سحر اللغة
رُوىَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “إن من البيان لسحرًا، أو إن بعض البيان سحر”[1]، والسحر تأثيرٌ خفيٌّ يأخذ النفس أو العقل، وسحر اللغة لا يقف عند اللغة الجمالية التصويرية، ولكنه يشمل كل أشكال استخدام الناس للغة.
تدخل اللغة في مواقف الاتصال المختلفة والجدال والصراعات والنزاعات والقضاء، ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض؛ فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيتُ له من حق أخيه شيئًا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار”[2].
بدايتنا العربية
لكل أصحاب لغة بدايات للغوص في أسرار اللغة، من تقعيد وفهم وتبويب وتصنيف، وقد كانت بدايتنا جهودًا لخدمة القرآن الكريم بعلوم القراءات والتجويد والتفسير، وعلوم القواعد النحوية والصرفية، ووضع فلسفة للقواعد، وتشييد منظومة كبيرة لها.
وكذلك انطلقت علوم البحث في النَظْم والتركيب، ومعها البلاغة والجمال والبحث في وجوه الإعجاز، وأيضا جهود البحث في الدلالات واستنباط الأحكام والحاجة لأصول الفقه وضبط قواعد الاستنباط، وما ظهر من علم الكلام والحاجة له في الحِجاج العقائدي بالأدلة العقلية وغير ذلك.
كل ذلك متقاطع مع اللغة وإنْ تعدد التصنيف والمنظور، وقد وصف الدكتور الراجحي هذا المناخ بأنه مناخ إسلامي “أنتج علوما إسلامية تشاركت في النشأة، وتساهمت في أسباب التطور وفي وجوه التأثر والتأثير”[3].
وليس دقيقًا أن غاية تقعيد علوم العربية وقواعدها كان لِأمْن الخطأ أو اللحن، بل كان الفهم وكشف الأسرار هو الغاية العميقة لروح تلك العلوم، فالبون شاسع بين محاربة اللحن وإرادة الفهم، لذلك عدّ ابن فارس معرفة القواعد النحوية والصرفية الظاهرة فرعًا لا أصلًا، والأصل هو البحث المتعمق في كنه اللغة وأصلها، ووَصَفَ المهتمين باللغة بأنهم صنفان “رجل شُغل بالفرع فلا يعرف غيره، وآخر جمع الأمرين معًا، وهذه هي الرتبة العليا، لأن بها يُعلم خطاب القرآن والسنة، وعليها يعول أهل النظر والفتيا”[4].
لقد امتلأت كتب التراث بمباحث تتعلق بكنه اللغة وفلسفتها، وغاياتها وطرق استخدامها وتوظيفها، وظلت تحت أسماء وتصنيفات عدة، وكانت الانطلاقة اللغوية العربية منبعها روح الإسلام والتأثر بمعجزة القرآن، والرغبة الكبيرة في فهمه، وحفظ لغته، وبيان أسرار إعجازه، وظلت هذه الغاية حاضرة ومهيمنة على كل الجهود المتعلقة بالحفظ والتدوين والتقعيد.
البدايات الحديثة:
في عام ١٧٨٦ أحدث بحثٌ لوليام جونز جدلًا وتأثيرًا كبيرًا، فقد أوضح أن اللغة السنسكريتية -وهي لغة الهند القديمة- واليونانية واللاتينية والجرمانية كلها تتشابه في أبنيتها تشابهًا كبيرًا، واستنتج أن هذه اللغات قد تحدرت من مصدر واحد[5]، وفتح ذلك بابًا جديدًا في الاهتمام بجوهر اللغات والعلاقات بينها وتطورها التاريخي.
ومن هنا نشأت فكرة اللغات التي تنتمي لعائلة واحدة، مثل عائلة اللغات الهندو/أوربية، وتشعب الاهتمام بفكرة تطور اللغة تاريخيًا، وما يحدث في اللغة من تغير مستمر عبر الأجيال والأزمان، حتى ظهر من يقول “أن التغير اللغوي لا يقع عشوائيًا بل يجري على نحو مطرد”[6]، هذا التغيير الذي يحدث دائما للغات يمكن تفسيره والتنبؤ به أحيانًا، وتفسير أسباب اندثار لغات وانتشار أخرى.
وبعد نشر محاضرات العالم الفرنسي دي سوسير بعد وفاته عام ١٩١٥، انطلقت نظرة جديدة تحاول البحث داخل بنية اللغة نفسها، وتقسيمها إلى نظم متداخلة صوتية وتركيبية ودلالية؛ من أجل وصفها وصفًا منهجيًا حقيقيًا لا يخضع لمعايير سابقة أو تاريخية، ويحاول كشف كل بِنْية خفية بين الوحدات المؤلفة للغة، فالبحث هنا وصفيٌّ جعل اللغة هي الغاية لذاتها كما يستخدمها أهلها.
