في عام 1924، أسس هنري جيربر (Henry Gerber) وهو مهاجر ألماني في شيكاغو جمعية حقوق الإنسان (society for human rights) وهي أول منظمة موثقة لحقوق المثليين في الولايات المتحدة. استلهم جيربر فكرة إنشاء منظمته خلال خدمته في الجيش الأمريكي في الحرب العالمية الأولى، من قبل اللجنة العلمية الإنسانية (Scientific-Humanitarian Committee) وهي مجموعة تحرير المثليين جنسيًّا في ألمانيا.
نشرت مجموعة جيربر الصغيرة بعض الأعداد من نشرتها الإخبارية “الصداقة والحرية”، وهي أول نشرة إخبارية للمثليين في البلاد، لكن كما هو متوقع فقد داهمت الشرطة مقر المجلة، لينتهي بها الحال إلى التفكك بعد عام واحد فقط من انطلاقها. وعلى قدر الاستياء الحاصل والفشل الظاهر لنشاط المجلة، إلا أنها كانت قبلة الحياة لحركة المثليين الاجتماعية في الولايات المتحدة، فقد كان هذا أول نشاط لنشر دعوة المثليين.
خلال هذه الفترة كانت استراتيجية المثليين لا تقوم إلا على الحفاظ على البقاء، فشرعوا في إنشاء مساحات آمنة لهم يعبرون فيها عن أنفسهم بحرية، ويتلاقون مع أقرانهم، ويهربون من ملاحقات المجتمع والدولة. ومع تكاثر المساحات الآمنة بدأت الرغبة في الظهور للعلن تتزايد، وبالفعل في عام 1950، أسس هاري هاي (Harry Hay) مؤسسة ماتاشين (Mattachine Foundation) وهي واحدة من أولى مجموعات حقوق المثليين في البلاد.
وعلى الرغم من أنها بدأت صغيرة، إلا أن المؤسسة، التي سعت إلى تحسين حياة الرجال المثليين من خلال مجموعات المناقشة والأنشطة ذات الصلة، توسعت، خصوصًا بعد اعتقال العضو المؤسس ديل جينينغز (Dale Jennings) في عام 1952 بتهمة الإغراء غير أنه أطلق سراحه لاحقًا بعد أن وصلت هيئة المحلفين معه إلى طريق مسدود.
خطة التغيير : سحق الأعداء الأربعة
في نهاية 1952، شكل بعض المثليين منظمة .One, Inc التي نشرت مجلة ONE وهي أول مجلة مؤيدة للمثليين في البلاد تستمر لوقت طويل نسبيًّا، وصف فيها دور ليج (Dorr Legg) رئيس تحرير المجلة، الاستراتيجية الجديدة للمثليين بعد نجاحهم في توفير مساحاتهم الأمان وضمان استمراريتها.
ذكر ليج أن المثليين في الولايات المتحدة يواجهون أربعة أعداء شرسين: الاجتماعي، العلمي، الديني، والقانوني. ومن أجل تطبيع وجود المثليين في أمريكا، لا بد من سحق هؤلاء الأعداء الأربعة.
ومن هنا اختار ليج المحور الأول ليكون محور نشاطه، وأصدر في 1953 مجلة ONE ولم تكن الأمور سهلة لهم بالطبع، فقد كانت المجلة بتصميم متواضع، وجرى تمويلها عبر التبرعات الفردية البسيطة، وكتب أغلب المحررين فيها بأسماء مستعارة خشية الملاحقة الأمنية، واتخذت من شقة أحد المحررين مقراً سرياً لها، وكان العاملون فيها لا يتقاضون أجرًا مقابل الكتابة، بل إن محررًا واحدًا مثل جيم كيبنر (Jim Kepner) كان يعمل سائق تاكسي وعاملاً في مصنع ألبان ويقضي وقته الباقي في الكتابة للمجلة، كان هناك إيمان حقيقي برسالة المجلة.
بعد أشهر من انطلاق المجلة، رفض مكتب البريد توزيع أحد أعدادها بحجة أن عنوان “الزواج المثلي؟” يمثل تعدياً على القيم الأمريكية المحافظة، لأن العدد شمل محتوى “فاحشًا، بذيئًا، فاسقًا، وقذرًا” وفق تعبير مكتب البريد. خاضت المجلة معركة قضائية وكسبتها في النهاية لصالحها، وكان هذا انتصارًا ضخمًا للمثليين، إذ إنها أول حادثة تعترف فيها مؤسسة حكومية أن المثليين قد يكون لهم حقوق إنسانية مثلهم مثل بقية طوائف المجتمع.
