في البداية إن طرح قضية الإصلاح الديني ونقد الموروث وتنقيح السنة بات من الأحاديث المتداولة وبكثرة في المجال العام خاصةً تلك التى تُعنى بعلاقة الشريعة بالدولة والمجتمع كي تتلاءم مع متطلبات العصر وقيم الحداثة. وقد بلغتْ تلك الدَّعاوى ذروتها واستمدت شرعيتها السياسية من الحرب العالمية على الإرهاب حيث طرحت نفسَها كطوق نجاة في العالم الإسلامي، لكن اللافت للنظر أن معظم الشباب من ذوي النزعة الإسلامية والتي جذبتهم برامج الحداثيين العرب اتجهوا للقراءة في الموروث الفلسفي الغربي بدلًا من الإكمال في المسار ذاته.
مما قد يطرح تساؤلاً: من أين اكتسب هؤلاء الشباب تلك الاهتمامات؟ ومدى تأثر ما تم طرحه عربيًا من المشاريع الحداثية بكتب الاستشراق وحالة الاستلاب المعرفي التي نقلت القارئ من الموروث الإسلامي إلى الموروث الفلسفي الغربي.
المستشرقون وعلم الفيلولوجيا
يبدو ملموسًا أن المزاج العام لاهتمامات المستشرقين يميل لعدم المشاركة الموضوعية المباشرة في العلوم الإسلامية، ولكن يستحوذ على اهتمامهم دراسة تاريخ العلم نفسه بعكس طالب العلم الشرعي الذي يغلب عليه الاستغراق في المحور الموضوعي لمسائل العلم فيَدرس ويحلِّل مسائل العلم، ويستعرض مفهومها والخلاف حولها، وأدلة كل فريق وأدوات الترجيح وغيرها من أدوات العلم الشرعي، بينما لا يتجاوز المحور الموضوعي بالنسبة للمستشرق مجرد أدوات المثقف العام، فعمدوا إلى ما قد يمكِّنهم من إعادة صياغة العلوم الإسلامية بالمناهج الإنسانية الحديثة.
وهذا بالطبع لا يعني أن المعْنيين بتاريخ العلم لا يطرحون رؤية في موضوعات العلم، بل إنهم يطرحون ولكن بشكل غير مباشر، وذلك من خلال دور المُقيِّم، فالتقييمات المتناثرة التي يضخها مؤرخ العلم بين ثنايا روايته تتضمن رفعًا لمدارس ومناهج ووضعًا لأخرى، مما يتشربه القارئ وتتغير من خلاله اتجاهاته ونمط تفكيره لأن القارئ عادةً ما يكون أقل احتراسًا وممانعة تجاه الرسائل غير المباشرة.
وينقل لنا الكاتب اعتماد المستشرقين في أدوات التحليل للتراث على علم الفيلولوجيا، هذا العلم الذي بزغ نجمه في القرن التاسع عشر في الفكر الغربي. والفيلولوجيا تعني: عِلم التحليل الثقافي للنصوص اللغوية المبكرة؛ حيث تقوم أساسًا على دراسة النصوص المكتوبة والمبكرة، وتحقيق نَسَبها، وتحليل محتواها الثقافي والحضاري، واستكشاف علاقتها بما سبقها من نصوص.
ويتساءل المؤلف عن السبب الذي جعل المستشرقين منكبين على أداة الفيلولوجية في دراسة الشرق، وهل هي أداة كافية للفهم والتحليل أم أن الاكتفاء بتلك الأداة راجع إلى ضيق الوقت حيث يتطلب منه التفرغ لدراسة لغة جديدة ودراسة المخطوطات ما يستغرق وقتًا وجهدًا شاقًا، لذا اكتفوا بالفيلولوجيا، لكونهم لا يستطيعون أن يُلموا بكل تلك العلوم والمواد المطلوبة لدراسة التراث الإسلامي.
