تتعدد التفسيرات التي تحاول فهم الحرب الدائرة اليوم ودوافعها على الأرض الأوكرانية بين روسيا من جهة وأوكرانيا ومن ورائها القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة من جهة أخرى. وتعد الأوراسية أحد تلك المفاتيح فى فهم وتفسير الصراع بل تعتبر مهمة في فهم الواقع والسياسة الروسية الحالية فى العموم وكثير من التداخلات والصراعات الإقليمية والدولية.
وللأوراسية تعريفات عديدة وذلك لأنها مصطلح ومشروع جيوسياسي يحمل أبعادًا فلسفية سياسية ورؤية عالمية تسعى إلى فهم العالم بأسره، فهي فلسفة تكامل أراض ما بعد الاتحاد السوفيتي، وهي أيضًا مجموعة العقبات الطبيعية والمصطنعة والموضوعية والذاتية على طريق العولمة أحادية القطب، وفكرتها الأساسية تقوم على مراجعة للتاريخ السياسي والإيديولوجي والديني والعرقي للبشرية مقدمة نظامًا جديدًا لكي تتغلب على الكليشيهات القياسية التي يزعمها أو يحاول فرضها الغربيون.
الأوراسية الكلاسيكية والجديدة
ظهرت الأوراسية قبل قرن وأكثر من الآن كتيار اجتماعي سياسي يدافع عن الثقافة الروسية باعتبارها ظاهرة غير أوروبية، إنما هي مزيج من السمات الشرقية والغربية ولا يمكن اختزالها إلى الشرق أو الغرب، فالدولة والحضارة والثقافة فى روسيا تشكلت من مكونات وتجارب الشعوب الأوروبية والآسيوية معًا، نتيجة الهجرات والدول التي نشأت فيها والشعوب التي اختلطوا بها من الأوربيين والآسيويين، وبالتالي فهي تحتل مركزًا وسطًا بينهم وبين حضارات العالم وتحمل سمات فريدة تحتم عليها الوقوف ضد هيمنة الحضارة الغربية بقيمها ومبادئها، ليس فقط مدافعة عن نفسها بل من أجل الدفاع عن حضارات الآخرين.
على إثر ضعف الاتحاد السوفيتي وتفككه وفقدان المجتمع لتماسكه وظهور الصراعات بين تياراته ثم سيطرة الديمقراطية الليبرالية خلال عقد التسعينيات والتي عملت على تفكيك الدولة ظهرت معارضة معادية للغرب من بينها الأوراسية الجديدة، عاد التيار إلى الظهور مرة أخرى في ثمانينيات القرن الماضي ليتبنى تصورات الأوراسية الكلاسيكية ويضيف إليها تصورات جديدة ويصبح من التيارات الرئيسية في الوعي الروسي، ما بعد الاتحاد السوفيتي، ليمر بعد ذلك بمراحل تشكُّل على مستوى الحركة والتنظير.
في فلسفة الأوراسية
تستند الأوراسية في فلسفتها على التحليل البنيوي والحضارة هي موضوعها الأساسي والبنيوية هي أداة للتحليل تقوم على أفكار أهمها الكلية والشمولية، وفي حالة التحليل الأوراسي معناها أنها تنظر إلي الحضارة كبنية كلية أكبر من مجموع أجزائها، وثمة حضارات مختلفة ولكل حضارة بنيتها التي تحدد خصائصها وتعطيها معناها وتماسكها ويجب دراستها، كلّ على حدة وفقًا لمعاييرها الخاصة، وبالتالي هنا تتناقض في الرؤية والتحليل مع العالمية الغربية والإمبريالية الثقافية وأطروحات صدام الحضارات ونهاية التاريخ التي ينزع إليها الغربيون، والتي تنفي معها خصوصيات الشعوب والحضارات، وتقلل من مكانتهم ومنجزاتهم. وعلى هذا التحليل البنيوي قدم الأوراسيون فلسفتهم السياسية القائمة على تعدد الحضارات ومعاداة الحداثة الغربية وعلى أساس بنية خاصة لروسيا، بقيم ومعتقدات مميزة يجب الدفاع عنها وحمايتها ضد الغرب والحداثة الليبرالية.