وفي عام ١٩٥٧ ظهر نعوم تشومسكي ليطلق صيحة لغوية كان لها صدى واسعًا، فلفت النظر إلى القدرة اللغوية التوليدية لدى الإنسان، وما تتميز به هذه القدرة من إنتاجية وإبداعية وما وصفه بـ”قدرة البشر على إنتاج وفهم عدد غير محدود من الألفاظ المبتكرة”[7].
وفي عام ١٩٦٧ بدأ يظهر مصطلح “التداولية” Pragmatics Studies، وقد سبقه إرهاصات تحاول النظر في اللغة بطريقة أخرى، من حيث طريقة الاستخدام والتوظيف، حيث فتحت آفاقًا جديدة لمفاهيم وطرق تحليل في طريقة توظيف اللغة واستخدامها بغض النظر عن القواعد النحوية والصرفية والمعجمية.
فكل خطاب بين الناس يحمل طريقة وأسلوبًا وبِنية خفية لإيصال المعنى والتأثير به، وظهر في هذا الإطار فرعًا آخر عُرف لاحقا بـ”تحليل الخطاب” Discourse Analysis، وما كشفه هذا الفرع من قدرات تحليلية تتعلق بأنماط الخطاب وأشكاله، وصدق وصف جين إتشن عن علم اللسانيات أنه “فرع معرفي سريع التغير”.
علم اللسانيات
لقد أصبح البحث في علم اللسانيات Linguistics هو البحث في كل الأسرار التي تحيط بطبيعة اللغة -أي لغة- ونشأتها وتطورها وطرق استخدامها وتوظيفها، والآفاق الحديثة التي فُتحت في هذا العلم كشفت أسرارًا تاريخية، وأسرارًا تتعلق بتطور اللغة والتغير الذي يطرأ عليها، وما يتعلق باكتساب اللغة وتعلمها كلغة أولى أو ثانية، والكفاءة الذاتية لإنتاج اللغة، وأيضا تحليل استخدام اللغة الذي يكشف أسرارًا أسلوبية واجتماعية وطبقية، وأسرارًا تتعلق بالأفكار والهوية والأيدولوجيا والنيّات والمقاصد والتأثير السلطوي.
وأيضا تطورت البحوث اللغوية المرتبطة ببرمجة الآلات والذكاء الصناعي، وكذلك تطورت فروع تتعلق باللسانيات القضائية والجنائية، لتساهم في التبرئة والإدانة، وأيضا ما يتعلق بتطوير مناهج التأويل والتفسير للنصوص -سواء التاريخية أو الأدبية أو المقدسة- وظهر مصطلح “لسانيات النص” Text Linguistics، ولا زالت عملية التطور مستمرة لا تتوقف، كذلك ساهمت اللسانيات في أمور تتعلق بحقوق حفظ الملكية الفكرية، وتطور الدراسات الأسلوبية التي تكشف الانتحال والسرقة.
اللسانيات والشأن المصري العام
لا يتسع لنا المقام لعد الكثير من الأفكار التي نحتاجها من علم اللسانيات، وسأركز على مجال واحد يتعلق بتحليل الخطاب Discourse Analysis، وهو مجال يتقاطع مع فروع علمية أخرى منها الاجتماع والسياسة والاتصال والإعلام إلخ.
يمكننا أن نُجمل ما قد يفيدنا في الشأن المصري من تحليل الخطاب في أربع كلمات مختصرة: فهم – تحليل – بناء – دعم، ونحاول أن نجمل باختصار بعض الأمثلة التوضيحية على سبيل المثال لا الحصر:
أولا: الفهم
فئات المجتمع وقطاعاته:
في مجتمع عدد سكانه يتجاوز المائة مليون، بين ريف وصعيد وساحل وبدو ومركز وأطراف وحدود، تتعدد الفئات والقطاعات والطبقات في المجتمع، وتتنوع أحلامها وأفكارها وغاياتها وطريقة تفكيرها، بل وعلاقات هذه الفئات ببعضها، ويقوم متخصصو تحليل الخطاب بدور مهم في فهم هذه الفئات والقطاعات ،من حيث الأفكار والمؤثرات وتجليات هذه الأفكار التعبيرية -سواء صحية أو غير صحية-.
