تأسست العديد من الدول والدويلات الإسلامية، وقد أنصف التّاريخ ذكر بعضها، وبالمقابل هناك بعض الدول التي كان لها دور كبير وخدمات جليلة في نشر الإسلام وحماية المسلمين؛ لكن التّاريخ لم يُنصفها كما يجب، ومن هذه الدول دولة المرابطين التي أنجبت العديد من القادة، أمثال: عبد الله بن ياسين، ويوسف بن تاشفين، وغيرهم، حيث كان للمرابطين دور عظيم في إعادة الهيبة للمسلمين في الأندلس بعد أن ساءت الأوضاع فيها أيامَ عهدِ ملوكِ الطّوائف، بعد أن تناحروا فيما بينهم، وبدؤوا بالصّراع، واستنجدوا بالنّصارى ضدَّ بعضهم البعض، فكانوا يدفعون لهم من بيت مال المسلمين الجزيةَ وهم صاغرون، إلى أن استنجدوا بالمرابطين الذّين لبُّوا نداء الأخوّة، وتوجهوا إلى الأندلس، وألّفوا بين قلوب المسلمين، ووحدوهم، وانتصروا على النّصارى في معركة الزلّاقة في عام 1086م ودحروهم، وأجّلوا سقوط دولة المسلمين في الأندلس بشكل عام نحو 400 سنة حيث سقطت غرناطة بيد النصارى في عام 1492.
الأندلس قبل المرابطين
تمكن المسلمون في زمن الدولة الأموية من عبور البحر المتوسط والوصول إلى الأندلس، وفتحها على يد طارقِ بْنِ زيادٍ[1] في معركة وادي لكة[2] في عام 711، واستمر وجود المسلمين في الأندلس قرابة 800 عام حيث خرجوا منها في عام 1492، وتعاقب على حكم الأندلس العديد من الدول الإسلامية.
عندما أصبحت بلاد الأندلس تحت حكم ملوك الطوائف ساءت أحوال البلاد والعباد، بسبب تفكك الدولة، وتوزع الحكم بين العديد من الملوك الذين لم يكونوا على قدر المسؤولية التي حملوها، وكانت هذه الدول الصغيرة متخاصمة متنابذة فيما بينها، لا تربطها صلة، ولا تجمع مصلحتها كلمة، عُرفت بدول الطوائف، وتسمى كل واحد منهم بألقاب مختلفة كالمقتدر والمعتمد وغير ذلك”.[3]
لقد أصبحت بلاد الأندلس ضعيفة، ومقسمة إلى عدة دويلات ضعيفة ولا تملك أي نوع من القوّة بل كانت عرضة للغارات الفرنجية، والسبب الأساسي يعود إلى التناحر والصراع الدائر بين ملوك الطوائف الذين وصل بهم الأمر إلى الاستنجاد بالنصارى ضد بعضهم البعض، مما أدى إلى سقوط الكثير من الإمارات الإسلامية بيد النصارى، بل وصل الأمر إلى حد دفع المسلمين الجزية للنصارى الذّين أصبحوا يتحكمون بشؤون المسلمين كما يريدون، وكان أثر تلك الأحداث والأوضاع ينعكس سلباً على المسلمين الذين يقطنون الأندلس، فبعد أن كانوا هم الطرف الأقوى، وباستطاعتهم تسيير الأحداث كما يريدون، أصبحوا هم الضعفاء الذين يدفعون الجزية للنصارى، ولا يستطيع ملوكهم حمايتهم فساءت أوضاعهم الاقتصادية، والاجتماعية، والعلمية؛ فأصبحوا عاطلين عن العمل، ولم يعد لديهم الوقت الكافي للاهتمام بالعلم كما كان جارياً قبل ذلك.
الاستنجاد بالمرابطين
بدأ الضعف والفرقة يستشريان في جسد الأمة الإسلامية في الأندلس؛ بسبب تفرق كلمة المسلمين هناك، وتصارع ملوك الطّوائف فيما بينهم، واستنجاد بعضهم بالنصارى ضد إخوانهم المسلمين، ودفعهم الجزية للنّصارى، فطمع هؤلاء النصارى بالمزيد من المكاسب فبدؤوا بمهاجمة المدن الإسلامية التي تهاوت بأيديهم الواحدة تلو الأخرى، وقاموا بارتكاب أبشع أنواع المجازر بحق المسلمين من قتل وتهجير ودمار وحرمان من ممارسة الشعائر الدينية.
