ما هو علم النفس
يقودنا السؤال البديهي إلي إجابته بنفسه، فببساطة هو العلم المختص بدراسة النفس، إلا أن هذا التعريف الدائري الذي يحيل إلي نفسه مرة أخرى، وضع علم النفس أمام إشكاليات جذرية منذ تأسيسه، فما هي النفس؟
لفظة “سيكولوجية” في اللغات الأوروبية أقرب في معناها بالعربية إلى “علم الروح” منه إلي “علم النفس”، كان ذلك حري بوضع ذلك المبحث في يد دارسي اللاهوت، وهو ما كان كذلك بالفعل لوقت طويل أو في نطاق الفلسفة، فأحد تعريفات السيكولوجي الأكثر رواجًا أنه علم دراسة العقل.
ما نجده مشتركًا بين الروح والنفس والعقل، هو أنها كلها كيانات أو ظواهر غير مرئية وغير مادية أيضًا، على خلاف العلوم البيولوجية والتي تفتقد العمليات التي يحاول علم النفس رصدها لـ”البصمة المادية”.
فأين يمكن موضعة النفس في الجسد البشري؟ ومن أين ينشأ السلوك؟ من المخ أم البيئة، أم المؤسسات الاجتماعية؟ وكيف تتكون الشخصية؟ بالتربية أم بفعل الشفرة الوراثية؟ في الداخل أم الخارج؟
في العام 1830، وضع الألماني جوستاف فشنر اللبنات الأولى لعلم النفس حين بدأ تجاربه على ما أطلق عليه “السيكوفيزكيس”، أو ما يمكن ترجمته إلى الفيزياء النفسية أو بترجمة حرفية إلي فيزياء الروح.
كانت تلك البداية واعية بالمعضلات التي بيناها في الأعلى، وراغبة في تحرير الروح من علم اللاهوت والفلسفة، وموضعتها بدلًا من ذلك داخل العلوم الطبيعية أو العلوم الصلبة بمنهجها التجريبي.
انطلاقًا من تلك المرجعيات وداخل المعمل، وضع فشنر معادلات تربط بين المتتاليات الحسابية للإحساس بالمتتاليات الهندسية للحافز مستعينًا باللوغاريتمات الرياضية، فاتحًا طريقًا واسعًا أمام السيكومترية ،أي علم القياس الرياضي للظواهر النفسية، وإلى اليوم يقضي طلاب علم النفس في دراسة علم الإحصاء أكثر مما يقضيه أقرانهم في أي من فروع العلوم الاجتماعية.
إذن .. ما هو علم النفس
في الحقيقة لا توجد إجابة واحدة، وربما لا توجد إجابة على الإطلاق، فعلى مدى قرنين انقسمت مناهج ونظريات وحقول السيكولوجية إلي مئات الفروع التي تبدو الاختلافات بينها أكثر اتساعًا مما يربطها.
ففي علم النفس العصبي الأقرب إلى العلوم البيولوجية، تجري معظم التجارب في المعامل على الفئران، لفهم طريقة عمل الجهاز العصبي وتأثيره على السلوك والإدراك والشخصية.
وعلى تخومه وبمرجعية داروينية، يبحث علم النفس التطوري في الطرائق التي كيفت بها الطبيعة الوظائف النفسية، ويستطيع علماء النفس التطوريين الادعاء بأن دراسة إحصائية لمتوسطات أعداد البيض في أعشاش نوع بعينه من الطيور في موسم التزاوج، تمكننا من تفسير معدلات الإنجاب للطبقة العاملة في أحد مدن الشمال الإنكليزي.
لكن وعلى الضد من النزعة البيولوجية والمنهج التجريبي الإحصائي، تفرعت مدارس من داخل علم النفس الاجتماعي، ترجع أسئلة السلوك والعواطف والشخصية إلى المؤسسات المجتمعية وآليات السلطة بأنواعها، فضلًا عن اللاوعي والأسطورة والثقافة العامة والصراع الطبقي بحسب مفاهيم ماركسية.
وقادت موجة التحول إلى اللغة في العلوم الاجتماعية منذ الستينيات إلى نظريات ما بعد الحداثية في المجال النفسي، بل وحتى إلى إنكار مفهوم “الشخصية” ورفض القبول به كظاهرة ثابتة، يمكن قياسها لصالح تفسيرات أكثر سيولة لسلوكيات الفرد وبنيتها الاجتماعية المرنة والمتغيرة دائمًا.