هناك من يقوم بهذا الدور لأغراض تتعلق بالهيمنة أو التفريق بين فئات المجتمع “فرق تسد”، أو لدعم لعبة “العصا والجزرة” بين هذه الفئات، ولا توجد سلطة سياسية ليس لها معادلة خاصة في ضبط التوازن بين فئات المجتمع وطبقاته، لكن شتان بين من يقوم بهذه المهمة لغرض إفساد المجتمع، وبين من يقوم بها لغرض تقوية المجتمع، ودعم مصالح الناس، وتقوية النسيج الوطني.
تحليل الخطاب هنا قد يُحذّر من كوارث مستقبلية لم تظهر على ساحة الأزمات، فقد يبلغ الضيق، أو اليأس، أو الخوف، بفئة أو طبقة لتنذر بحدوث أزمات كبرى لاحقًا، وربما ثورات أو حروب، أليست الوقاية خير من العلاج؟
السلطة:
لكل سلطة منطق خاص، وطريقة خاصة في بناء منطق سلطتها، هذا المنطق الناظم الخفي هو المتحكم في أدوات السلطة المختلفة، ويسهم محللو الخطاب في كشف الفجوة بين الغايات الظاهرة والخفية، وطرق توظيف اللغة أمام الجماهير، وطرق التأثير على الجمهور، أو تضليله وخداعه إلخ.
الأزمات والصراعات والسجالات:
يعيش مجتمعنا يوميا صراعات وجدالات كثيرة بين الفئات والطبقات والأفراد والرموز والمسؤولين والمؤسسات والهيئات إلخ، وتحليل الخطاب يسهم في كشف طبيعة هذه الأزمات ومنطقها المعلن والخفي.
كما يسهم في التمييز بين الفاعلين وبين المروجين والمستهلكين -سيأتي ذكر ذلك لاحقا-، فوسط الأزمات يختلط الحابل بالنابل، وتتوه الحجج والحقائق، ويسود منطق عاطفي أحيانًا، أو انتقامي أو تبريري أو عدائي إلخ أحيانا أخرى.
كذلك يسهم تحليل الخطاب في التمييز بين ما هو موضوعي وما هو غير ذلك، وبين ما هو ظاهر وخفي، وبين التحليل الحجاجي والقيمي للمشاركين داخل الأزمات والسجالات.
فهم الحركات والتيارات والأحزاب والمنظمات:
الحركات والتيارات والمنظمات والأحزاب هي جزء من المجتمع، لكنها تتميز عن فئات المجتمع بأجندتها وقيمها المؤسِّسة، وطبيعة الروابط داخلها، ونظرتها لنفسها وللمجتمع، وهو ما يرسم خطًّا معينًا، وربما أيدولوجية معينة للمنظمة أو التيار أو الحركة.
ويساهم تحليل الخطاب كذلك في فهم هذه الاتجاهات والتمييز بين ما هو ثابت ومتغير، وبين ما هو حق وما هو خدعة ومغالطة، كما يمكن أن يكون إنذارًا استشرافيًا يفيد هذه الحركات أو المؤسسات داخليًا، أو يفيد المجتمع خارجيًا للاستفادة أو التحذير من عواقب وخيمة.
كما يمكن تحليل ما يعترى هذه الأفكار من تحوير أو تغيير وإن لم تعلن ذلك، وكل ذلك ناتج عن التفاعل المستمر مع البيئة والظروف المحيطة.
ثانيا: التحليل
الفهم أساس التحليل، وحين توفر المنهجيات والنماذج وصفًا علميًا جيدًا -سواء اعتمدت طرقًا كمية أو كيفية- فإنها تُسهّل المهمة الثانية وهي التحليل، ومما يفيد به التحليل:
تحليل الغايات الإنجازية:
استخدامنا للغة ينطوي على رغبة في إنجاز أشياء كثيرة، والتأثير العملي والإنجازي في نفوس، أو عقول، أو فئات، أو مجتمع، إلخ، وتحليل هذه الغايات الإنجازية المقصودة وغير المقصودة، الظاهرة والخفية هي نقطة مهمة، ويمكن وصفها بتحليل القوة الإنجازية أو التأثيرية للخطاب، وكشف الفجوات بين المرجو والمنجز الفعلي.
قد يبدو لنا خطاب قوي مهيمن؛ لكنه في الحقيقة ضعيف لم تُكشف مكامن ضعفه، وقد يبدو خطاب هادئ غير مهيمن لكنه مؤثر في قطاعات ونفوس كثيرة.
الفاعلون:
تُميز بعض المدارس والنظريات في تحليل الخطاب بين الفاعلين الرئيسيين والمروجين للخطاب أو المستهلكين، وتقوم بعض الاتجاهات العلمية بالعمل على التمييز بين غايات وسلوك منتج الخطاب ومروجه ومستهلكه، فصاحب المصلحة قد يكون متواريًا خفيًا، لكن خطابه فاعل من خلال آخرين.
