لم يُمثل طوفان الأقصى تهديدا وجوديا لكيان الاحتلال عبر تقويضه نظرية الأمن الإسرائيلية القائمة على الردع والإنذار الاستخباري المبكر والحسم السريع للحرب في أرض العدو فقط، بل أطلق سلسلة تفاعلات إقليمية لازالت تتبلور لتنذر بتغييرات كبيرة في المنطقة.
أولى تلك التفاعلات، تمثلت في عملية “ردع العدوان” التي أطلقتها فصائل المعارضة السورية نهاية نوفمبر 2024، مستغلة الانشغال الروسي بحرب أوكرانيا، وتضرر قدرات حزب الله، ومقتل أغلب قادته على يد الاحتلال الإسرائيلي، ومن ثم انهارت قوات النظام السوري، ودخل الثوار دمشق في أقل من أسبوعين.
هذا الزلزال الجيوسياسي ضرب النفوذ الإيراني في مقتل، فبفقدان سوريا، وتلقي حزب الله ضربات موجعة في مقدمتها مقتل أمينه العام حسن نصر الله، والقبول بوقف إطلاق نار فصَل جبهة لبنان عن غزة، انفرط عقد محور المقاومة، وهو ما ستكون له تداعيات كبيرة على العراق ولبنان.
كذلك فإن انتصار حركات إسلامية مسلحة في منطقة حيوية بالعالم العربي والإسلامي، وتمكنها من الإطاحة بنظام مستبد مدعوم بقوى إقليمية ودولية، سيطلق طاقة كامنة في العالم العربي، ويعيد إحياء ثورات الربيع العربي، ليبدأ تساقط قطع الدومينو تباعا، بينما ستتبخر أطروحة “ما بعد الإسلاميين” إذ أثبت الإسلاميون مجددا أنهم الفاعل الشعبي الرئيس في العالم العربي.
موقف الأنظمة العربية من الطوفان
إن واشنطن في ظل انشغالها بكبح الصعود الصيني، اعتزمت تخفيف بصمتها العسكرية في الشرق الأوسط، ودفعت باتجاه بناء نظام أمني إقليمي إسرائيلي عربي، وضمن هذا الإطار تبنت خطوات عسكرية وسياسية واقتصادية:
- عسكريا، نقلت الولايات المتحدة تبعية إسرائيل من القيادة الأوروبية التابعة للبنتاجون إلى القيادة المركزية الأمريكية؛ كي تدمجها مع الدول العربية في التدريبات العسكرية والتخطيط المشترك.
- سياسيا، تبنت إدارة ترامب الأولى اتفاقيات إبراهام للتطبيع كإطار سياسي، فانضمت إليه الإمارات والبحرين والمغرب، فيما انخرطت السعودية في مفاوضات تخص التطبيع، ومن المفترض -حال نجاحها- أن تفتح باب التطبيع لدول أخرى عربية وإسلامية تبعا للرياض.
- اقتصاديا، أعلن بايدن عن ممر اقتصادي جديد يبدأ من الهند ويمر بالإمارات ثم إسرائيل وصولا إلى أوروبا.
وقع طوفان الأقصى، محاولا ضمن أهدافه عرقلة الترتيبات الأمريكية للمنطقة التي تتضمن قتل القضية الفلسطينية، ورأت فيه العديد من الدول العربية، وبالأخص مصر والأردن والإمارات والسعودية، تهديدا لمسار التطبيع مع إسرائيل، وانتصارا لمسار المقاومة، وإثباتا لقدرة المستضعفين على الفعل والتأثير والنكاية في قوة أقوى تسليحا ومتطورة تكنولوجيا مثل إسرائيل، كما خشيت الدول المذكورة من أن يمثل الطوفان انبعاثا جديدا للحركات الإسلامية بعد الضربات الموجعة التي تلقتها في حقبة الثورات المضادة.
ولكن في ظل تفاوت مصالح كل دولة اختلف رد فعلها، وإن اشتركوا جميعا في تشجيع تل أبيب على كسر ظهر حماس، والقضاء عليها في قطاع غزة، فلم تقطع أيٌّ من الدول المطبعة علاقاتها مع إسرائيل، أو تطرد السفير الصهيوني لديها، أو حتى توقف المعاملات التجارية مع كيان الاحتلال.
فمصر حرصت على تبني موقف سياسي وإعلامي متوازن لدورها في مفاوضات صفقة الأسرى، ولتجنب استفزاز الشارع المصري الداعم لقضية فلسطين، لكن ميدانيا، قمعت أجهزة الأمن أي محاولات لتنظيم وقفات احتجاجية أو مظاهرات تندد بالاحتلال ومجازره، كما عزز النظام المصري إجراءات حصار غزة، ولم يسمح بدخول مساعدات عبر معبر رفح قبل احتلال إسرائيل له، أو خروج جرحى للعلاج، سوى ما توافق عليه الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، ووصل الحال لأخذ آلاف الدولارات من أهل غزة مقابل السماح لهم بالمرور من معبر رفح، رغم حصولهم على موافقات أمنية من الاحتلال عبر التنسيق الأمني المصري الإسرائيلي.