في ظل هذه الظروف الصعبة التي تمر بها مدن المسلمين في الأندلس، بدأت اجتماعات العلماء؛ من أجل إيجاد مخرج لهذه الأزمة واستطاعوا تكوين رأي موحد يمثل متطلبات المسلمين، واستجاب ملوك الطوائف لرأيهم، وفي مقدمتهم المعتمد بن عباد[4] صاحب النفوذ الأكبر من غيره في الأندلس كما أنه كان يدفع الضرائب لألفونسو السادس[5]، لكن ألفونسو بدأ يهدده بالسير إلى مدينة قرطبة[6] واحتلالها إنْ لم يسلمه جميع الحصون التي في الجبل على أن يبقى المسلمون في السهل.[7]
بعد هذا الإلحاح الكبير من ألفونسو وشعور ملوك الطوائف بأنهم سيفقدون كل مدنهم، قرروا أن يجتمعوا ويتشاورا فيما بينهم مدركين أن الأندلس بهذا الضعف ليس لديها القدرة على صد الهجمات الصليبيّة، وهنا ظهرت فكرة الاستنجاد بالمرابطين من قبل المعتمد الذي قال لابنه: إن أمراء الأندلس لا خير فيهم، ويجب ألا نرجو منهم نصرة، إذا هاجمنا العدو، وقرر غزو بلادنا، وإن هاجمنا بطليطلة[8] لن يتركنا حتى يقوم بأخذ إشبيلية منا.[9]
عندما قرر المعتمد الاستنجاد بالمرابطين لتخليص الأندلس من الحال التي فيها، تعالت بعض الأصوات التي تعارض هذا القرار الذي حذر أمراء الأندلس من أهل المغرب خوفاً من طمعهم بخيرات الأندلس، لكن المعتمد كان مدركاً تماماً لأبعاد القضية وقال مقولته الشهيرة: “رعي الجمال خير من رعي الخنازير” ومقصده من ذلك أنه من الأفضل له أن يكون راعياً للجمال تحت إمرة يوسف بن تاشفين من أن يكون أسيراً يرعى خنازير قشتالة.[10]
هذا وقد استبشر الناس خيراً عندما علموا أنه سيتم الاستعانة بالمرابطين لتخليصهم من الضعف والهوان الذي هم فيه؛ لأنهم أدركوا أنه لا مخلّص لهم من ذلك سوى المرابطين.
معركة الزلاقة وانتصار المسلمين[11]
في ظلّ الظروف الصعبة التي تمر بها الأندلس وقيام حكامها بطلب المساعدة والعون من المرابطين، قرر يوسف بن تاشفين تجهيز الجيش للعبور إليها لمساعدة المسلمين هناك؛ لأنه رأى أنه من حقّهم ومن واجبه الدفاع عنهم؛ باعتباره ولي أمر المسلمين.
بدأ القائد يوسف بن تاشفين يعد العدة للعبور، ودعا ربه أن ييسر له عبور هذا الجيش الذي كانت غايته الأساسية مساعدة المسلمين في الأندلس، وعند وصول المرابطين إلى الأندلس كان الأتقياء هناك ينتظرون منذ زمن من يخلصهم من الحالة السيئة التي يعيشونها، فأحسنوا استقبال المرابطين، وأكرموهم، وبدأ العلماء يدعون إلى التزام الجميع بتعاليم الدين الإسلامي.
أدرك يوسف بن تاشفين أنه لا بد من خوض معركة حاسمة ضد الفرنجة، يستطيع من خلالها هزيمتهم وتفريق شملهم، فبدأ التجهيز الفعلي لهذه المعركة التي طال انتظارها، وانضمت قوات المعتمد بن عباد إلى قوات المرابطين.
“قام الأمير يوسف بن تاشفين بتوزيع الأدوار على القادة فأصبح المعتمد هو القائد العامّ لقوات الأندلس، وبدأ الجيش بالتحرك ووصل إلى مدينة بطليوس[12] فاستقبلهم المتوكل بن الأفطس[13] وقدَّم لهم المؤن اللازمة للجيش، وتابع الجيش مسيره إلى أن وصل إلى سهل الزلاقة [14].
حقّق الله للمسلمين في سهل الزلاقة معجزة استطاعت توحيد ملوك الطوائف، حيث أن يوسف بن تاشفين تعاهد معهم على أن يكونوا يداً واحدةً، وحصل بن تاشفين على ثقة الجميع بفضل سياسته الحكيمة.
أما بالنسبة لتعداد جيش المسلمين فقد اختلفت الروايات وأصبح من الصعب معرفة العدد الحقيقي، لكن أغلب المصادر رجحت أن يكون العدد هو أربعة وعشرين ألفاً من أهل الأندلس ومن المرابطين العدد نفسه، وأما بالنسبة لعدد جنود النصارى فكان أكثر من عدد المسلمين حيث بلغ حوالي ثمانين ألف فارساً.[15]
عندما وصلت أخبار عبور المسلمين إلى مسامع ألفونسو وهو يحاصر سرقسطة[16] بدأ على الفور برفع الحصار ليتفرغ لمواجهة المسلمين وبدأ بتجميع جيوش النصارى[17]، وبعد أن استطاع جيوشه توجه نحو سهل الزلاقة مدركاً أنه إذا انتصر في هذه المعركة فلن تقوم قائمة للمسلمين بعدها.
