الأمة الإسلامية هي الأمة القطب، هي أمة الأمم، ولها موقع لا يمكن لأي أمة أخرى ملؤه، هذا فحوى أطروحة الدكتورة منى أبو الفضل في كتابها: “الأمة القطب: نحو تأصيل منهاجي لمفهوم الأمة في الإسلام”. والأمة هنا هي ذلك الكيان الجماعي الذي يرتكز في تماسكه على عقيدة إيمانية شاملة مصدرها رباني، في منظور ممتد يصل الدنيا والآخرة.
وتعني الكاتبة بالـقطبية الصفة التي مكنت الأمة من الاستقطاب، ومن القابلية والقدرة على التجميع لشتى القبائل والشعوب والأعراق، فالأمة صاحبة الرسالة لا تقوم على عرف أو لون أو إقليم، وإنما على دعوة ورسالة، والأمة باعتبارها أمة قطب تستوعب وتدمج دون إزالة الخصوصيات أو العدوان عليها، وتجمع وتوحد مع المحافظة على التعددية والثراء الإنساني، وترى منى أن الأمة باعتبارها ظاهرة ومفهوم تفتح لنا مجالا واسعا لإعادة بناء مدركاتنا ونظمنا وبناء علومنا وجامعاتنا على نهج جديد.
كما تسعى منى للإجابة عن عدة أسئلة والتي منها: أين موضع الأمة من الإسلام؟ أين موقع الأمة من الأمم الأخرى؟ ما هي الخصائص التكوينية والحيوية للأمة؟ ما الذي يحفظ على الأمة جوهرها ويؤمن لها استمراريتها؟ أين يلتقي مفهوم الأمة القطب مع المفهوم القرآني للأمة الوسط؟ ما هو دلالة تيار المد الإسلامي وأين موقع الأمة منه؟
الأمة كظاهرة تاريخية
الأمة هي أم الكيانات الجماعية التي عرفتها هذه المنطقة الحضارية، ومن ثم تكون على رأس الظواهر الاجتماعية السياسية التي تستدعي البحث والنظر، حيث تحدد الكاتبة مهمتها بأنها تحويل الأمة موضوعا من “ظاهرة” إلى “مفهوم”، والانتقال من “الحسي” إلى “الموضوعي”، وهي تعتبر أن قيامها بهذا سبيل إلى إدراك الذات بالذات، وإلى البحث في أصول كياننا الذاتي الجماعي.
فالأمة ظاهرة تاريخية حية ومفهوم سياسي حيوي، لذا تنطلق منى من فرضية أساسية؛ هي أن الأمة في الإسلام تجاوزت الحقيقة التاريخية الموقوتة بماضٍ ولى إلى واقع تعايشه اليوم، وهي في طور من الحيوية المتدفقة غير أن أصابها شيء من الوهن والانطواء، ومصدر قوة الأمة واستمراريتها هو مرونتها التنظيمية؛ فالإسلام عندما جاء بأمة لم يقرنها بحتمية تنظيمية معينة، ومن ثم صارت قيمة عليا ثابتة لا تحبسها أطر جامدة، بل هي القادرة على إيجاد الأشكال والصياغات النظمية التي تتلاءم ومعطيات العصر، وقد أثبتت الأحداث أن الذي يستوقف الباحث عند تمحيص الظاهرة ليس البعث والإحياء لها، ولكن التواصل والاستمرارية فيها، وليست الحداثة وإنما الأصالة.
كذلك أرادت الكاتبة من أطروحتها تجاوز الانفصام بين الإسلاميات والإنسانيات كما تسميها، وأرادت كذلك بناء منظور يجمع في رؤيته ومقارباته بين أبعاد شتى لا تتيحها الأطر والمناهج الوضعية، ومن ثم تطرح منظورا يتعامل منهجيا مع الظاهرة الاجتماعية بأبعادها المختلفة التي تنطوي على أبعاد وجودية إنسانية، تاريخية وحضارية، يتداخل فيها الخارج والداخل، والظاهر والباطن، والنسبي والمطلق، والثابت والمتحول، والمثالي والواقعي.
كما تسعى بعملها هذا أن تخرج موضوع الأمة من دائرة الانفعالات الحسية والوجدانية إلى دائرة المدركات الواعية، كي تجمع في توازن بين حيز المحسوسات والمدركات.
