداث يمكنهم التحكم بها كضوضاء أو صدمات كهربائية يمكنهم وقفها أو ألغاز يمكنهم حلها.
في الغالب كان الخاضعون للتجربة ييأسون من محاولة حل اللغز في المرة الثانية رغم كونه قابلًا للحل، أو من محاولة إيقاف الضوضاء رغم قدرتهم عمليًا على ذلك، ولكن أحيانًا كان بعض الناس يظهرون سلوكًا مغايرًا، إذ يحاولون حل اللغز أو إيقاف الضوضاء بتصميم وإصرار أكبر، إلا أن استمرار المؤثرات التي لا يمكنهم التحكم بها تؤدي في النهاية إلى تراجع قدرتهم على المقاومة، ومن ثم دخولهم في دوامة العجز المكتسب.
كذلك اكتشف سيليجمان أن بعض أنماط وطرق التفكير تؤدي للعجز المكتسب حتى من دون التعرض مباشرة لأحداث لا يمكن التحكم بها، ومن ثم خلص سيليجمان إلى أن بعض طرق فهم وتفسير أحداث الحياة السلبية تقود البشر إلى تصور الأحداث الأخرى في حياتهم باعتبارها قاهرة ولا يمكن التحكم بها.
ومن ثم يقود هذا التصور البشر إلى استنتاج أن سلوكهم مهما يكن ليس بإمكانه أن يمنع الأحداث السلبية في المستقبل، ما يفاقم من مشكلة العجز المكتسب لديهم، فيتحول هذا التصور إلى منهج تفكير وأسلوب ذهني مستبطن، مفاده أن الاستجابة للأحداث لا تغير شيئا، ويؤدي العجز المكتسب للعديد من الآثار المدمرة والتي من أهمها؛ ضعف أو انعدام القدرة على المبادرة وعلى المقاومة والمثابرة.
هل نحن عاجزون حقًا؟
يطور البشر ارتباطات وتفسيرات حيال أسباب الأحداث المختلفة، هذه القدرة على العزو محورية في العجز المكتسب، إذ إن تطوير تفسيرات شاملة وثابتة وداخلية يؤدي غالبا للعجز المكتسب فكريًا وشعوريًا وسلوكيًا، بينما تؤدي التفسيرات المحددة والمتغيرة والخارجية إلى تصور أن الأحداث غير المرغوب فيها يمكن التغلب عليها.
التفسيرات الشاملة هي التي تغطي كل المواقف والأحداث مثلا: “أنا غبي” بدلا من التفسير المحدد: “لا أحب نمط الأستاذ في التدريس”، والتفسيرات الثابتة هي التي لا تتغير مثلا “لست جيدًا في الرياضيات” بدلا من التفسير المتغير: “موت صديقي شتتني”، أما التفسيرات الداخلية فهي التي تشير لأسباب تنبع من الفاعل ذاته مثلا: “قدرتي على الاستذكار ضعيفة” بدلا من التفسير الخارجي: “كان الامتحان صعبا للغاية”.
حتى وإن كان للأحداث سبب واحد واضح مثلًا: “لقد جرحت نتيجة وقوع الحجر على رأسي”، فإن لدي البشر الحرية في تأكيد أي بعد من أبعاد التجربة أو الحدث على غيره مثل: “عدم انتباهي أدى لجرحي”.
ولدى البشر طرق في العزو وإقامة التفسيرات واختراع الارتباطات، وهو ما يسمى بالنماذج التفسيرية، وتؤدي النماذج التفسيرية السلبية إلى مفاقمة ظاهرة العجز المكتسب والعكس صحيح، فالمهم هو تصور العجز واستبطانه لا مجرد التعرض لتجربة قاهرة.
كيف تخدعنا الأنظمة القمعية؟
وجد سيليجمان وزملاؤه أن العجز المكتسب يصيب كذلك الجماعات البشرية، عندما يكتشف هؤلاء أن أفعالهم ليس لها تأثير على تجنب مواقف سلبية أو تحقيق نتائج مرغوب فيها، ومن ثم تتوقف القدرة على المبادرة والاستباق، والمثير في الأمر أن الجماعات البشرية يمكن قسرها تعمدا على العجز المكتسب، ويمكن تعريف العجز المكتسب اجتماعيًا بأنه: حالة ذهنية اجتماعية توهن قدرة الفاعلين الاجتماعيين على إحداث أثر يملكون عمليًا الموارد والقدرات اللازمة لإحداثه بسبب تجارب سلبية سابقة من فقدان التحكم.
