“فعند ذلك أخذ المسلمون حذرهم وأبرزوا ما كانوا أخفوه من السلاح، وآلات الحرب والكفاح، ومسكوا الأطراف الدائرة، بمعظم أخطاط القاهرة، كباب الفتوح وباب النصر والبرقية، إلى باب زويلة وباب الشعرية، وهدموا مساطب الحوانيت، وجعلوا أحجارها متاريس، ووقف دون كل متراس، جمع عظيم من الناس” – الجبرتي في كتابه عجائب الآثار عن ثورة القاهرة الأولى ضد الفرنسيس.
جاء نابليون إلى القاهرة، لكنه تفاجىء بها على نحو كبير، لم يتفاجىء بطبيعتها الجغرافية بقدر ما تفاجىء بالأمة المصرية التي واجهته في العديد من الثورات والاحتجاجات الشعبية، فعمل على تغيير مجريات العمران فيها، ليواجه بسلطته تلك الجموع الكبيرة من الأمة، التي ظلت تثور عليه حتى غادرها هو وجنده.
في 1 يوليو سنة 1798 نزل بونابرت الإسكندرية، ومنذ لحظة نزوله الأولى إلى مصر واجه الكثير من المتاعب والمشاكل، سواء كانت على شكل معارك مع المماليك الذين كانوا يتحكمون بمجريات الأمور في مصر مثل معركة إمبابة في يوليو من نفس السنة، أو مع الإنجليز في أغسطس كذلك في أبو قير، أو عن طريق العثمانيين الذين هاجموه عدة مرات، أو من خلال الثورات الكبرى التي قام بها أهل مصر أنفسهم، كثورة القاهرة الأولى والثانية.
حاول نابليون في تلك الفترة توطيد سلطته على القاهرة، لكنه واجه عنفوان الأمة المصرية في هذا التوقيت، بشكل لم يكن متوقعا على الإطلاق.
ولأن العمران وتغيراته مرتبطة بالسلطة التي تعمل على تشكيلها وفق ما تريده ضد الأمة والشعب، فكان من الطبيعي أن تنعكس سلوكيات بونابرت على التغير العمراني للقاهرة وشوارعها وأزقتها، وفي هذه المقالة سنستعرض في محاور رئيسية، كيف غيرت سلطة نابليون عمران القاهرة التراكمي.
ثورة القاهرة الأولى
جرت ثورة القاهرة الأولى في شهر أكتوبر سنة 1798 وهي السنة التي دخل فيها بونابرت القاهرة، عمل أهالي القاهرة على إبادة الفرنسيين وقتلهم، فشكلوا تحصينات خاصة بهم في الحواري والشوارع القديمة، استعرضها المؤرخ الجبرتي باستفاضة، تلك الثورة أطاحت بالفعل برموز من الحملة الفرنسية أهمهم سلكوفسكي المعاون العسكري الخاص ببونابرت وصديقه الشخصي، دعمت تلك الثورة من قبل أئمة الأزهر الشريف، الذين اتخذوا من الجامع الأزهر حصناً قوياً لهم، بعد تلك الثورة تحديدا بدأ بونابرت خطة فعلية لتغيير نمط القاهرة العمراني والمعماري لكي يستطيع من خلاله أن يحكم سيطرته على ثورات القاهرة والشعب.
اعتمد بونابرت على عدة محاور رئيسة عمل من خلالها على إعادة تأهيل القاهرة، كان أهمها بالفعل تلك الأحياء المتمردة التي كان يعمل على عزلها وإنشاء الحصون حولها، كانت تلك الأحياء على سبيل المثال “الحسينية – حارة العطوف – باب الشعرية – الجمالية – الأزهر”.
شكلت بالفعل تلك الأحياء الوقود الحقيقي للثورات ضد بونابرت في القاهرة لذا كانت معظم أعماله الحربية تستهدف تلك الأحياء بشكل رئيسي، أقام من خلالها تحصينات خاصة على رأس كل حي فيها، لم تكن تلك الأحياء فقط المحرك الرئيسي لخطته الممنهجة لتغيير نمط القاهرة العمراني، بل تلك المواقع الإستراتيجية التي تمثل مواقع لوجستية، كالمستشفيات ومواقع السكن والتأمين ومنافذ الغذاء وكذلك مواقع القيادة، وكانت معظم تلك المواقع تقع ناحية النيل “منطقة المنيل الآن”.