ومن هنا رفضوا منظور ونمط التنمية العالمي فتعدد المناظر الطبيعية على الأرض ينتج تعدد الثقافات وكل ثقافة لها دورتها وتستطيع أن تطور أشكالها الوطنية والأخلاقية والقانونية والطقوسية والاقتصادية والسياسية الخاصة، ولا يحق لأي دولة أو منطقة أن تدعي أنها المعيار للبقية فلكل نمطه الخاص ويستحق أن يفهم وفق معاييره.
وتدعو الأوراسية إلي الفلسفة التقليدية فى مواجهة الانحلال للعالم الحديث والمحافظة على القديم والروحاني، وإلى التمسك بأصول القداسة بالبحث في الوعي القديم وتصوراته باعتباره مظهرًا نموذجيا تكمن جذور الثقافة بالإضافة إلى البحث وراء النماذج الرمزية الكامنة في اللغات والطقوس والرموز والأسطورة والفلكلور وهو ما يسمح بإعادة بناء مفهوم القداسة الذي دمرته الحداثة.
الرؤية الأوراسية للعالم
تحتوى الأوراسية على جناحين أو شقين كبيرين: الأول الجناح الفلسفي والثاني الجيوسياسي، يقدمون فيه رؤية للعالم بديلة عن العولمة أحادية القطب والتي غدت الدولة القومية فيها اليوم بفعل النظام الاقتصادي السائد دولة عالمية ذات اتجاه واحد نحو وجهة النظر الغربية بقيادة الولايات المتحدة والتي غالبًا ما ترتبط بالقمع والعنف في فرض هيمنتها، ويجادل أنصارها بغياب البديل عن هذا النموذج الأطلسي الغربي، بينما يقدم الأوراسيون بديلًا تقوم فكرته الأساسية على عولمة متعددة الأقطاب أو العولمة البديلة.
تقترح الفكرة الأوراسية أن الكوكب يتكون من مجموعة من مساحات المعيشة المستقلة والمفتوحة جزئيًّا على بعضها البعض وهي ليست دولًا قومية، بل هي تحالف دول أعيد تنظيمها في اتحادات قارية أو إمبراطوريات ديمقراطية تتمتع بدرجة من الحكم الذاتي المحلي، وكل مجال من هذه المساحات متعدد الأقطاب ويشمل نظامًا معقدًا من العوامل العرقية والثقافية والدينية والإدارية، وبهذا المعني تصبح الأوراسية مفتوحة للجميع بغض النظر عن الجنسية والميلاد وتوفر فرص لاختيارات بديلة عن نظام القيم الواحد.
تفترض هذه الرؤية تقسيم العالم إلي أربع مساحات أو أحزمة جغرافية عمودية أو مناطق خط الطول من الشمال إلي الجنوب، وهذه المساحات هي القارتان الأمريكيتان وتشكل المساحة الأولى حيث تسيطر عليها الولايات المتحدة الأمريكية في إطار مبدأ مونرو وهو المبدأ الذي نادى بضمان استقلال الجانب الغربي من الكرة الأرضية ضد التدخل الأوروبي قبل الصعود الأمريكي، والمساحة الثانية تشمل الاتحاد الأوروبي وأفريقيا العربية الإسلامية وأفريقيا جنوب الصحراء ويسيطر عليها الاتحاد الأوروبي، والثالثة المنطقة الأوراسية وتشمل روسيا والهند والصين ودول الإسلام القاري ورابطة الدول المستقلة، والرابعة منطقة المحيط الهادي وتشمل الهند الصينية ودول شرق آسيا واليابان وأستراليا ونيوزيلندا. وداخل هذه الأحزمة يجري إنشاء مناطق تنموية وممرات للنمو، وبهذا التنظيم الجديد ستصبح الحروب والنزاعات أقل احتمالًا فى العالم.
الحركة الأوراسية الدولية
في عام 2003 أعلِن عن تأسيس الحركة الأوراسية الدولية يقودها ألكسندر دوغين[1] لتتحول إلى حزب دولي وينضم إليها العديد من الأفراد والقادة السياسيين والدينيين حول العالم، وتطور هياكل تنظيمية في العديد من الدول والقارات منذ ذلك الوقت حتى الآن، وتعمل على تنظيم المؤتمرات والأنشطة والمنتديات وجلسات النادي الاقتصادي الأوروبي الآسيوي.