ومن المهم فهم أن العجز المكتسب يعمل في مساحة “ما قبل السياسي” و”ما قبل الاجتماعي”، فهو أمر تأسيسي بعيد الغور والأثر، ويعيق العجز المكتسب قدرة الفواعل الاجتماعية على إدراك واستغلال الفرص السياسية المتاحة، فهو يؤدي لتدهور قدرة البشر على الاستجابة للفرص الجديدة وكذلك للصدمات الجديدة، ومن المنطقي توقع أن الأنظمة الاجتماعية المستبدة والظالمة تتقصد -بوعي أو بدون وعي- زرع العجز المكتسب في النفوس والمشاعر والعقول لمنع أية فرصة للتغيير والتطور، ومع مرور الزمن تستبطن الأجيال العجز المكتسب وتتوارثه نتيجة الميكانيزمات والبنى الاجتماعية التي تستهدف أو تؤدي للعجز المكتسب،
من هنا تأتي الأهمية الجوهرية للقادة المبدعين اجتماعيًا وسياسيًا، الذين بإمكانهم إنجاز قطيعة فكرية وعملية مع التصورات والبنى التي تمنع تمكين الناس، وتزرع فيهم العجز المكتسب، ومن ثم تظهر تنظيمات واستراتيجيات اجتماعية جديدة، وثمة دراسات عديدة استخدمت نظرية العجز المكتسب في تفسير ظواهر سياسية واجتماعية مختلفة.
عدوى سريعة الانتشار
وللعجز المكتسب بعد ثقافي أساسي، حيث يمكن لفكرة العجز المكتسب أن تنتشر عبر الشبكات الاجتماعية نتيجة التلاقح الثقافي والمقارنة الاجتماعية، إذ إن البشر بإمكانهم اكتساب العجز من محض مشاهدة أناس آخرين يتعرضون للصدمات أو تجارب قاهر، وهذا ما دفع سيليجمان وآخرون للقول بأن البشر في العصر الحديث بعد قدوم التلفاز والشبكات الاجتماعية أصبحوا معرضين للعجز المكتسب أكثر من قبل على نحو غير مسبوق في التاريخ، ومن ثم فإن نظرية العجز المكتسب تتطلب مراجعة جذرية لفكرة وطريقة تقديم “الغارة على الإسلام” للناس، وتبين مدى تأثير ذلك عليهم نفسيًا وفكريًا، فعندما يشاهد البشر أناسًا آخرين يتعرضون لأحداث لا يمكنهم الفكاك منها أو التحكم بها، فإن بإمكانهم أن يكتسبوا العجز عن طريق معايشة هذه التجارب السلبية، وإعادة إنتاجها في خيالهم.
كذلك من المهم إدراك تأثير الصدمات النفسية التي ترافق الاعتقالات أو المذابح على الناس، وحاجتهم للتعامل مع آثارها المدمرة نفسيًا وفكريًا واجتماعيًا، ومن ثم فإن الأنظمة القمعية تميل بطبيعتها إلى زرع فكرة العجز المكتسب في الناس كي تجعل ممارستها للسلطة أسهل لِفَتِّ عضد المقاومة.
كذلك فإن من مصلحة الأنظمة الدكتاتورية الاستثمار في فكرة أن الصلة بين أفعال الناس والواقع الذي يحيون فيه منقطعة على نحو لا يمكن إصلاحه، ومن ثم يتوقف المواطنون يأسًا عن المطالبة أو حتى الرغبة في خلق أوضاع جديدة، بعدما باتوا على يقين بأن هذه الأحلام لا يمكن تحقيقها إطلاقًا.
