يُعد علم الاجتماع من العلوم الاجتماعية التي كان لها أثرًا في فحص أسباب ودوافع وآليات التغيرات الاجتماعية الكبرى التي ظهرت كنتاج لمشروعات الحداثة، مثل الثورة الصناعية والأزمات الاقتصادية والاضطرابات السياسية والتغيرات الجذرية، وما تعقبها من مشكلات اجتماعية مثل التكدس السكاني واللامساواة الاجتماعية وأزمة الأسرة والعمل والنظام وغيرها.
لذلك؛ نشأ العلم علي أنقاض تلك المشكلات في محاولة لفهم الكيفية التي حدثت بها تلك الأزمات عن طريق مقاربات وضعية وتأويلية متحررة من اللاهوت من ناحية، ومغايرة لنهج الفلسفة الذي يدرس الجوهر ونهج التاريخ بجانبيه الظاهر والباطن بتعبير ابن خلدون من ناحية أخرى.
وعليه؛ فإن علم الاجتماع معني بالأساس بدراسة كيفية تشكل المجتمعات متأثرة بالأزمات والتحولات الكبرى، وكيفية تطور تلك التشكلات المجتمعية من مرحلة إلى أخرى، وكيفية عمل العلاقات الاجتماعية كنتاج للعلاقة بين الأفراد والمؤسسات في المجتمع.
ولفهم علم الاجتماع، فإننا أمام مستويين: الأول فكري، والثاني تطبيقي، وفي حين أن الأول يمثله الإطار النظري الذي يؤسس للكيفية التي نفهم بها المعرفة السوسيولجية، فإن المستوى الثاني يتمثل في ما حققه العلم فعليًا من خلال الكشف والتفسير والتشابك مع الوقائع الاجتماعية، عبر أدوات البحث المنهجية الكيفية والكمية، التي تسعى لفهم الظواهر الاجتماعية والنشاطات الإنسانية.
يحاول هذا المقال التشابك مع الجانبين النظري والعملي، من خلال فحص ما يسمى بـ”سوسيولوجيا المشكلات الاجتماعية”، وهذا للإجابة علي سؤال “فعالية حقل سوسيولوجيا المشكلات الاجتماعية بتعريفه الكلاسيكي والمعاصر في تفسير الواقع الاجتماعي المصري المعاصر” من خلال التعرض للآتي: ماهية سوسيولوجيا المشكلات الاجتماعية والخيال الاجتماعي ونظريات سوسيولوجيا المشكلات الاجتماعية (الفرضيات والأسباب والحلول)، ثم ننتقل إلي الجانب العملي من خلال تطبيق النظريات علي ظاهرة الجريمة في السياق المصري، وتُختتم الورقة بالعوائق والتحديات النظرية والمنهجية.
ماهية سوسيولوجيا المشكلات الاجتماعية والمخيال الاجتماعي
نبذة عن فروع العلم
بالرغم من انطلاق نظريات ومناهج وحقول علم الاجتماع من أسئلة كبيرة متشابهة، إلا أن الحقول الفرعية للعلم تبنت نقاط انطلاق مختلفة للإجابة علي أسئلة فرعية مختلفة أيضًا[1]. فمثلًا، ينطلق علم اجتماع العمل والمنظمات من تبني نظرة علي المستوى الكلي (ماكرو)، للإجابة علي سؤال وظيفة المنظمات، وكيفية تناغمها داخل النظام المجتمعي ككل، من منظور يحاكي الطبيعة البيولوجية لفهم المجتمعات[2].
أما علم اجتماع التغير والتحول؛ فيسعى إلى الانطلاق من منظور ديناميكي للإجابة علي طبيعة التحولات والكيفية التي تتم بها، وعلى مستوى آخر، يسعى علم اجتماع التربية إلى الإجابة عن سؤال تفاعلات الأفراد مع مؤسسات التنشئة الاجتماعية، ودورها في تشكيل وموضعة السلوك البشري، كما أنها تبحث الكيفية التي تتشكل بها رؤوس الأموال البشرية والاجتماعية للطلاب والآباء والمعلمين، ومدى تأثيرها علي العملية كاملة[3].