التوفيد والتسييس
انتهت قراءة أغلب المستشرقين ومن خلفهم الحداثيون العرب إلى تقنيتين في قراءة التراث الإسلامي، أولاً: تقنية التوفيد، ويُقصد بها إعادة الموروث الثقافي الإسلامي إلى أقرب ثقافة تشريعية وافدة والتي لا يقوم علماء المسلمين إلا بتركيبها وخلطها من جديد.
يقول كارل هينريش: “إن القانون الروماني رُتِّب ونُظم قبل قيام محمد بدعوته بزمن قليل وأثر من بعده في الشريعة الإسلامية حيث يكون لكل مبدأ من مبادئها ما يؤطرها في القانون الروماني”، ومن تلك النظرة لم يسلم أي جانب من جوانب التراث الإسلامي سواءً تعلق الأمر بأصول الفقه أو حتى أصول المعتقدات.
يقول بروكليمان: “إنما ترجع معتقدات محمد فيما يتعلق بالعالم الآخر إلى مصادر يهودية، وهكذا تتصل بصورة غير مباشرة بمصادر فارسية وبابلية قديمة”، وبينما كان بروكليمان يتجول في شعائر الإسلام ويُرجعها للاقتباس من أهل الكتاب وصل إلى الصوم، ولاحظ اختلاف صوم المسلمين عن صوم المسيحيين، فشعر بورطة، ولم تطاوعه نفسه على أن يعترف على الأقل بأن هذا الصوم شرعه محمد ابتداءً، بل راح يتخيل أن هناك ثقافة سابقة أخذ عنها محمد، حيث يقول: “بينما يكتفى المسيحيون بالامتناع عن أكل اللحم خلال صومهم الكبير نجد أن محمدًا كلَّف أتباعه بالامتناع عن كل ضروب الغذاء ولسنا نعرف حتى الآن ما إذا كان محمد قد اقتبس هذه الفريضة عن إحدى الفرق الغنوصية أم عن المانيين”.
وقد انتقل هذا المأخذ إلى الحداثيين العرب حيث يرى هشام جعيط أن التأثيرات المسيحية على القرآن أهم بكثير من التأثيرات اليهودية، أمَّا أحمد أمين فقد جعل عقيدة السلف في إثبات الصفات الإلهية الاختيارية نظرية مستوردة من اللاهوت اليهودي.
ويبدو أن هذا النمط المتأثر بقراءة الاستشراق أهدر العلوم الأصلية كما أنهم يستبعدون الوحي من كونه مصدرًا لتلك التصورات، بينما لم يقع علماء المسلمين في هذا المأخذ، حيث لم يتجاهلوا علوم الأوائل وعلى العكس من ذلك فإن المستشرقين إذا رأوا في القرآن ما يوجد نظيره في الكتب السماوية جعلوا من ذلك أداة تدين القرآن، وكأَنّ ذلك دليل في صالح فكرتهم، لكن يغيب عنهم أن معظم المشتركات بين الديانات أو حتى الفلسفات كان للنبوات وبقايا الكتب السماوية دورٌ في تشكيلها. وهكذا نظر المستشرقون إلى علوم الإسلام باعتبارها مجرد عربة توصيل كتب، ووظيفة المستشرقين استيقاف هذه العربة، وفرز الكتب، وإرسال كل كتاب لصاحبه بطرود فيلولوجية، لتبقى عربة الإسلام فارغة، ويكتشف الناس حقيقتها.
ثانيًا: تقنية التسييس في الاستشراق: وهو جعل الهدف عند العلماء مدفوعًا بدوافع السلطة وتملقها دون أي اعتبارات أخلاقية أو موضوعية تتعلق أحيانًا بمداراة الحاكم لتحقيق هدف ما بعيدًا عن الاصطدام بالسلطة. فالثقافة في جوهرها عملية سياسية، حيث يكون جل الاهتمام بعلوم الشريعة مجرد رؤية سياسية هدفها وحدة الدولة كما يعتقد الجابري، فجملة ما جاء في الموروث الإسلامي – حسب هذه النظرة – لم يعبر منه إلينا إلا ما وافقت السياسة عليه.