وفي عام 1955، رفع مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) قضية ضد المجلة وقضت المحكمة الابتدائية بمنع المجلة من النشر، ثم استأنفت المجلة على الحكم ولكن جرى تثبيت الحكم أيضًا، وفي محاولة أخيرة سافر محامي المجلة إلى واشنطن العاصمة لينقض الحكم في المحكمة العليا، لتقضي الأخيرة بعكس ما قضته المحاكم السابقة وتقر نشر المجلة، بدعوى أنها لا تحتوي على فحش أو بذاءة، ومثل هذا انتصارًا كبيرًا للمثليين “فهذا الحكم التاريخي قد أقر حقيقة اجتماعية ضمنية: أن المثلية الجنسية يمكن التحدث عنها علانية”[1].
باب العلم المشروخ
كان العدو الثاني للمثليين هو العلم التجريبي، ففي 1893م، كتب الطبيب ف. إ. دانيال ورقة بحثية بعنوان “هل ينبغي أن نسمح للمجرمين المجانين والمنحرفين جنسيًّا بالتكاثر؟” ذكر فيها أن المثلية الجنسية مثلها مثل إدمان الكحوليات والجنون. كما رأى أن المثليين ينبغي علاجهم بوسائل طبية مثل استئصال الرحم، حقن الهرمونات، العلاج الدوائي، التنويم المغناطيسي، والعلاج بالصدمة الكهربائية.
يؤكد المُنظر الفرنسي ميشيل فوكو أن الرأي العام والتقنين الأوروبي كانا يعاملان المثلي كما يعامل المجنون، فقد كان ينظر إلى كلتا المجموعتين على أنهما مريضتان من حيث غريزتهما الجنسية[2].
تحرك المثليون لتغيير هذه النظرة العلمية لهم، وشجع بعضهم الباحثة إيفيلن هوكر (Evelyn Hooker) لإثبات أن المثليين ليسوا مجانين أو مختلين عقليًّا، وبالفعل أجرت هوكر التجارب ونشرت ورقة عام 1956 قاست فيها نسبة الذكاء (IQ) وبعض المساحات الذهنية لدى المثليين والمغايرين، وتماثلت النتائج بشكل شبه متطابق، بما يوحي أنه ليس ثمة فرق عقلي بين المثليين والمغايرين.
كانت الورقة ثورية، فقد أشارت إلى أن المثلي ليس مجنونًا أو مخبولًا، وإنما شخص يتمتع بكامل قواه الذهنية واختار بإرادته الحرة أن يخوض في علاقة مثلية. الطبيب جود مامور (Judd Marmor)، رئيس الجمعية الأمريكية للطب النفسي (1975-1976) والذي شارك في مناقشات الجمعية، قال إن بحث هوكر كان “النقطة المرجعية التي كان علينا الاستمرار في العودة إليها”[3] والتي أفضت في النهاية إلى حذف المثلية الجنسية من قائمة الاضطرابات الجنسية بعد عشرين سنة.
تجديد الخطاب الديني
كان رجال الدين عقبة صلبة أمام المثليين، مما دفعهم إلى البحث عن قساوسة “مستنيرين” يتقبلون المثليين في الكنائس والديانة المسيحية، وكان مدخلهم هو اعتبار المثلية الجنسية أقلية كسائر الأقليات العرقية والمضطهدة في المجتمع.
وبالفعل نجحت هذه الخطة، ومنذ أواخر الخمسينيات قرّب القس تيد ماكلفينا (Ted McIlvenna) بين المثليين جنسيًّا والقادة الدينيين في سان فرانسيسكو، واستطاع تجاوز النظرة الدينية التقليدية السائدة والتي كانت تدين المثليين وتحرض على العنف والكراهية ضدهم، لكن هذا القس ضمّ فئة المثليين إلى الفئات المهمشة اجتماعيًّا مثل السود والمجرمين السابقين ونحو ذلك.
