في سنة 1954 تم تأسيس شركة التعمير والمساكن الشعبية، وكان الهدف منها القيام بكافة الأعمال المتعلقة بالمساكن الشعبية في مصر وإزالة العشوائيات، برعاية كاملة من الدولة وتوجهاتها الاشتراكية الواضحة.
مرت مصر قبل يوليو 1952 بتقلبات معمارية كثيرة، تعبر كل منها عن طبيعة الوقت ونظرة السلطة للقاهرة، ابتداءً من نابليون بونابرت نفسه، مرورا بمحمد علي باشا، وقوفا عند الخديوي إسماعيل كثيرا، ثم انتهاءً بالحقبة التي استمرت منذ الخديوي عباس حلمي حتى الملك فاروق، فقد كان العمران الذي لم يكتمل في عهد نابليون استعماريا بامتياز، لكنه لم يستكمل بسبب مقاومة المصريين المستميتة له.
أما فترة مصر الخديوية، كان العمران وتأسيس امتداد جديد للقاهرة وراءه الصحة العامة في شوارعها وأحيائها، وإزالة الأوساخ والأتربة والقاذورات فيها[1]، لكنها كانت ذات طابع معماري أوروبي أكثر من كونه تراثي، ثم تغيرت النظرة إلى شكل العمارة في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني إلى نمط إعادة إحياء الطرز الإسلامية خاصة المملوكية.
استمر هذا النمط حتى عهد الملك فاروق نفسه، بسبب اتجاه الدولة نحو إحياء التراث، ولا مانع من إعادة إحياء الطراز المصري القديم نفسه، خاصة بعد ثورة 1919 والبحث عن هوية مصرية مرئية، حتى أتت حركة الجيش عام 1952 لتؤسس منهجية جديدة للعمران والعمارة في القاهرة.
لا بيوت نخبوية
شكلت قصور الأسرة العلوية وحاشيتها غصة في حلق النظام الجديد، لكن تلك الغصة لم تمنعهم من استعمالها والسطو عليها، فمثلا تم توزيع بعض تلك القصور على أعضاء مجلس قيادة الثورة، خاصة القصور التي كانت تحتل موقعا مميزا في العاصمة، سواء كانت على النيل أو قريبة من وسط المدينة العامر.
عبد الحكيم عامر مثلا استولى على قصر سميحة هانم، ولم يترفع السادات نفسه على أن يسيطر على أحد القصور المركزية في المدينة، والتي تطل على شاطيء النيل بالدقي.
كما تحول عدد كبير من تلك القصور لتصبح مدارس حكومية، وأبرز الأمثلة على هذا قصر السلطانة ملك بمصر الجديدة، والذي تم تحويله إلى مدرسة حكومية، وسراي سعيد حليم باشا في شارع شامبليون الذي تم تحويله إلى مدرسة الناصرية الإعدادية.
كانت تتسم تلك القصور بطرز معمارية مميزة ومعبرة عن اتجاه فني حقيقي، منها ما كان ذا طابع روماني قديم أو أوروبي حديث، ومنها ما كان ذا طابع مملوكي وأندلسي مستحدث، لم يعد لها وجود في العصر الجديد، أصبحت كلها نماذج تعبر عن استيلاء القيادة الجديدة على السلطة، إما عن طريق تحويلها كما سبق إلى مدارس حكومية أو التعامل معها بمبدأ المنفعة الشخصية.
أما القصور الجديدة التي بنيت في القاهرة إبان تلك الفترة؛ فلا تكاد تذكر تقريبا، كما أنها لا تحمل طرازا معماريا مميزا لها، في محاولة على ما يبدو لتحديد السلطة والثروة في يد الدولة وحدها.
الدولة وتنميط المسكن
مثل الاتجاه الاشتراكي الجديد للدولة المشكل الرئيسي والأساسي لنمط الحياة في مصر إبان تلك الفترة، من ضمنها بطبيعة الحال العمارة، قامت الدولة بتأسيس مدن جديدة في المناطق الفارغة بالقاهرة لتكون محلا للسكن الشعبي والمتوسط ودونه.