لكن كل هذا يطرح سؤالا مهما ورئيسيا؛ كيف تعرف بونابرت على معالم تلك المناطق الطبوغرافية؟
جاء نابليون بفريق كامل من الباحثين والمهندسين والعلماء، الذين ألفوا مؤخراً كتاب وصف مصر الذي اشتمل على كل تفاصيل الحياة فيها، من أنثروبولوجيا وآثار وتاريخ وطبائع بشرية كذلك، لكن معرفة نابليون الكبيرة بالطبوغرافيا المصرية، كانت بسبب شغفه الكبير بعملية التوثيق، ففي سنة 1795 أي قبل مجيئه إلى مصر بثلاثة أعوام، أنشأ بونابرت في باريس المكتب الطبوغرافي، وقام بإعداد مهندسين للجغرافيا بشكل خاص لرسم خرائط طبوغرافية تساعده على غزو البلدان، سواء في أوروبا أو في الشرق، صحيح أن تلك الخرائط لم تساعدهم كثيراً في إتمام خطة السيطرة الكاملة على مصر، إلا أنها كانت البداية الحقيقية لعمل تلك المنظومة في رسم خرائط الدول التي كان يهدف في غزوها، جاءت نتائج تلك المنظومة بشكل منظم أكثر في سنة 1807 مع بداية السجل العقاري.
خطة تطويق القاهرة
عمل نابليون بونابرت على تطويق القاهرة وإنشاء العديد من الحصون الرئيسية بخطة ممنهجة لعمل حلقة متصلة بالجنود والعتاد حول القاهرة ليمنع من خلالها أي إمدادات، فبناء على خريطة الحملة الفرنسية تجد أنه قام بعمل أكثر من 14 حصنا رئيسيا بمحاذاة حدود القاهرة، فعند ميدان الظاهر الكائن بالحسينية التي كانت تشكل له عائقا كبيرا ومصدرا رئيسيا للقلق، أقام حصنا رئيسيا لكنه لم ينشئه من العدم، بل استخدم مسجد الظاهر بيبرس المبنى الضخم الكائن في الميدان وعدل عليه لكي يتم تهيئته إلى حصن وأسماه حسن سولكوفسكي، وهو اسم صاحب نابليون المقرب جوزيف سولكوفسكي الذي قتله المصريون عند باب الفتوح، كان هذا الحصن هو المركز الذي أسس عليه نابليون تحصيناته حول القاهرة، لكن الجدير بالملاحظة هنا، أنه أطلق على تلك الحصون أسماء جنوده الذين لاقوا حتفهم في ثورات القاهرة أو غزواته في الشام، من ضمنها حتى تلك الأبراج الفاطمية الواقعة شمال سور القاهرة الشمالي.
اتخذ نابليون من مسجد الظاهر بيبرس الصلب والضخم في قلب الحسينية، مركزا عسكريا له ولجنوده، لكن لاتخاذ هذا الحصن كان لابد من إحداث تغييرات عمرانية ضخمة شملت المنطقة في الحسينية، لا زالت تظهر عليها تلك المعالم حتى الآن، فقد تمت إزالة كل الأبنية والعمائر المجاورة للمسجد والتي كانت تدخل في حيزه العمراني، بالإضافة إلى إزالة حي الحسينية بالكامل وهدم جميع البيوت فيه، هذا الحي الذي خرجت منه العديد من الثورات والانتفاضات على نابليون ورجاله، تسببت في مقتل صديقه سولكوفسكي، وبنظرة أعمق لعمران المنطقة الآن، يمكن ملاحظة أن مسجد الظاهر بيبرس محاط بأربعة شوارع رئيسية واسعة، تلك الشوارع ليست من عادة المساجد الجامعة التي تبنى في المدن الناشئة تحت كنف الإسلام، حيث يتم بناء المسجد في مركز المدينة، ويحاط من حوله سوق كبير ينخرط في مكونه العمراني، لكن تلك الحالة التي تسبب فيها نابليون جديدة على عمران القاهرة، بالإضافة إلى أن كل بيوت الحسينية الموجودة الآن مبنية بعد القرن الثامن عشر، أي بعد جلاء الحملة الفرنسية من مصر، الجدير بالذكر هنا؛ أن هذا الحي تمت إزالته تماما حتى لا يكون عائقا للحملة وجنودها، خاصة أن تلك المنطقة واقعة بين خطين دفاعيين رئيسيين للحملة، هما سور القاهرة الشمالي وحصن سولكوفسكي.