بدأت دعوة القس في الانتشار، من كنيسة إلى كنيسة ومن مذهب إلى مذهب، كان الهدف المعلن لهذه الحركة هو إنشاء جسر للحوار بين المثليين والكنيسة، والنتيجة المباشرة هي المناداة بحق المثليين في الكرامة والحقوق المدنية، فالكنيسة لا تفرق بين إنسان وإنسان، والجميع بالنسبة لهذه الدعوة كانوا بشرًا يستحقون معاملة متساوية مهما كانت اختلافاتهم العرقية أو الجنسية.
أنشأ القس منظمة باسم “مجلس الدين والمثلية” (Council on Religion and the Homosexual) بغرض الترويج لهذا المذهب البروتستانتي الجديد: السدومية الآن مقبولة في الإطار المسيحي، وينبغي إزالة كل العوائق والقوانين أمام تعايش المثليين في المجتمع، وبدأت الكنائس في استقبال المثليين لا بهدف تغييرهم وإنما بهدف قبولهم في الدين المسيحي. وصف أحد دعاة هذا التغير الديني الجديد بأنه تحطيم لتابوهات عتيقة، وكان المجلس يعظ رواده المثليين بأن “الحب هو المعيار النهائي والوحيد للسلوك”[4].
وفي عام 1965 اجتمع المجلس مع دائرة الشرطة في المدينة لتنظيم حفل للمثليين. خلال الاجتماع لم يستطع أفراد الشرطة فهم كيف يمكن للقساوسة أن يستضيفوا حفلة للمثليين، رد القساوسة بأنهم يطالبون بالحقوق المدنية لكل أطياف المجتمع، وبأنهم “يريدون لكل إخوانهم وأخواتهم أن يتمتعوا بحقوقهم كافة كمواطنين”.
ومع بداية الحفل كانت الشرطة موجودة بالفعل بالإضافة إلى عشرات المحامين والصحفيين والكاميرات، الجميع كان مرتقبًا لهذا الحفل الفريد من نوعه. وكما هو متوقع اعتقلت الشرطة منظمي الحفل القساوسة دون أيّة مقاومة، وعلى الفور تعرض عمدة المدينة ورئيس الشرطة لهجوم غير مسبوق، لأول مرة كان المواطن العادي يرى انتهاكًا جسيمًا لحقوق قساوسة من الكنيسة فقط لأنهم يدافعون عن المثليين.
كان رأس المال الرمزي لدى القساوسة كبيرًا، واستغلوه في عرض مظالم المثليين. لم يسبق لأي مجموعة من الرجال الذين يرتدون الياقة – أي سلطة أخلاقية من أي نوع – أن دافعت عن قضية المثليين جنسيًّا بهذا الشكل الكبير أمام عامة الناس.
الخروج للشارع: انتفاضة ستونوول
مع الاستمرار في الملاحقات الأمنية، عمل المثليون أخيرًا على المحور الرابع، وخاضوا معارك قضائية طويلة في مجالات مختلفة، وأصبح المحامون المتعاطفون معهم في تزايد مستمر، ولجؤوا كذلك إلى الاحتجاجات الفوق-قانونية، وبحلول عام 1965، دعا ديك ليتش رئيس جمعية ماتاشين إلى الحراك الجماهيري المباشر، ونظمت المجموعة أول مظاهرات مثلية عامة وخطوط اعتصام وعصيان مدني متأثرين بحركة الحقوق المدنية (Civil Rights Movement).
وبلغت ذروة “النضال” المثلي عندما اقتحمت الشرطة بار ستونوول (Stonewall) في نيويورك نهاية يونيو 1969، حيث خرج المثليون تلقائيًّا دون تنظيم للاحتجاج ضد هذا الاقتحام، ويوم وراء يوم تدفقت المزيد من الأعداد واندلعت أعمال عنف واسعة ومواجهات بين الشرطة والمثليين.
مثلت احتجاجات ستونوول نقطة فاصلة في تاريخ الحركة المثلية، إذ إنه منذ تلك اللحظة أصبحت الحركة المثلية أكثر حضورًا وكثافة في الشارع الأمريكي، وفي المؤسسات، وأكثر صراحة في عرض هويتها ومطالبها، وتسارعت عمليات التطبيع مع المثليين على الشاشة، وفي الأدب والمسرح، بالإضافة إلى المسيرات والمظاهرات.