ويكمل عبد الله الشرفي تلك الصورة النمطية لحالة التسييس داخل الموروث الإسلامي فيصف حالة غير العرب من المسلمين قائلاً: “نظروا إلى ما كان من الدين من منزلة في النفوس، فإنهم قد سعوا عن طريق الاشتغال بعلوم الدين إلى اكتساب سلطة معنوية تعوِّضهم عن السلطة التي حُرموا منها”.
هذا وقد وصلت حالة التسييس في تأويل التراث حد الهزل أحيانًا، فيذكر المؤلف أن نصر حامد أبو زيد قدَّم بحثًا للترقية بعنوان “الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجيا الوسطية”، ادعى فيه أن الشافعي يقوم بمهمة سياسية من أجل بني أمية، برغم أن دولة بني أمية كانت قد انتهت أصلاً بمقتل آخر خلفائهم مروان الحمار عام (132هـ) قبل ولادة الشافعي عام (150هـ)، وقد كتب كثير من الأساتذة حينها سخرية وتهكمًا من هذه الأطروحة التي لم تتنبه لأبجديات تاريخية، فماذا صنع نصر أبو زيد؟ طبع الكتاب وادعى في مقدمته أن هناك خطأ طباعيًا في كلمة الأمويين، وأنه كان يريد أن يكتب العلويين.
الشريعة كمرادف للعلمانية
أمثلة التأويلات وإسقاط البُعد السياسي على قراءة التراث كثيرة، والذي أوقعهم في التناقض بين ما يقومون به أنفسهم وما يطالبون به أئمة السلف من مثاليات أخلاقية لا تمت للواقع السياسي بصلة. الجابري على سبيل المثال يُعد مهندس العلاقات بين الملك وحزب الاتحاد الاشتراكي يكتب سلسلة مقالات عن الديمقراطية في المغرب، ويقول: “إن الملك يتمتع بشرعية تاريخية لا ينازعه فيها أحد”، مع أنه في نقد العقل السياسي العربي أكد أن بداية التغيير يجب أن تنطلق من رفض الأمر الواقع. فهل يصوغ للجابري تلك المداراة في صالح الحزب، ويحرم أئمة السلف ذلك لصالح الشريعة؟!
هذا ولم تسلم عملية تأويل التراث من النوايا والمآرب السياسية، فمنهم من رأى أن أفضل طريقة لمواجهة واكتساح الصحوة الإسلامية هي مواجهتها من داخل التراث نفسه بزعزعة السلطات الشرعية التي تحكم العقل العربي مما يعني أن أغلب ما وقع من إعادة تأويل للتراث يقع تحت طائلة القراءة التوظيفية الاستغلالية لا القراءة العلمية، وأنه خلاف تكتيكي مفاده: هل نطرح العلمانية بصورة مباشرة ونفصل الشريعة بكاملها أم نقرر تحكيم الشريعة ونعيد صياغتها بحيث نجعلها عمليًا موافقة للنتائج العلمانية؟
إن الإنصاف والموضوعية البحثية يقتضيان أن نعترف أن المستشرقين كانوا أكثر دأبًا وجَلَدًا في جمع المعلومات وتتبع المخطوطات من الحداثيين العرب، بل لا نسبة بينهما، وخصوصًا قدامى المستشرقين، إلا أننا نؤكد أيضًا أن هذا يجب ألا يقود الباحث الحداثي إلى الإطراق برأسه والانكسار والإذعان أمام المستشرقين، بل كان يتحتم عليه أن يضيف أدواته الخاصة وقراءاته المستقلة والمشبَّعة بالموروث الإسلامي وبأدوات أكثر دقة.
وختامًا، يُعيد الكاتب علينا السؤال من جديد: “هل المسلك الذي سلكه الحداثيون العرب في إعادة تأويل التراث تم بطريقة علمية مستمدة من علوم التراث وبطريقه معرفية تراكمية أم أنه جاء متأثرًا برافد خارج عنها؟”.
المصادر
[1] مراجعة لكتاب التأويل الحداثي للتراث – التقنيات والاستمدادات، إبراهيم السكران.
تعليقات علي هذا المقال