أما الأزهر فقد تم تطويقه كلية، من ناحية الشرق -حديقة الأزهر وشارع الدراسة الآن- تم إنشاء حصنين كاملين فيه باسم ريبول وديبو حيث تم استغلال الباب الفاطمي القديم في تلك المنطقة وهو باب البرقية وإقامة حصن كامل، ثم إنشاء حصن آخر المسمى حاليا “طابية نابليون”، عند الناحية الشرقية من المسجد الأزهر قبالة مستشفى الحسين الآن، هذان الحصنان عملا على تفريغ تلك المنطقة من السكان تماما حتى يكون خط دفاع آمن من هجمات المصريين الخارجين من المسجد الأزهر والساكنين في الأحياء المجاورة أيضا، تبدو المنطقة الآن وكأنها شبه فارغة، فباب البرقية الذي كان يستخدمه أهالي المنطقة في العبور نحو القرافة، لم يعد كما كان منطقة مفرغة من حوله، كذلك أيضا تلك المنطقة الواقعة قبالة مستشفى الحسين الجامعي الآن، تبدو عليها معالم التغيير العمراني.
على نفس الخط تقريبا، تجاه القلعة، عند ما تسمى بـ الخانقاه النظامية، عملت الحملة الفرنسية على تخريب الخانقاه واستغلال موقعها الإستراتيجي المرتفع، لتضرب به أهالي حي الدرب الأحمر وباب الوزير، فتم تجهيز الخانقاه كموقع عسكري، بتعديلات على نمط العمارة فيها وشكلها، في المقابل من الناحية الأخرى أيضا؛ باب القرافة الكائن في ميدان السيدة عائشة، هو كذلك تم استغلاله ليكون أحد حصون الحملة الفرنسية.
استكمالا للحديث عن منطقة الدراسة والجمالية، إحدى أهم مناطق الثورة ضد الحملة الفرنسية، فمن الملاحظ في المنطقة الواقعة بين شارع المنصورية الآن وشارع بهاء الدين الواقع داخل حي الدراسة القديم، أنها منطقة شبه جديدة، والتي يقطعها بالعرض شارع البنهاوي من الناحية الشمالية، لدرجة أن شارع المنصورة نفسه تم فتحه في سور القاهرة الشمالي من ناحية برج الظفر الذي عمل عليه صلاح الدين الأيوبي، وبالرجوع إلى خرائط الحملة الفرنسية، فلقد عملت على إزالة وتفريغ تلك المنطقة تماما من السكان وإنشاء العديد من الحصون فيها، بل وعملوا على إنشاء سور آخر مواز لسور صلاح الدين الأيوبي داخل الدراسة مكان شارع بهاء الدين الآن، بقي منه برج يسمى برج كليبر وهو نفس اسم السور أيضا، تلك المنطقة الاستراتيجية كانت بالنسبة للفرنسيين خط دفاع أولي ضد الجيش العثماني الذي هاجم الفرنسيين بالتنسيق مع المماليك والأمة المصرية، لذا تبدو معالم التغيير واضحة تماما على تلك المنطقة، فلا تخضع لنفس النمط العمراني داخل الجمالية، بل تكاد تكون منطقة منعزلة تماما عنها.
الجدير بالذكر هنا؛ أنه لم يتبق من سور الحملة الفرنسية سوى برج كليبر، الذي يمكن ملاحظة مواد البناء فيه، وهي الحجارة التي نقلت من بيوت المصريين المهدمة في الحسينية، تلك الحجارة ليست على مقاس واحد إذ إن مصادرها مختلفة ومتباينة.