وبالفعل حققت حركة الاحتجاجات أهدافها سريعًا، مدعومة بتحركات المثليين على المحاور الاجتماعية والإعلامية والدينية والعلمية والقانونية. وبعد عام واحد فقط من الانتفاضة، جرت أول مسيرات فخر للمثليين (Gay Prides) في شيكاغو ولوس أنجلوس ونيويورك وسان فرانسيسكو للاحتفال بالذكرى السنوية لمظاهرات ستونوول. وفي غضون بضع سنوات، تأسست منظمات حقوق المثليين في جميع أنحاء الولايات المتحدة والعالم. اليوم ، تقام احتفالات فخر المثليين سنويًّا في شهر يونيو تخليدًا لهذه الذكرى.
الرأسمالية الوردية
منذ نجاح مظاهرات ستونوول، بدأ المثليون في تقوية تمثيلهم الحقوقي والاجتماعي، وبدأت تجمعاتهم تشكل وجودًا بصريًّا ملحوظًا، وظهر محور جديد للحركة المثلية وهو المحور الاقتصادي، وهو ما تجلى مثلًا في مساكن ما سمي بأحياء المثليين، حيث توجهت حركة المثليين لتكثيف وجودهم في أحياء بعينها، وبعدما ازداد الطلب على هذه الأحياء ارتفعت أسعارها بشدة وصارت محل منافسة لتطويرها وتقديم الخدمات لها، ما شكل قوة شرائية ملحوظة لهؤلاء المثليين[5].
ومنذ السبعينيات بدأت وسائل الإعلام الأمريكية في تناول شريحة المثليين كفئة استهلاكية متمايزة عن بقية المجتمع، ومع استمرار نشر البروباجندا وجذب الأتباع والمؤيدين لقضية الحركة وترويج إعلانات خاصة بهم، أتت هذه الجهود ثمارها واستطاعوا فرض وجودهم كشريحة في السوق لا يمكن تجاوزها.
وكان أول نجاح اقتصادي لفئة المثليين ممثلًا في منتصف السبعينيات عندما قامت المغنية الأمريكية أنيتا براينت (Anita Bryant) بنقد “تجنيد المثليين للأطفال” وتلقينهم تعاليم المثلية لأن المثليين لا يمكنهم الإنجاب، فرد المثليون بحملة شرسة ضد المغنية، قاطعوا فيها كل منتجاتها، وشوهوا صورتها عبر المنشورات والأدوات الدعائية المختلفة، كما ألقوا فطيرة على وجهها في أحد لقاءاتها العامة.
ونظرًا لتعدد أدوات المثليين في مواجهة مغنية واحدة، انضم الكثير من النجوم والمؤسسات في صف المثليين، وتحطم المشوار المهني للمغنية، ودخلت في حالة إفلاس وأفكار انتحارية، كما انتهى الحال بزواجها إلى الطلاق. وفي أحد لقاءاتها كتبت بريانت: “هل ألقي اللوم على المثليين؟ نعم، كان هدفهم المعلن هو إخراجي من العمل وتدمير حياتي المهنية، وهذا ما فعلوه. إنه أمر غير عادل”.[6]
منذ تلك اللحظة، تعاظمت القوة الشرائية لجماعة LGBTQ+ منذ التسعينيات فصاعدًا، ووفقًا لمؤسسة Witeck Communications فإن القوة الشرائية للبالغين المثليين والمثليات ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية في الولايات المتحدة وصلت إلى 917 مليار دولار في عام 2015، ما يجعل أي شركة تسعى إلى تطبيع تسويقها مع مجتمع المثليين، لما يمثل ذلك من ربح محتمل على الشركة من جيوب هذه الشريحة.
وهذا ما يدفع كثيرًا من الشركات إلى الاحتفال بشهر الفخر (Pride Month) الذي يحتفل فيه المثليون في ذكرى مظاهرات ستونوول، فقد فرض المثليون من خلال حركتهم ونشاطهم واقعًا لا يمكن لمؤسسة أمريكية تجاوزه.
المصادر
[1] The Gay Revolution.
[2] ميشيل فوكو، تاريخ الجنسانية.
[3] Dr. Judd Marmor, quoted in Shenitz, “The Grande Dame of Gay Liberation.”
[4] “Clergy Shatter Taboo,” Christian Century, December 23, 1964.
[5] https://www.theguardian.com/cities/2016/jan/13/end-of-gaytrification-cities-lgbt-communities-gentrification-gay-villages
[6] Alexandra Chasin, Selling Out: The Gay and Lesbian Movement Goes to Market.
تعليقات علي هذا المقال