يدعو الأوراسيون إلى الحوار الثقافي العالمي الذي تكون فيه المنطقة الأوراسية ملتقى باعتبارها ثنائية القطب، فهي تتألف من أوروبا وآسيا من الشرق والغرب وولدت أشكالًا اجتماعية وروحية وسياسية مختلفة، حيث عبرت خلالها العديد من الحضارات من الشرق إلى الغرب والعكس، لذلك فهي تعد مقياسًا جيدًا يمكننا من خلاله قياس المفاهيم الجديرة بالاهتمام وفهم طبيعة الشرق والغرب والتقدم والتقاليد والولاء للماضي والمستقبل.
النظرية السياسية الرابعة
قدم ألكسندر دوغين النظرية السياسية الرابعة فى إطار تعزيز الأفكار والمشروع الأوراسي، وهي خليط من فلسفات صوفية واشتراكية وفاشية، وذلك لتحل بديلًا للأنظمة التي سادت فى القرن الأخير والتي باءت بالفشل سواء كانت ليبرالية أو شيوعية أو فاشية، ولتشغل الفراغ التاريخي في مقاومة القطبية الأمريكية والنزعة المركزية الغربية.
لقد انتصرت الليبرالية على أعدائها السياسيين سواء الفاشية أو الشيوعية فخلت الساحة الدولية العالمية من الإيدولوجيا وانهارت السياسة، فالليبرالية بانتصارها وتفردها انتقلت من مستوى طرح الأفكار والبرامج السياسية إلى الواقع مخترقة الأنسجة الاجتماعية فلم تعد إيديولوجيا لعدم وجود منافس، فكان لا بد من ظهور بديل في صورة نظرية جديدة فكانت النظرية السياسية الرابعة.
جوهر النظرية نقد الليبرالية ونزعاتها الاستهلاكية والفردية، ويدعو فيها إلى إعادة التفكير في الماضي المفقود في الدين وفي التقاليد إذ لم تكن النظريتان الثانية والثالثة أي الشيوعية والفاشية والتي خرجت في مواجهة الليبرالية مناسبتين لأنهما انطلقتا من روح الحداثة، لذلك لم يكتب لهما النجاح غير أنه يمكن الاستفادة من جوانبهما الإيجابية وإعادة النظر فيهما في ضوء النظرية الرابعة.
تعقيب
ما بين الشق الجوسياسي والسياسي الفلسفي للأطروحة يكمن تناقض واضح، وكذلك ما بين التنظير وأرض الواقع إذا استندنا إلى أن الأوراسية محرك مهم في السياسة الروسية الحالية، فبينما الطرح الفلسفي السياسي ينطلق من خصوصيات الشعوب والحضارات ويدعو إلى احترامها وحماية التقاليد والدفاع عنها يقسم الشق الجيوسياسي العالم إلى مناطق نفوذ يطمس معه حضارات سبقت حضارة الروس أنفسهم، ويقسم فيها البلاد العربية والإسلامية وحضارات أخرى بين مناطق النفوذ المختلفة المقترحة ولروسيا منها نصيب، وهنا يكمن وجه جديد للإمبريالية والاستعمار. وعلى أرض الواقع شاركت روسيا في قمع ثورات الشعوب العربية والتي قامت في مواجهة الأنظمة الموالية للغرب ففقدت كثيرًا من مصداقيتها.
وأخيرًا فيما يخص واقعنا العربي والإسلامي يجب الاستفادة من الطرح من الناحية النظرية لما يحمله من تكامل ورؤية واقعية واسعة وشاملة، يجيب فيه أصحابه عن أسئلة كبيرة وكثيرة بشكل تفصيلي، ليساعدنا في بناء مشروع نواجه به التفكك والتشرذم الذي نعيشه. كما يجب الاهتمام به بحكم الواقع وتأثرنا بقرب الجغرافيا وأيضًا لاشتراكنا مع بعض الطرح والفائدة العائدة علينا مثل رفض الهيمنة الغربية والاعتزاز بالتقاليد والقيم.
المصادر
[1] ألكسندر دوغين هو فيلسوف سوفيتي روسي وعالم سياسي وعالم اجتماع ومترجم وشخصية عامة وأستاذ جامعي ومقرب من الرئيس الروسي بوتن وهو أيضا زعيم الحركة الأوراسية الدولية، وله العديد من المؤلفات مثل النظرية السياسية الرابعة ومستقبل روسيا الجيوبولتيكي والخلاص من الغرب.
تعليقات علي هذا المقال