لماذا يتعاطف البعض مع المجرم أو يلوم الضحية؟
تردد هذا السؤال في عقول كثير منا مؤخرًا وامتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بنقاش يرتبط بشكل أو بآخر بهذا السؤال الذي يحير الكثيرين ويؤدي بالبعض لاتهام الآخرين بالرجعية وانعدام الإنسانية. ولكن الحقيقة أن لهذه الظاهرة جانب إنساني مهم، ولا يمكن فهم مثل هذه الظواهر والتعامل معها بشكل سليم دون فهم طبيعة العقل والنفس البشرية التي تتأثر بالكثير من العوامل ممن حولها، وتصيب أحيانًا وتخطئ في أحيان أخرى.
بالطبع؛ يرجع تردد هذا السؤال مؤخرًا إلى حادث مقتل الطالبة المصرية نيرة أشرف -رحمها الله- في مدينة المنصورة، والذي أثار ردود فعل واسعة بشأن ملابسات الحادث وتداعياته. كما انتشرت أيضًا نقاشات تقليدية اعتدنا على احتدامها في مثل هذه الأحداث، خاصة تلك التي تكون ضحيتها امرأة. لن أتطرق في هذه المقالة للحديث عن جرائم العنف ضد المرأة رغم أهمية هذا الموضوع وضرورة نقاشه، ولكن هدفي من هذا المقال هو أن أحاول الوقوف على جانب من هذه القضية التي ما زالت تثير الجدل، ألا وهو جانب لوم الضحية والتعاطف مع المجرم، ورغم أنني أرى أن لوم الضحية يختلف عن التعاطف مع المجرم، وأن لكل منهما أسباب وآثار مختلفة قد تتقاطع أحيانًا، إلا أنني سأحاول تناول الظاهرتين معًا من خلال التحيزات الإدراكية للإنسان وتعامله مع الصدمات.
لماذا كان الحادث صادمًا؟
في بداية الأمر، يجب أن نتأمل أثر الحوادث الإجرامية الصادمة، كحادث مقتل نيرة، على جموع الناس، ولعل تفاقم الصدمة من هذا الحادث بالتحديد كان نتيجة العديد من الأسباب، أولها انتشار المقاطع التي وثقت هذه الحادث وسهولة الوصول إليه عبر وسائل التواصل الاجتماعي ما قد يؤدي للتعرض غير المباشر للصدمة[1]، فكما أدى تعرض الناس لهذه المشاهد المرعبة بشكل مباشر إلى التعاطف مع الضحية، إلا أنه أدى أيضًا إلى سيطرة فكرة على خيالهم، وهي أن شيئًا كهذا يمكن أن يحدث في أحد الشوارع على مرأى ومسمع المارة، ولا ترجع الصدمة بالضرورة لكون هذه المرة الأولى التي يتعرض فيها شخص لشيء مشابه، فمن الأرجح أن يكون كل منا قد سمع بوقائع شبيهة، لذا يجب التأمل في عامل آخر أراه أكثر أهمية وهو خصائص الضحية والمجرم.
كانت الضحية شابة طموحة في مقتبل عمرها في طريقها إلى الجامعة واعترضها زميلها الطالب المتفوق الذي كان يساعدها في الدراسة والذي كان مغرمًا بها ويحاول أن يرتبط بها رغم رفضها له، كل هذه الخصال تجعل من شخصية الضحية والقاتل قريبتان جدًا من المتابعين للقضية من عامة الناس، وتُذكر كل هذه الخصال المتابع بنفسه أو أبنائه أو أصدقائه أو المقربين منه، ويعظم هذا من درجة التعاطف مع الضحية.
ولأن هذا التشابه يسري على المجرم أيضًا، فقد يجد البعض نفسه في معضلة مع موقفه من كل من المجرم والضحية، فيمكن أن يتبع هذا الاحساس بالتقارب إحساس بأنه يمكن إذاً للمرء أو للمقربين منه أن يكونوا في مكان الضحية أو المجرم، وهذه فكرة مرعبة وصادمة في حد ذاتها تجعل البعض في حاجة ماسة إلى أي تفسير يقلل من التقارب أو التشابه الذي يراه مع الضحية أو القاتل أو كليهما، وقد يلجأ المرء إلى البحث عن أسباب تجعل من الحادث حالة خاصة لا يمكن تعميمها، وبالتالي لا خوف منها ومن إمكانية تعرضه لها.