كما تقدم الأمة كنموذج تفسيري للتاريخ والحاضر، والأمة لديها هي “ذلك الكيان الجماعي المميز الذي أحرزته العقيدة/الدعوة، والذي تلتقي عناصره حول خصائص مشتركة ضاربة الجذور باسطة الفروع على مدى الأبعاد الذاتية والموضوعية، المعنوية والمادية، لجماعة هي عصب العالم الإسلامي، وهي التي تحمل في جوفها المصون وكيانها المكين جوهر ومضمون العقيدة التي أنشأتها إنشاءً والتي عليها تشكلت دوما، وهي التي تجسد وتبلور في مسارها دلالات الدعوة التي قامت عليها ومآلها”، ولذلك فإن مصير الجماعة/الأمة لا يمكن فصله عن مسار العقيدة/الدعوة، وتظل في كل الأحوال العقيدة/الدعوة مبعث الحيوية والتجدد للجماعة/الأمة، إن هذا الترابط بين العقيدة/الدعوة وبين الجماعة/الأمة أساس الأطروحة.
ويتضمن مفهوم الأمة عناصر عدة: الوحدة والاستقلال، والنهضة والعمران، والقوة والشهود الحضاري، والولاء للإسلام وأهله، والبراء من الشرك وأهله، ويتصل مفهوم الأمة بشبكة من المفاهيم تتضمن: الأمانة، والاستخلاف، والشهود الحضاري، والخيرية، والوسطية، والابتلاء، والإعمار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، والإيمان بالله أولا وأخيرا.
والأمم بشكل عام حقيقة تاريخية جماعية تكررت في القرآن، وصنف من خلالها الأقوام والملل عبر القرون والزمن، وترى الكاتبة أن الأمم هي “تلك الجماعات البشرية التي تجتمع حول التمايز النوعي من جانب، والتوالي الزمني من جانب آخر”، والأمة في الإسلام تشترك مع غيرها من الأمم/الجماعات في مجال الأسباب المادية والموضوعية والتاريخية، لكن موقع الأمة من الأمم الأخرى هو موقع الشهادة والخيرية والتزكية والتعليم والقيادة، وقيام الأمة بهذا الدور واجب افترضه الله عليها، لذلك فإن الأمة كي تتحقق بكونها “أمة مسلمة” فعليها أن تتمثل كل خصائص القوة والقدرة والمنعة.
وتفترق الأمة عن غيرها من الأمم من حيث تجاوزها العنصر الزمني؛ فهي ذات شخصية حضارية مميزة، ولكنها غير موقوتة بمسار تاريخي محدد يُفنى ويعيد كما ينشئ ويزيل، ومرد ذلك هو مصدر ذات التمايز الذي يجعل لأمة الإسلام موقعها الفريد بين سائر أمم البشر، فـالأمة وليدة عقيدة إيمانية ربانية جاءت في سياق تاريخي لتُشَكِّله وتصبغ وجدانها على مسار الأحداث قبل أن تتفاعل هي معها وتتأثر بها، وهي في بقائها واستمراريتها كحقيقة اجتماعية رهن بالعقيدة التي انبثقت عنها، لا بالمسار التاريخي والعوامل التاريخية التي تتفاعل معها، أي أن الأمة كغيرها حقيقة تاريخية، وفي الوقت ذاته هي خلاف غيرها تستأثر ببعد موضوعي يطلقها من النسبية التاريخية.
ونتيجة لهذا البعد الموضوعي فإن الأمة في حالة إحياء متجدد، فكلما بدت وكأنها تتهاوى في ثنايا الزمن، تتوقد الشعلة ويتصاعد المنحنى ليتخذ مجرى يفرض معالمه على مسار الأحداث، وأيا كانت الأشكال أو المسميات أو القوالب التنظيمية التي تتخذها هذه الصحوات الدائبة، فإن مرجعها دائما أبدا هو ذات الروح المتأججة: روح الأمة، وروح الأمة في سعي دائب نحو التجدد والمقاومة.
بين الأمة و الدولة
ومن خصوصيات الأمة في الإسلام ارتباطها بالتوحيد كعقيدة/دعوة، فالأمة هي الوعاء البشري المحكم للقرآن الكريم، وهو ما يضفي على الأمة بعدا غيبيا فضلا عن أبعاد تكوينية ووظيفية وغائية أخرى، حيث “جاء الإسلام عقيدة ودعوة، نظاما ومنهاجا، ولا يزال التوحيد عقيدة حية، والدعوة تستمر عالمية كونية، لم تجرد قط من مضمونها الأصلي الذي يدمج أبعاد الحياة المختلفة في منظور كوني موحد، ولم تفقد قوتها الدافعة كزاد للهمم عبر أجيال متلاحقة متباعدة”.
ومن هنا تميز الكاتبة بين الأمة والدولة مؤكدة أن الدولة في الإسلام ليست مدارا للأمة قياما وتطورا وامتدادا وضمورا، ولكن الأمة تدور مع العقيدة، والعقيدة هي منطلق بقاء الأمة، والدولة كما أنها قد تتمم الأمة وتكملها بقدر ما تؤمن للكينونة الجماعية الأم شروط الحضور التاريخي الفاعل، فإن فإنها قد تعيق حضور الأمة وتشلها أو تقضي عليها كذلك، وإن كانت قد أكدت أن “الدولة لازمت قيام الإسلام”.