الخداع والتلاعب:
يساهم محللو الخطاب بقوة في كشف أساليب الخداع والتلاعب التي تٌستخدم على نطاق واسع من السلطة والساسة وأفراد وفئات المجتمع، بقصد أو بدون، هذه الحيل التي تُلبس الحق بالباطل، أو تؤسس لمنطق كاذب يتستر خلف ستار الوطنية، أو الدين، أو الواجب، أو الحق، إلخ.
ويقوم محللو الخطاب بتحليل الافتراضات والمسلمات الكامنة، وكذلك تحليل الأساليب الصريحة والضمنية والتلميحية، وأيضا تحليل طرق الخداع والمغالطات وما أكثرها -سواء كانت مغالطات منطقية أو مغالطات في الاستخدام والتداول-، وكل هذا يمثل إضافة نوعية في إيقاظ الوعي والتحصين من الوقوع بسهولة في فخاخ التلاعب والخداع.
الظواهر المجتمعية والسياسية:
يسهم محللو الخطاب في تحليل الظواهر المجتمعية التي تتجلى في أشكال لغوية متعددة، عبر الخطابات ووسائل التواصل والإعلام والحوارات المجتمعية والفن والتأليف وغير ذلك، مثل ظواهر العنصرية والتنمر والسلبية والفوضى والتمرد والتوتر الأهلي والعنف الأسري، وغير ذلك من الظواهر التي يمكن كشفها من خلال لغة المجتمع والناس والسلطة، وهو ما يمثل رصيدًا مهمًا للمتخصصين والباحثين المهتمين بهذه المجالات والظواهر؛ لفهمها ومواجهتها ومعالجتها.
المنصات الإعلامية والسياسية والتعليمية والفنية:
وهي منصات مؤثرة في وعي وسلوك الناس، وتستخدم اللغة بأشكال مختلفة، بقصد أو بدون، وتحليل خطاب هذه المنصات مهم ويؤثر في عملية التخطيط والتقييم للمؤسسات التعليمية والإعلامية والسياسية.
ثالثا: البناء والدعم
لا يقف المختصون عند الفهم والتحليل فقط، بل يمكن لبعض المختصين أن يساهموا في البناء أيضًا بجانب تخصصات أخرى مثل: كيف نبني أجندة وطنية جامعة؟ وكيف ترتكز هذه الأجندة على خطاب متماسك وقوى؟ وكيف يكون فاعلا ومؤثرا؟
وأيضا كيف نُعبّر عن الغايات والمصالح العليا بخطاب فاعل مؤثر؟ وكيف ندعم التعاون وحشد الطاقات في الاتجاه الصحيح؟ وكيف يساهم الخطاب في دعم السلم والتعاون والوحدة والمصلحة العامة؟
تُمثّل عملية البناء عدة مراحل تعتمد على خبرات ومعلومات وبحوث متعلقة بالفهم والتحليل، ثم متعلقة بالتفكير والتخطيط الاستراتيجي، وكيف يمكن نسج استراتيجية فعالة متعددة الوسائل لخطاب فاعل ومؤثر، وتقييمها وتطويرها باستمرار، ويساهم بعض متخصصي الخطاب في كل هذه المراحل.
والخلاصة؛ أن اللغة تحمل الكثير من الأسرار الفكرية والاجتماعية والسياسية والتاريخية والإنسانية والأدبية والاتصالية والإعلامية والنفسية والتقنية والجنائية، وعلم اللسانيات بفروعه المتعددة وتطوره المستمر وتقاطعه مع الكثير من العلوم يسعى لكشف كثير من هذه الأسرار.
وإنّ حاجة كثير من المؤسسات الاجتماعية والفكرية والسياسية والإعلامية والتعليمية والدينية والحكومية والأمنية لمحللي الخطاب تكاد أن تكون مثل حاجتنا للماء والهواء، سواء كانت الغاية المرجوة فهما، أو تحليلا، أو بناء وتأثيرا، أو استشرافا.
المصادر
[1] البخاري، عن عبد الله بن عمر، حديث رقم ٥٧٦٧.
[2] البخاري عن أم سلمة، حديث رقم ٧١٦٩.
[3] عبده الراجحي، النحو العربي والدرس الحديث بحث في المنهج.
[4] ابن فارس، الصاحبي في فقه اللغة العربية.
[5] جين إتشن، اللسانيات مقدمة إلى المقدمات.
[6] المصدر السابق.
[7] المصدر السابق
تعليقات علي هذا المقال