عن العاطفة والتحيزات الإدراكية
من هذا المنطلق، يمكن لنا أن ننظر فيما تلى الحادث من تعاطف مع القاتل أو لوم للضحية، ربما يرى البعض أن هذه الظواهر خاصة بمجتمعاتنا، فمثلًا قد يرى البعض أن التعاطف مع القاتل ولوم الضحية سببهما أن الشعب المصري شعب عاطفي وأنه يضطهد المرأة[2]، وإن كان في هذه التفسيرات قدر من الصحة، إلا أنها تفسيرات فضفاضة وسطحية للغاية، وذلك لأن هذه الظواهر موجودة في العالم كله بدرجات وأشكال تتغير بتغير السياق والزمان والمكان، وإن كان لكل مجتمع خصوصيته، فيمكن القول أن كل الشعوب عاطفية بطبيعتها، ومن طبيعة البشر أن يكونوا تحت تأثير عواطفهم بغض النظر عن جنسياتهم، ولا يرتبط الأمر بالعواطف فقط، بل للأمر علاقة بالتحيزات الإدراكية العقلية، وأعني بالتحيزات الإدراكية ميولنا كبشر للتفكير بشكل معين يسهل علينا أمور حياتنا اليومية، فكما أن العقل البشري في قدراته وتعقيداته معجزة من معجزات الخلق، إلا أن له حدود، وفي ذلك حكمة؛ لأن العقل البشري له طاقة وموارد محدودة ينقص بنقصانها دقته في إصدار القرارات والأحكام، وربما ترى ذلك عندما تندم على قرارات أخذتها قرب موعد نومك أو وأنت جائع مثلاً، لذا لا يقدر العقل البشري على التفكير الدقيق التحليلي دائمًا ويعتمد في أحيان كثيرة على طرق مختصرة (تحيزات) تسهل عليه عملية التفكير والحكم على الأشياء، خاصة عندما يكون هناك حاجة إلى حكم سريع[3].
ومن هذه التحيزات ما يجعلنا نبالغ في قدراتنا على توقع نتيجة حدث ما، خاصة بعد وقوع هذا الحادث بالفعل، بمعنى أنه بعد وقوع الحادث يكون من السهل علينا أن نظن بحتمية النتيجة التي وقعت بالفعل [4]، فمثلًا كثيرًا ما نرى في حالات الاغتصاب من يقول “انظر إلى لباس المرأة” أو “لماذا كانت في هذا المكان في هذا الوقت”، ويتبعها بقول “بالطبع كان سيحدث لها ما حدث”، وتأتي كل هذه العملية الإدراكية بعد معرفة الشخص لما حدث بالفعل بشكل يحاول به أن يجد تفسيرًا يرضي تصوراته التي ربما أصبحت محل تهديد بسبب هذه الواقعة.
ومن التحيزات الإدراكية أيضًا أننا يصعب علينا تخيل حدوث شئ فظيع لنا، ونلجأ إلى المبالغة في التفاؤل بخصوص احتمال وقوع هذه الأمور لنا[5]، فمثلًا على الرغم من أنك تسمع بشكل شبه يومي عن أشخاص يموتون، وتعرف ظاهرًا أنك أيضًا ستموت يومًا ما، فإنك أيضًا تعرف جيدًا ذلك الصوت بداخلك الذي رغم قناعته بأن الموت حق، فإنه يصعب عليه تخيل أن الموت سيصيبه من قريب أو بعيد، لذا فرغم معرفتنا أن هناك جرائم قتل وعنف تحدث حولنا إلا أنه قد يكون هناك إنكار مبطن منا في ما يخص إمكانية أو احتمال وقوع هذا الأمر البشع لنا.
الضحية والقاتل وعدالة العالم
قد تدفعنا إذًا هذه التحيزات للظن بأن جريمة القتل هذه قد تحدث للآخرين، ولكنها من الصعب أن تحدث لنا، ويرتبط هذا الشعور أيضًا بتصور مثالي عند البعض بعدل العالم والمجتمع[6]، فإن كنت شخصًا جيدًا، لا يمكن أن يحدث لك شئ كهذا، ولكن العوامل التي أدت إلى تفاقم الصدمة بشأن حادث مقتل نيرة أشرف -كانتشار مقطع الحادث وتقارب خصال الضحية والقاتل من الكثير منا- تمثل تحديا كبيرًا لهذا التصور المثالي والتحيزات التي سبق ذكرها، أي أن هذه العوامل تجعل الظن في مدى بُعد مثل هذه الأحداث عنك يتلاشى أمام هذه الواقعة، فتصبح تهديدًا لتصورك عن نفسك وعن المجتمع والعالم من حولك.