أما أسئلة الداخل أم الخارج، والفرد أم الجماعة، والطبيعة أم التطبع، فقد تم أحيانًا رفضها إجمالًا بصفتها ثنائيات خطابية من منتوجات السلطة بمعناها الفوكوي ،وينبغي تفكيكها وزعزعتها كفعل مقاومة.
وبحسب تلك التموضعات الراديكالية برزت مدارس في علم النفس النقدي خلٌصت إلي أن مهمتها الرئيسية وربما الوحيدة هي هدم علم النفس، وذلك على مستويين: رفض المنهج التجريبي لـ”العلم”، وكذا رفض فكرة “النفس”، فلا شيء يحدث في الداخل، حيث إن كل الظواهر اجتماعية بالضرورة، أو تجري في حقل الخطاب حصرًا.
كيف يفيدنا علم النفس
لعل الخارطة الأرخبيلية لتقسيمات المدارس النفسية وفروعها وجزر حقولها البحثية المتناثرة -على ما تثيره من تشتت- قد تكون أكثر خصائصه قوة وشمولًا، فبالإضافة إلى تقاطع أرضية علم النفس مع السوسيولوجيا والسياسة والتعليم، وعلم الجريمة والأبحاث السريرية ،ودراسات الثقافة والقانون والأخلاقيات، والكثير من التخصصات الأكاديمية الأخرى، فإن علم النفس هو علم تطبيقي، أي علم ينخرط بشكل مباشر مع المجتمع.
فهناك علم النفس السريري المعني بتشخيص الاضطرابات النفسية وعلاجها، وعلم النفس الإرشادي الذي يوظف مدى واسعا من نظريات العلاج والتحليل النفسي بغرض تقديم الدعم النفسي الفردي والجماعي، وعلم النفس التعليمي وعلم النفس التنظيمي، المهتمان بدراسة العمليات التعليمية والمؤسسية وتطوير “تدخلات” إجرائية في أماكن الدراسة والعمل لتحسين كفاءتها، وإشباع احتياجات المستفيدين منها والقائمين عليها.
وتطول القائمة لتشمل عشرات من الحقول التطبيقية من علم النفس الرياضي إلى اختصاص اضطرابات اللغة والتخاطب، ولتقييم فعالية علم النفس بالعموم وفي المنطقة العربية على وجه الخصوص، علينا النظر في ثلاثة مستويات من التحليل وهي: النظرية، والعمل البحثي، والجانب التطبيقي.
فعلى الجانب النظري، يظل علم النفس علمًا ذا مركزية غربية يتخذ الرجل الأبيض من الطبقة الوسطى كمعيار ومرجعية لافتراضاته القبلية، وإن قامت المدارس النسوية والماركسية الجديدة بتعرية تلك التحيزات على مستويي الجندر والطبقة، فإن القليل من العمل النظري قد تم بذله لتطوير علم نفس “عربي”، أو على الأقل علم أكثر موائمة للمجتمعات المحلية وثقافتها.
واحد من الأمثلة القليلة على الجهد النظري في ذلك الاتجاه هو كتاب الباحث الأمريكي جاري جريج الصادر بالإنكليزية “الشرق الأوسط: علم نفس ثقافي” (2005)[1]، والذي يستلهم النقد ما بعد الكولونيالي، وبالأخص أفكار إدوارد سعيد لتفكيك ثنائية المجتمعات الفردية (الغربية)، والمجتمعات الجماعية (الشرقية) ويطرح بدلًا منها تنظيرات أكثر حساسية للثقافة والقيم والتعريفات المحلية، وعلى دراية بالتغيرات الجذرية التي طرأت ولا تزال على المجتمعات العربية بتأثير الحداثة ومؤسسات الدولة الوطنية.
وبشكل أقل منهجية، يقدم الدكتور مصطفى حجازي في كتابه الصادر بالعربية “التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور” (2005)[2] محاولة لفهم السلوك الفردي في المنطقة العربية في ظل بنى سياسية واجتماعية قمعية، وبالرغم من إشكالية مفهوم “التخلف” الذي يطرحه الكتاب وميله التأملي، فإنه يظل واحدا من الأمثلة القليلة لطرح تنظيرات لعلم النفس السياسي من أعلى إلى أسفل، أي بقناعة أن الأفراد هم نتاج للمنظومة السياسية والاجتماعية، لا العكس.