كانت تلك العمائر على خط مستقيم قوالب معمارية ونمطية واحدة كررت في أكثر من نموذج، بشكل وتخطيط واحد حتى داخل كل عمارة على حدة، لتعكس رؤية الدولة نفسها.
قام الإسكان الشعبي بعمل مشاريع سكنية في ثلاث مناطق شعبية بالقاهرة، هي إمبابة وحلمية الزيتون وحلوان، كان الهدف هو تحويل الفقراء إلى ملاك وأعيان بنظرة اشتراكية، امتلكت الشركات التي كانت تعمل لدى الدولة أو بالمعنى الدقيق شركات الدولة ذاتها تلك المشاريع فعملت عليها بشكل كامل، بالإضافة إلى بعض المشاريع السكنية الأخرى في أماكن متفرقة.
جاء نمط البناء مكررا وشبيها ببعضه البعض، وفق رؤية واحدة وشكل واحد، لا اختلاف ولا تفريق فيه، فلم يحقق المشروع النجاح المطلوب، حيث لم تبنى سوى 4066 وحدة فقط في تلك المناطق الثلاث التي كانت تستهدف 20 ألف أسرة، كما لم تثبت جدواها، حيث واجهت تلك العمائر مشاكل إنشائية على الناحية المعمارية.
تزامن هذا مع مرسوم خروتشوف في روسيا لسنة 1955 حول تصفية الفائض في التخطيط والبناء، حيث تم بناء مساكن روسية أقل حزما وأرخص بناء، باستغلال فراغات المدينة على الأطراف، بدلا من التكلفة العالية للبناء وسط المدينة، حيث تخلت روسيا عن التخطيط المتخصص ولجأت إلى أحادية النمط، فكانت كل المساكن متشابهة ونمطية ومكررة، لتخدم توجه الدولة نحو بناء رخيص السعر وسريع المنشأ يلبي رغبة الطبقة الدنيا وتحت المتوسطة.
مدينة نصر: نموذج للعمارة المنعزلة
قام مشروع مدينة نصر سنة 1958، ظهر هذا المشروع كحل حضري للقاهرة المختنقة، وميلاد مدينة جديدة تمثل فكر الثورة والنظام الجديد، كانت أحلام الدولة تتمثل فيها وفي عمرانها وتخطيطها.
أخذت الصحف والمجلات تروج لتلك الفكرة والمدينة بشكل كبير، وكان الهدف من إقامة تلك المدينة هو خدمة الطبقة المتوسطة وفوق المتوسطة كذلك، بالإضافة إلى إنشاء العديد من المنشآت الأخرى، مثل ملعب القاهرة لكرة القدم، ومناطق سياحية، ومنطقة للجامعة التي شملت جامعة عين شمس وجامعة الأزهر.
كان مشروع مدينة نصر في شكله ونمطه يعبر عن اتجاه الدولة الاشتراكي، حيث كانت العمائر يشبه بعضها بعضا، ومكررة بشكل نمطي، كما أن هيكل المدينة العمراني نفسه كان اشتراكي المبدأ والهيئة.
روجت الحكومة كذلك إلى “العفش” الحكومي، الذي تصممه الدولة مثل التلفاز والأثاث المنزلي الذي كان يصنع في مصانع الدولة المختلفة، كان نموذج الشقق في مدينة نصر من الداخل والخارج يعبر عن أنها بنت الدولة المدللة التي لا تخرج عن إطارها الذي وضعته.