أما الأردن، فحرص على تعزيز الإجراءات الأمنية على الحدود مع فلسطين، التي تعد الأطول مع دولة عربية مجاورة، وذلك للحد من عمليات التسلل وتهريب الأسلحة إلى الضفة الغربية، أو حتى تنفيذ هجمات على يد شباب أردنيين ضد الاحتلال، وكذلك نفذت أجهزة الأمن حملات اعتقال ضد المشاركين في التظاهرات قرب السفارة الإسرائيلية، مما قضى على زخم تلك التظاهرات.
بينما سخرت وسائل إعلام سعودية وإماراتية جهودها للتشكيك في الطوفان ودوافعه، والادعاء بأنه عملية إيرانية، مع استضافة شخصيات مطبعة، وأحيانا صهاينة، لترويج السردية الإسرائيلية، ووسم حركة حماس بالإرهاب، فيما استمرت العلاقات الاقتصادية، والزيارات المتبادلة بين المسؤولين الإسرائيليين ونظرائهم في الإمارات.
ماذا تريد الدول العربية؟
تريد الدول العربية المطبعة سحق حركة حماس، وتسليم حكم قطاع غزة للسلطة الفلسطينية أو لأطراف فلسطينية أخرى مثل محمد دحلان، وذلك لتعزيز سردية التطبيع، وإقصاء كل من يتبنى خيار المقاومة من المشهد. فالطوفان كان محرجا للأنظمة المطبعة، إذ تمكنت حركة إسلامية محاصرة 15 عاما بإمكانات بسيطة من تنفيذ عملية عسكرية معقدة داخل الأراضي المحتلة منذ عام 1948، وباغتت الاحتلال، ودمرت تحصيناته، وتجاوزت الجدار العازل، مما دل على أن الأنظمة العربية بما تملكه من أموال وأسلحة قادرة على فعل الكثير، لكنها اختارت التطبيع لتحقيق مصالح ضيقة ترتبط بأنظمة الحكم، وليس عجزا عن مواجهة إسرائيل.
وللخروج من تلك المقارنات الفاضحة، كان خيار التواطؤ مع الاحتلال هو الأنسب، لجعل غزة ومقاومتها وأهلها عبرة ومثالا لكل من يفكر في رفع السلاح ضد الاحتلال، وللتشديد على أن التداعيات السلبية لخيار المقاومة أكبر من المكتسبات، وهو ما يعزز أيضا سردية أن الثورات والمطالبة بالتغيير الداخلي تجلب من الخسائر والسلبيات ما يفوق الفوائد والإيجابيات.
تفاعلات خارج الحسبان
بينما دبت مشاعر الفرح في صفوف الأنظمة تجاه تعرض حزب الله اللبناني لضربات غير مسبوقة، والتخلص من قياداته، وقبوله بوقف إطلاق نار وفق شروط إسرائيلية تتيح تقليم أظافر الحزب داخل لبنان، وترك غزة وحيدة تواجه الحصار والمجازر اليومية، والتخلص من قادة المقاومة الفلسطينية واحدا تلو الآخر، جاءت التطورات في سوريا لتقلب الأوضاع رأسا على عقب.
إن نظام بشار الأسد ثبت أنه هش داخليا، وهي سمة تشترك بها العديد من الأنظمة العربية بالمنطقة، كما أنه فقد شرعيته بوصفه نظاما يزعم الانتماء لمحور المقاومة؛ إذ لم يرد على أي اعتداء إسرائيلي على الأراضي السورية، وهو ما تشترك معه فيه أنظمة أخرى من جوانب معينة، بوقوفها مشاهدة ما يحدث بغزة، ومشاركة في حصارها، وفي التعاون الأمني والاقتصادي مع إسرائيل، واعتمد في بقائه على دعم أجنبي، وبالتالي فإن العوامل التي جردته من شرعيته، متحققة بأشكال مختلفة في دول أخرى بالمنطقة. ولذا يتوقع أن يكون لما حدث بسوريا، وفي الطوفان، تداعيات كبيرة خلال الفترة القادمة تشمل صعود الإسلاميين مجددا بعد فترة انكسار، وتجدد الأمل في القدرة على التغيير طالما توفرت الإرادة للإعداد والبذل.
إن الطوفان، وتداعياته في سوريا، أثبت أن المستحيل ممكن، وأن الشعوب وقوى المقاومة فاعل مؤثر في المشهد، وضخ روحا جديدة جعلَ كثيرين يبحثون عن أدوار يؤدونها للدفع باتجاه التحرر من الاحتلال والتخلص من الاستبداد، وبدا أن كرة الثلج التي تشكلت في 7 أكتوبر 2023 تتدحرج لتكبر، وظهرت أولى تجلياتها في إحدى دول الطوق، ومن المتوقع أن تظهر ارتداداتها قريبا في دول أخرى، لتقود البوصلة نحو القدس في معركة ستكون صعبة لكنها ليست مستحيلة، كما أنها واجبة.
تعليقات علي هذا المقال