بدأت الاستعدادات النفسية عند الجيشين قبل بداية المعركة، ومن مظاهر هذه الاستعدادات؛ الحثّ على الصبر والثبات، والتحريض على القتال، حيث إن المسلمين يدافعون عن وجود دينهم وعندهم الرغبة في تخليص إخوانهم من الظلم والقتل والتهجير، أما النصارى فقد رفعوا شعار استرداد بلدانهم من أيدي المسلمين فضلاً عن رغبتهم بالظّفر بالغنائم بعد تحقيق النّصر.
اشتبك الجيشان في ميدان المعركة في صراع عنيف ومعركة من أعتى المعارك في التاريخ واستطاع النّصارى في البداية من تحقيق بعض الانتصارات؛ نتيجة تفوقهم بالعدد والعتاد وبدأ المسلمون يتقهقرون، لكنّ المسلمين استطاعوا بالخطة التي رسمها ابن تاشفين من أن يقلبوا المعايير لصالحهم، وتحقق لهم النّصر العظيم الذي رفع معنوياتهم.
بعد نهاية معركة الزلاقة وهروب النّصارى؛ بقي المسلمون في ميدان المعركة حتّى الصّباح، وصلوا الفجر وسط هذه المقتلة التي استطاع المسلمون من خلالها قتل أغلب قادة النّصارى وأسر الكثير من جنودهم.[18]
لقد حقق المسلمون في هذه المعركة نصراً عظيماً، كان من نتائجه توحيد كلمة المسلمين، وإعادة الهيبة لهم، فلم يعودوا تلك اللقمة السائغة للنصارى الذين هُزموا هزيمة ساحقة، وكُسرت شوكتهم، ولم يعد بإمكانهم مجرد التفكير بمهاجمة ديار المسلمين، والفضل بذلك يعود لدولة المرابطين التي لم تهدأ ويهنأ لها بال إلا بعد أن تمكنت من إعادة الأوضاع في الأندلس إلى نصابها.
المصادر
[1] – هو طارق بن زياد البربري، دخل الإسلام على يد قائده موسى بن نصير، وقام بفتح الأندلس في أيام الدولة الأموية. الزركلي، الأعلام، 3/217.
[2] – يوجد في أرض الجزيرة الخضراء في الأندلس، قامت فيه معركة من أقوى معارك التاريخ، وانتصر فيها المسلمون على القوط الغربيين. أبو عبد الله الحميري، الروض المعطار في خبر الأقطار، 1/605.
[3] – أبو العباس أحمد بن طاهر الداني الأندلسي، الإيماء إلى أطراف أحاديث كتاب الموطأ، تح أبو عبد الباري رضا، ط1، مكتبة المعارف، الرياض، 2003م، 1/31.
[4] – هو المعتمد على الله أبو القاسم محمد، صاحب قرطبة وإشبيلية وما حولهما من بلاد الأندلس، ابن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، 5/21.
[5] – “هو ملك قشتالة والابن الثاني للملك فرناندو الأول”. الزركلي، الأعلام، 5/60.
[6] – هي مدينة عظيمة بالأندلس، وكانت حاضرة العلم وقاطبة العلماء. ياقوت الحموي، معجم البلدان، 4/324.
[7] – ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 8/138؛ الذهبي، سير الأعلام، 19/58.
[8] – من أهم مدن الأندلس، فيها الخيرات الكثيرة، وكانت محط أطماع الإفرنج لغناها وموقعها المهم. ياقوت الحموي، معجم البلدان، 4/39.
[9] – ابن الخطيب، الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية، مطبعة التقدم الإسلامية، 2017م، 52.
[10] – ابن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان،7/115.
[11] – هي أرض بالأندلس، في مكان قريب من قرطبة. ياقوت الحموي، معجم البلدان، 3/146.
[12] – مدينة كبيرة بالأندلس. ياقوت الحموي، معجم البلدان، 1/447.
[13] – هو عمر بن محمد المظفر، كان ملكاً له سمعته، اهتم بالعلم والعلماء. أبو المكارم؛ أسعد بن مهذب بين مينا، لطائف الذخيرة وطرائف الجزيرة، المكتبة الشاملة، https://shamela.ws/book/5392، 1/61.
[14] – محمد عبد الله عنان، دولة الإسلام في الأندلس،321.
[15] – ابن الخطيب، الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية، 56.
[16] – هي بلدة مشهورة بالأندلس، وتشرف على أهم الأنهار في تلك المنطقة. ياقوت الحموي، معجم البلدان، 3/212.
[17] – ابن أبي زرع، الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، 94.
[18] – ابن أبي زرع، المرجع السابق، 96.
تعليقات علي هذا المقال