ولهذا السبب قد يلجأ البعض إلى محاولات إيجاد تفسيرات تساعدهم على مواجهة هذا التهديد دون أن يضطروا إلى مواجهته بالفعل أو لهدم بعض التصورات المثالية التي كانت تعينهم على التفاؤل تجاه ما يمكن أن يحدث لهم، ومن هذه التفسيرات هي أن يكون أمام الشخص بعض الخيارات، منها التعاطف مع القاتل أو لوم الضحية، وهذا ما حدث بالفعل في قضية مقتل نيرة.
فقد بدأ البعض بالبحث في كيفية تعامل عائلة نيرة مع القاتل قبل أن ينفذ جريمته، وأنهم عاملوه بطريقة سيئة واستحقروه، وهذا ما يفسر فعلته وقد يبرر التعاطف معه.
وذهب البعض الآخر إلى التعرض لشخص نيرة التي لا نعرف عنها الكثير -ولا نحتاج أن نعرف عنها الكثير لنأخذ موقفًا في هذه القضية- والخوض في تصرفاتها وأخلاقها وعرضها محاولين إلقاء اللوم عليها بشكل أو بآخر.
وقد يكون للبعض نية خالصة لفهم ملابسات القضية، ولكن في رأيي أن أغلبية المتفاعلين مع هذه المحاولات وجدوا فيها ملاذاً من مواجهة كانت حتمية مع تصوراتهم عن أنفسهم وعن المجتمع والعالم من حولهم.
بقول آخر، الاقتناع بأن أخلاق نيرة -رحمها الله- كانت محل تساؤل، يجعل من السهل للبعض تقبل صدمة أن شابة مثلها كانت ضحية لهذه الجريمة، فإن كان الشخص لا يرى أن أخلاقه محل تساؤل بشكل أو بآخر فلا يمكن أن يكون ضحية مثل هذه الجريمة البشعة، وذلك لأنه يرى أنه شخص جيد، وأنه يجب أن يكون هناك سبب أخلاقي مثلاً لوقوع هذا الحادث لأن هناك عدل في المجتمع والعالم.
وبالمقابل؛ الاقتناع بأن عائلة نيرة أساءت معاملة القاتل واحتقرته، وأن نيرة كانت تستغله، يسهل تقبل صدمة أن شخص مثل محمد يمكن له أن ينفذ جريمة بهذه البشاعة، وذلك لأنه تعرض لضغوط كثيرة لا يتعرض لها الجميع، لذا ستقلل هذه القناعة من احتمالية أن يكون الشخص في نفس موقفه، وقد يبرر أيضًا التعاطف معه لأنه لم يكن في موقف طبيعي.
خاتمة
لا شك أن التعامل مع مثل هذه الوقائع يجب أن يكون على قدر من التعقيد والحكمة، يجعل بالإمكان نقاش ملابسات الأمر ودوافع القاتل ودور كل من له علاقة بالأمر، ولكن يجب علينا ألا نغفل أن بحث البعض عن تفسيرات بهذا الشكل قد يكون من أجل إرضاء بعض التحيزات والتعامل مع الصدمة ومحاولة إنكارها، ولعل الانتباه لهذه التحيزات يجعل من الممكن ترتيب أولويات النقاش وخطوات التعامل مع الأزمة، ووجب التنويه أن ما ذكرته هنا من تحيزات إدراكية هي ميول عند أغلب البشر، ولكن هذا لا يعني أبدًا حتمية هذه التحيزات، ولكن ما يمكن قوله هو أننا جميعًا لدينا ميول لبعض التحيزات التي قد تختلف درجاتها وتجلياتها بحسب التجارب الشخصية والمجتمعية والثقافية، وبحسب الموقف والقدرة العقلية للشخص وقتها، ويمكن للمرء بالوعي والتفكير الدقيق أن يتجنب هذه التحيزات أو يصححها أو على الأقل يعترف بوجودها.
المصادر
[1] May, C. L., & Wisco, B. E. (2016). Defining trauma: How level of exposure and proximity affect risk for posttraumatic stress disorder. Psychological trauma: theory, research, practice, and policy, 8(2), 233.
[2] جمعة، أ..(2022). مقتل نيرة أشرف.. لماذا يتعاطف البعض مع الجناة؟. مصراوي https://www.masrawy.com/news/news_egypt/details/2022/7/6/2254698/
[3] Kahneman, D. (2012). Thinking, fast and slow. Penguin Books
[4] Janoff-Bulman, R., Timko, C., & Carli, L. L. (1985). Cognitive biases in blaming the victim. Journal of Experimental Social Psychology, 21(2), 161-177.
[5] Weinstein, N. D. (1980). Unrealistic optimism about future life events. Journal of personality and social psychology, 39(5), 806.
[6] Lerner, M. J. (1980). The belief in a just world. In The Belief in a just World (pp. 9-30). Springer, Boston, MA.
تعليقات علي هذا المقال