العجز في ميدان السياسة
إن العجز المكتسب هو ميل البشر إلى عدم محاولة تغيير موقف سلبي أو غير مرغوب فيه، نتيجة تجربة سابقة علمتهم مرة تلو أخرى أنهم عاجزون كليًا، في ضوء هذا يمكن أن نفهم استسلام المعارضين السياسيين للاعتقال أو لنمط معين من العلاقة مع السلطة السياسية، وعدم سعيهم لتغييرها عن طريق مسلكيات سياسية جديدة، أو استحداث علاقات وتحالفات جديدة، أو تطوير مشاريع جديدة.
إن العجز المكتسب ينبع من المواقف التي يشعر فيها البشر بعدم قدرتهم على تغيير أي شيء، ويثير هذا التساؤل حيال تجربة كالاعتقال وأثرها على المعتقلين، ولِمَ تتباين استجابة البشر لتجارب الاعتقال فيخرج منها بعضهم لقيادة حركات وتولي رئاسة دول، بينما يختفي آخرون ويقعون أكثر فأكثر تحت وطأة العجز المكتسب.
كيف يمكن تجاوز العجز المكتسب إذن؟ هذا سؤال كبير ولا يمكن استيفاؤه في جملة أو اثنتين، لذا يشير سيليجمان أن العجز المكتسب يمكن منعه إذا تمكن الفاعل الاجتماعي من مخرجات واقعه قبل أن يتعرض لظروف قاهرة، ومن أهم العوامل في هذا السياق اكتساب المهارات التقنية بكل معانيها، وعلى كافة المستويات والمجالات الاجتماعية، والمجال الأفضل لذلك هو الأنشطة والتنظيمات المجتمعية الطوعية.
أيضا للإبداع والقدرة على الحلم أثر ضخم في الخروج من العجز المكتسب، فالقدرة على الإبداع واختراع شيء أصيل ترياق ضد الشعور بالعجز أمام قوة قاهرة، ومن هنا تأتي أهمية الفنون مثلا، كذلك فإن التحول من النماذج التفسيرية التشاؤمية إلى نماذج تفسيرية أكثر تفاؤلًا في غاية الأهمية.
فالنموذج التفسيري الإيجابي هو بشكل عام: محدد ومتغير وخارجي حيال الأحداث السلبية، وشامل مستقر وداخلي بالنسبة للأحداث الإيجابية، والعكس صحيح بالنسبة للنموذج التفسيري السلبي، ومن ثم فإن تطوير مقاومة مستدامة للقمع تتطلب تطوير ارتباطات ونماذج تفسيرية ونظريات عن النجاح والفشل أكثر تحديدًا وتغيرًا وخارجية.
مثلا: بدلا من الارتباط الشامل “لسنا جاهزين للديمقراطية” يمكن لجماعة أن تقول: “لدينا الكثير من العمل علينا إنجازه”، وبدلا من الارتباط غير المتغير “لسنا جيدين في ممارسة الانتخابات”، يمكن لجماعة أن تفكر: “ارتكبنا العديد من الأخطاء في الانتخابات الأخيرة”، وبدلا من الارتباط الداخلي: “لدينا مهارات سياسية عقيمة وسيئة”، يمكن لجماعة أن تتصور: “كان توقيت دخولنا للبرلمان سيئًا”.
إن العجز المكتسب يجبر الناس على تغيير مفاهيمهم عن “الوضع الطبيعي” كي يلائم الأوضاع الجديدة التي تكيفوا عليها، بدلًا من السعي لتغيير هذه الأوضاع غير المرغوب فيها أصلًا، ويصير هذا التكيف مانعًا للتمكين والتغيير الإيجابي، لذلك علينا أن نتأمل: إلى أي مدى يمكن وصم ثوار الربيع العربي المهزومين بالعجز المكتسب؟ هل فقدوا كل قدرة على المبادرة أو حتى الرغبة فيها؟ وهل نحن في حاجة إلى جيل جديد متحرر من هذا العجز المكتسب، كما كان جيل الربيع العربي قد تحرر من العجز المكتسب الذي تمكن من الأجيال السابقة عليه؟ هذه أسئلة مفتوحة جدير أن نفكر بها مستصحبين نظرية العجز المكتسب.
تعليقات علي هذا المقال