فتح الطرق
كان النسيج الداخلي للقاهرة معقد للغاية، طرق وتعرجات مشتبكة، لا يوجد فراغات عامة فيها بالشكل المتعارف عليه، لذا كان من الصعب جداً محاولة تفكيك هذا التعقيد والسيطرة عليه من الداخل، فعمل نابليون على السيطرة على القاهرة من خارجها، فتح طرق خارجية تحاول ربط الحصون التي تطوق القاهرة، إغلاق النوافذ والمداخل ناحية الأحياء المكدسة بالسكان داخل القاهرة، قام نابليون بشق طريق يربط بين حصن سلفسوكي وبين الحصون التي أقامها على مدخل حي بولاق العنيد، مثل حصن كامين وحصن باب الحديد مكان ميدان رمسيس الآن، هذا الطريق الرئيسي كان مخصص لنقل المعدات الحربية والجنود كذلك، بعيداً عن القاهرة نفسها ليكون في مأمن من هجمات الأمة المصرية نحوه، هذا في الناحية الشمالية من المدينة، أما الناحية الشرقية فلقد فتح طريق أيضاً يربط بين الحصون التي أقامها على أطراف المدينة من تلك الجهة الهامة، والملاحظ أيضاً أن مواقع تلك الحصون الآن هي مناطق شبه مفرغة من نمطها العمراني القديم.
تكمن أهم ميزة في تلك الطرق أنها كانت طرقاً مستقيمة لا يعتريها أي اعوجاج في تنظيمها بحيث تبقى على أعين الحراسة دائماً ويسهل السيطرة على أي تمرد يدخل في نطاقها.
ما صعب على الجنود الفرنسيين عملية احتلال شوارع القاهرة الداخلية ومهاجمة الثوار المسلحين داخل الحارات، هو أن القاهرة في هذا الوقت كانت مؤسسة على ما عرف الحارات السد أو المغلقة، والتي كانت تغلق على أصحابها بأبواب خشبية ضخمة بالإضافة إلى ضيق الشوارع فيها وتعرجها مما يصعب على الغريب عنها التعرف على معالمها، عمل نابليون بعد ثورة القاهرة كما يوضح الجبرتي على إزالة كل تلك الأبواب التي كانت تعمل على سد الحارات ومنع الجنود من الدخول، ثم عمل على جعل الطرق والشوارع في الحارات أكثر استقامة بدل تعرجها، يمكنك ملاحظة هذا في شارع حارة درب العطوف الكائنة بجانب السور الشمالي للقاهرة الفاطمية، حيث إن الشارع الرئيسي في الحارة مستقيم من أوله إلى آخره، تلك الحارة التي كانت شوكة في ظهر القوات الفرنسية التي اتخذت من السور الشمالي حصناً لها، كان لابد وأن تزال كل تلك العوائق التي تعيق رؤية الجنود للمصريين الذين يهاجمونهم.
الغريب أن نابليون لم يفعل هذا منذ مجيئه إلى القاهرة، وذلك حسب ما يظن أنه ضمن ولاء شيوخ الحارات من خلال الرشاوي فلم يبدل فيها أي شيء، بعد ثورة القاهرة تغير كل شيء، حتى أولئك الشيوخ الذين تلقوا رشاوي منه لمنع أهالي الحارات من الثورة عليه، ثاروا عليه هم أيضاً.
ما فعله نابليون ربما يكون مقدمة لما فعله أسومان المعروف باسم البارون أوسمان في باريس، حيث تم تنسيق المدينة من أساسها بمواصفات تمكن الأمن من منع أي محاولة لاحتلال العامة لها تكراراً لما حدث قبل ذلك في المدينة، صحيح ليس هناك ربط بين ما فعله نابليون وما فعله بعده البارون أوسمان، لكن العقلية الفرنسية ربما تطورت مع الزمن لتعمل بآلية معينة لمنع أي اضطرابات أو ثورات داخل الأحياء القديمة.
تعليقات علي هذا المقال