لقد وُلِدَت الأمة مع شهادة أن “لا إله إلا الله”؛ فالمسلم حين يأخذ العهد فردا بقوله: “أشهد ألا إله إلا الله” ينتقل بعدها ليكون جمعا في “إياك نعبد وإياك نستعين”، إن نون الجماعة هنا دالة على أن عقد الإسلام يتضمن عقيدة وهداية، مع هوية وانتماء وغاية، فالأولى رباط رأسي مع الخالق، والثانية روابط أفقية مع الجماعة والأمة.
ومن خصائص الأمة ما تسميه الكاتبة “المثالية الواقعية”، فلم تكن نشأة الأمة خيالا أسطوريا على نسق “حالة الطبيعة الأولى” لدى منظري العقد الاجتماعي أو مدينة فاضلة في عالم الخيال، بل شهدت الأمة وقائع تأسيسية ومدونات سجلها التاريخ ووثقها الشهود العيان، كما في صحيفة المدينة، ووقائع المبايعة، وعهود الأمان وغيرها، ومن معاني “المثالية الواقعية” أن الأمة محكومة بمنطق الوسطية لا الثنائيات، فهي تجمع المشترك، وتجمع المتناثرات، وتجمع الأبعاد المختلفة للحياة.
الإسلام كقوة سياسية
ترى منى أن الإطار الدولي المعاصر جدير بأن يُبحث من منطلق المد الإحيائي الإسلامي الذي برز منذ سبعينيات القرن الماضي، تلك الفترة التي شهدت بروز الإسلام كقوة سياسية مؤثرة محليا ودوليا، لقد ظهر رأي عام إسلامي منظم وغير منظم سعى للتأثير على الحكومات والنظم، فازدادت أهمية العنصر الشعبي والحراك على الأرض، وقد تطور تأثير الإسلام المتصاعد كقوة سياسية مؤثرة محليا ودوليا ليصبح تأثيرا ذا وقع جذري، هدد ليس فقط ميزان القوة القائم، وإنما كذلك الأسس التي يقوم عليها التوازن الدولي، وذلك لما ينطوي عليه المد الإسلامي من فروض ومنطلقات حضارية بديلة.
تتناول الكاتبة ما تسميه “مفاعل الاستقطاب” الذي ترى أنه من خصائص التكوين والتفعيل للأمة كأمة مسلمة، يحفظ مفاعل الاستقطاب للأمة إمكانية إعادة البناء والانبعاث، فالأمة كيان ينفرد بمفاعل استقطابي يجعل منها “بؤرة جاذبة”، أو مركز ثقل بشري يشد إليه وحداته الداخلية -فرادى وجماعات- دون أن يذيبها لفقدها معالمها، كما أنه يجذب نحوه مفردات جماعية من خارج إطاره، ومحور مفاعل الاستقطاب هو ذلك التفاعل المستمر والتأثير المتبادل بين القيم الجماعية والفردية، والكيان الحركي العام للجماعة في كافة أبعادها، ومن حصيلة هذا التفاعل تتحقق “جدلية الاستقطاب”، والمقصود بالجدلية هنا طبيعة تلك العملية التي يتجاوز من خلالها المسلم الفرد كينونته الطبيعية الخلقية إلى “الفرد الأمة”، وتتجاوز جماعة المطلق الذاتي بدورها طبيعتها المادية المرتدة على الذات لتصير “الجماعة الأمة”.
وترى الكاتبة أنه من المهم البحث عن تفسير وتعليل لظاهرة “الأمة” كجماعة حضارية سياسية على قدر كبير من الاستمرارية والتواصل، وعلى أوثق ما تكون من الأواصر والتجانس، رغم كل ما أصابها من ضعف ووهن بضياع الأسباب المادية والنظامية التي تمثلها وتقوم على مصالحها وتحفظ لها شريعتها وعزتها، وهكذا بحث لابد أن يدور حول الركائز والمقومات، فالركائز هي غاية الكيان والسبب المنشئ له، أما المقومات فهي الوسائل أو الأسباب المفرزة لتكوينه واستمراره كيانا حيويا ممتدا، فالعقيدة ركيزة والشعائر مقوم، وتختم منى حديثها عن الأمة القطب بتناولها مسألة حيوية التنشئة الجماعية في الإسلام من خلال حديثها عن “دورة الدفع الذاتي المتجددة”، فضلا عن العلاقة بين مفهومي الأمة القطب والأمة الوسط.
تعليقات علي هذا المقال