أما على المستوى البحثي، فهو المجال الأكثر غزارة نسبيًا وإن ظلت معظم الدراسات الصادرة متعلقة بالحقول العيادية والعلاجية أو التربوية، ففي العقد الأخير ساهمت ثورات الربيع العربي في حلحلة ذلك الوضع، إما بالتوسع في دراسة الأبعاد التحررية للحدث السياسي وتأثيره على الجانب النفسي للأفراد والجماعات، أو بالتعامل مع التبعات المأساوية لمآلات الانتفاضات العربية سواء الحرب الأهلية أو اللجوء والمنفى.
في ذلك السياق نشر كاتب المقال كتابه الصادر بالعربية “فوكو في ميدان التحرير: البنية الخطابية للحشود” (2018)[3] في تطبيق بحثي لعلم النفس الخطابي يسعى لفهم آليات عمل الحشود في الثورة المصرية وديناميكيات الضبط وتفعيل العنف وعلاقات الجندر داخلها، فضلًا عن تأثير ذلك كله على الأفراد المشاركين فيها وفاعليتها السياسية بوجه أشمل.
ومن الناحية التطبيقية، يعد “مركز النديم للعلاج والتأهيل النفسي لضحايا العنف” ومقره القاهرة، نموذجًا ملهمًا لتقاطعات علم النفس مع النشاطية السياسية والعمل الحقوقي.
فالمركز بالإضافة إلى جلسات العلاج والتأهيل النفسي التي يقدمها لضحايا التعذيب والعنف، داوم على نشر تقارير وشهادات وبيانات عامة في إطار مناهضة التعذيب وعنف الدولة، وكذا تقديم الدعم القانوني للضحايا لمحاسبة الجناة، والمطالبة بالتعويضات أمام القضاء المصري.
وفي ذلك لا يؤطر المركز التبعات النفسية للتعذيب باعتبارها مشكلة فردية، بل اختلال مؤسسي يتطلب تدخلات على المستوى الفردي للضحايا، وكذا على المستوى السياسي والقانوني بشكل أوسع، وفي القلب من هذا يكون السعي لاسترداد الحق ومحاسبة الجناة وتغيير البنية المؤسسية، جزءً من رحلة التعافي الفردية.
خاتمة
يشغل علم النفس حيزًا هامشيًا في المجتمعات العربية، وإن بدأت مؤخرًا شرائح من الطبقة الوسطى في حواضر المنطقة في الإقبال على جلسات العلاج والمشورة النفسية، سواء الفردية أو الجماعية.
وبالتوازي، طورت بعض المنظمات الإغاثية ومبادرات المجتمع المدني العاملة في مناطق الحرب واللجوء والتهميش، تدخلات تمزج بين مبادئ العلاج النفسي والفنون البصرية والموسيقى والسيكودراما والأنشطة الجماعية ضمن برامج لإعادة التأهيل الجماعي.
تبقى النظريات السائدة في أقسام علم النفس في الجامعات ومراكز الأبحاث العربية ذات مركزية غربية، وتسقط الكثير من المحاولات المحلية للتنظير في فخ مقياس التقدم/التخلف بمرجعيته الغربية أيضًا.
ومع هذا فإن تراكم الأدبيات النقدية بالعربية في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية الأخرى تتيح تطوير نظريات سيكولوجية من وجهات نظر نسوية وماركسية وما بعد كولونيالية، ما يعيننا على فهم مجتمعاتنا بشكل أكثر عمقًا وتفصيلًا، ومن زوايا نظر جديدة ومتعددة.
في العقد الأخير ما يبدو واعدًا هو الإنتاج البحثي وتنوع مرجعياته، لا في المجالات النفسية فقط، بل في حقول العلوم الاجتماعية الأخرى التي توسعت في تبني مفاهيم العاطفة والانفعال واللاوعي السيكولوجية ضمن حزمة أدواتها البحثية.
المصادر
[1] Greg, G. (2005) The Middle East: A Cultural Psychology. Oxford: Oxford University Press
[2] حجازي، م. (٢٠٠٥) التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.
[3] Lewis, S (2018) Foucault in Tahrir square: Discourse Analysis & The Social construction of Crowd. London: self-pub
تعليقات علي هذا المقال