وإذا ما نظرنا إلي الأنثروبولوجيا الاجتماعية، فإن مشروعها الرئيس هو دراسة الطرائق التي تتكون بها المجتمعات في حالتها البدائية، ومن ثم دراسة ديناميكية تطورها أفقيًا وعموديًا، كما يتشابك علم الاجتماع مع العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى، مثل ما نرى في علم الاجتماع الاقتصادي، وعلم الاجتماع السياسي، وعلم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع الثقافي، وغيره من عشرات الحقول الفرعية التي تهدف إلى خدمة مبدأ تشابك واعتمادية وشمولية وتداخل العلم.
ماذا عن سوسيولوجيا المشكلات الاجتماعية؟
أما ما ندرسه في المقال فهو سوسيولوجيا المشكلات الاجتماعية، وهو الذي يحاول التقدم بالمفهوم العام للسوسيولوجيا بهدف تخطي النظرية إلى العمل بها، حيث تنطلق سوسيولوجيا المشكلات الاجتماعية من عدة منطلقات: أولًا، أن أسباب ودوافع وحلول المشكلات الاجتماعية تنبع من نتاجات تفاعل المجتمع وأفراده، أي أن تلك المشاكل هي حصيلة المؤثرات الخارجية والمؤثرات الداخلية، وبهذا يكون الحقل قد انطلق من منطلق لا يضع نفسه في إشكالات ثنائيات فُهمت على أنها متناقضات، وهي ليست كذلك مثل مسألة الفاعل والبنية، والخارجي والداخلي، والموضوع والذات العارفة.
ولهذا، فإن المشكلات الاجتماعية لا يمكن فهمها فقط بناء على مصطلحات وتفسيرات مُختزلة في العوامل الفردانية تعمل علي لوم الضحية، مثل أن الفقر هو نتاج الكثافة السكانية وزيادة عدد المواليد غير المتزن، أو أن الجريمة هي نتاج انحلال أخلاقي فردي، وعلي النقيض من ذلك، فإن المشاكل الاجتماعية التي يتعرض لها الأفراد يجب بحث أسبابها داخل عوامل المجتمع نفسه، أي يجب على الباحث الاجتماعي بحث العلاقات والهياكل والتفاعلات والمؤسسات والممارسات الاجتماعية، وفهم ديناميتها لفهم الأسباب والحلول، عوضًا عن لوم الأفراد أنفسهم.
ثانيًا، أن علم الاجتماع يجب أن ينتقل من التفسير إلى التغيير، وهذا عن طريق تحليل أسباب المشكلات الاجتماعية، واقتراح حلول تنطلق من قوالب وتصنيفات نظرية يتم تحويلها عن طريق العمل الاجتماعي إلى حلول عملية[4].
المخيال الاجتماعي كأداة مفاهيمية ذات قيمة منهجية
في العام 1959، أشار عالم الاجتماع الأمريكي رايت ميلز إلى أن المشكلات الاجتماعية لا يمكن أن تُفهم دون الانتقال من مستوى “المشاكل الشخصية” إلى “القضايا العامة”، في حين أن المشاكل الشخصية تُعد تلك المشاكل التي يفهمها الأفراد بهويتها “الخاصة”، أي أنها قضايا تتعلق بالأفراد أنفسهم، فإن القضايا العامة هي مرحلة التحول من الخاص إلي العام، وهذا يعني أن القضايا الاجتماعية والمشكلات التي يعاني منها الأفراد داخل المجتمع لا يمكن فهمها علي أنها أمور خاصة، وإنما كظواهر مجتمعية يجب تخيلها سوسيولوجيا، أي تفكيك مفاهيمها وفرضياتها بأدوات علم الاجتماع، وهنا يتكون مفهوم “المخيال الاجتماعي”.
وبمعنى آخر، فإن قيمة مفهوم الخيال الاجتماعي التفسيرية والمنهجية تكمن في كونه يفسر الفردي بالاجتماعي، فيري مثلًا أن مشكلة العاطل عن العمل تنبع عن عجز هيكل الموارد والفرص وخلل المؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، المسؤولة عن توفير الوظائف، ما يؤدي إلى مزيد من العاطلين عن العمل[5].
كما أن مفهوم المخيال الاجتماعي قادر علي دفع الأفراد للتخلي عن تمثلاتهم العامة عند النظر إلى المشكلات الاجتماعية، والتي ترى المشكلة في إطار البداهة أو في إطار اللامهم، ولكن علي العكس من ذلك، فمفهوم المخيال الاجتماعي يدفعنا بكوننا كائنات اجتماعية نحو “تحويل المخفي إلى ظاهر، واللامهم إلى مهم” وهذا هو جوهر العقل الاجتماعي التواصلي.