الغريب في الأمر أن تلك النماذج المعمارية في مصر لم تراع البعد المجتمعي ولا الثقافي للتجمعات التي أنشأت فيها، وبعيدا عن العمائر التي بنيت في القاهرة ذاتها، فإنه بالذهاب إلى أرجاء مصر من قرى ونجوع ومدن مختلفة كانت العمارة واحدة ذات تكرار موحد، ولاختبار تلك الرؤية يجب النظر على مشروع المدارس الذي عملت الدولة على إنشائه.
يشتبك محمد الشاهد في كتابه الحداثة الثورية مع هذا الحدث بقوله: “كان الغرض من هذا النظام التعليمي الجديد تحقيق الولاء للدولة الثورية والتعاطف معها باعتبارها بانية لمجتمع جديد”[2].
وهو ما يبرزه خطاب الدولة نفسه، حيث تقول في الكتاب السنوي للجمهورية العربية المتحدة لسنة 1964: “إن الهدف من العملية التعليمية هو تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الثورة”.
أنشأ عبد الناصر العديد من المنشآت الحكومية، سواء وزارات أو هيئات حكومية، كان النمط في تلك البنايات واحدا ومكررا، حتى أنك في القاهرة يمكنك أن تميز عمائر عبد الناصر عن دونها من العمائر الأخرى، حيث يكون المبنى مستقيما بنوافذ عرضية أفقية وأسطح بيضاء وهيكل بنائي ضخم متشابك، وقد كانت تلك النماذج موجودة وبكثرة أيضا في روسيا آنذاك.
عملت الدولة على تبني المعماريين الذين يدينون بالولاء الكامل لمبادئ الثورة الاشتراكية، لكن وصاية الدولة كان لا بد منها في تحديد نوعية البناء والاستخدام وشكله، وكان الترحيب بالتأكيد واسعا وكبيرا من قبل تلك الزمرة من المعماريين.
يتحدث الشاهد عن هذا بقوله: “وبدلا من إثراء المبادىء الديموقراطية عن طريق دعم الحكم المحلي قلصت الدولة من دور الحكم المحلي وحولته إلى إدارة محلية مرتبطة هيراركيا بالسلطة في القاهرة، وذلك من أجل توفير رفاه متسارع”[3].
ونتيجة لذلك أتت كل المخططات موحدة الشكل والتنميط، بتصميم واحد في كل ربوع الجمهورية، باختلافاتها المناخية التي تتنوع بطبيعة الحال في توائمها مع العمارة.
يوجد سبب آخر انعكس على طبيعة البناء التي لم تكن على الشكل المطلوب، وهو الطلب المتزايد على إنشاء العديد من تلك البنايات مع قلة الموارد المادية، أدى ذلك بطبيعة الحال إلى تدني مستوى العمائر ومعالجتها المعمارية.
خاتمة
يبدو أن العامل المشترك بين روسيا ومصر آنذاك، كان سرعة الإنشاءات التي تتوافق مع فكر الدولة الاشتراكية رغم قلة الموارد المالية، وتركيز رأس مال العمارة والإنشاء في يد الدولة وحدها لا في يد الشركات والمؤسسات الخاصة المعنية بذلك، وقد أدى ذلك بطبيعة الحال إلى النمطية والتكرار وأحادية الرأي في العمارة.
وكما أسلفنا الحديث؛ كانت فترة ما بعد 1952 مميزة بعمارتها، والتميز هنا لا يعني أنها كانت إيجابية بقدر ما كان هذا النمط معروفا وذا توجه معين، شكلت الدولة في ذلك الوقت هذا النمط بنسبة أكبر من مصمميه أنفسهم، تدخلها المستمر فيه وتعديلاتها الدائمة عليه والأهم سرعة تطبيق الفكر والنظرية التي آمنت بها الدولة عمل على إنتاج شكل ونمط واحد ورئيسي للعمائر.
المصادر
[1] راجع الفصل الثالث من كتاب السعي للعدالة – خالد فهمي.
[2] محمد الشاهد، الحداثة الثورية – 288.
[3] محمد الشاهد، الحداثة الثورية – 292
تعليقات علي هذا المقال