نظريات علم اجتماع المشكلات الاجتماعية (وحدات التحليل، الفرضيات، الأسباب والحلول)
الوظيفية (بنسختها الدوركايمية)
ترجع جذور التفكير الكلاسيكي للوظيفية إلى فكر دوركايم القائم على مفهوم “عضوية الجسد” و”الوظيفة”، بمعنى أن المجتمع يمثل جسدا مكونا من أعضاء، كل عضو فيه يقوم بوظيفة معينة للحفاظ على الجسد ككل، قامت فكرة الوظيفية عند دوركايم لدراسة النظم الاجتماعية (الاقتصادية والقانونية والدينية بالأخص) كونها جزءًا من النسق الاجتماعي الذي يحفظ الاتزان والانسجام المجتمعي من خلال أداء الوظائف.
كما أن الاندماج الاجتماعي يعد أمرًا مركزيًا تقوم عليه الركيزة الدوركايمية، والذي يعني مدى ترابط الأفراد بمؤسسات المجتمع، مثل العائلة والمؤسسة الاقتصادية والدين والثقافة بوصفها بنى وظيفية، أي أن كل منها لابد أن له وظيفة، وهذا من أجل مجتمع مستقر متماسك، أما في حال حدوث خلل وظيفي في إحدى وظائف تلك المؤسسات “أعضاء المجتمع”، فإن ذلك يهدد ضمان البقاء المجتمعي، بل وقد يؤدي لانهياره في لحظة ما.[6]
ترى المدرسة الوظيفية بنسختيها الدوركايمية والبارسونزية أن المصدر الأساس لفهم المشكلات الاجتماعية يتمثل في “المؤسسات الاجتماعية”، فضلًا عن أن المشكلة نفسها لها وظيفة إيجابية داخل المجتمع، وأنه لحل تلك المشكلات لا بد من تبني منهج إصلاحي تدريجي غير ثوري للتغيير، لأن التغيير المفاجئ يؤدي إلى صدمة وظيفية، ثم إلى دمار النظام ككل، بمعني أن هذا الاتجاه النظري يرى أنه مثلًا؛ للحد من الفقر لا بد من إصلاح المنظومة النيوليبرالية لا هدمها من جذورها، ولذلك تُنتقد النظرية بشكل كبير لنزعتها المحافظة، وهو ما أفقدها الكثير من قيمتها في الفكر السوسيولوجي المعاصر.[7]
نظريات الصراع الاجتماعي (ماركس)
تقوم دعامات الفكر الماركسي علي الإجابة عن سؤال: “لماذا تنشأ أشكال اللامساواة الاجتماعية”، وتُختصر الفرضية الماركسية الرئيسية في أن تاريخ المجتمع هو عبارة عن تاريخ صراع طبقي، بين مالكي رؤوس الأموال وعلاقات وأدوات الإنتاج وطبقة العمال التي لا تملك إلا عمالتها التي تبيعها في السوق، ولذلك، فإن المشكلات الاجتماعية تنبع من الصراع المادي علي المصالح الطبقية في السوق، هذا الصراع القائم علي مبدأ المنفعة والعقلانية لتعظيم المنافع والحد من الخسائر، وعلى نفس المستوى، فإن البنى التحتية هي ما يحدد البنى الفوقية، أي أن الاقتصاد يحدد كل شىء داخل المجتمع. [8]
وعند تحليل المشكلات الاجتماعية بالمفهوم الماركسي، فإن الباحث الاجتماعي لا بد أن ينظر إلي طبيعة هيكل السوق الرأسمالي التي تحمل نزعة تمييزية واستغلالية، ولحل المشكلات يقترح النهج الماركسي منهجًا أكثر ثورية عكس الطرح الدوركايمي، فيري أن لحظة التغيير لا تأتي إلا إذا تكون وعي جمعي طبقي صلب، يعي طبيعة استغلاله واغتراب أفراده عن العمل، وعن المجتمع، وعن أسرهم، بل وعن أنفسهم، وأن هذا الوعي الجمعي هو الطريق للثورة العمالية التي تقوم بتغييرات جذرية في الطبقات المالكة لرأس المال، والمنظومة السياسية الحاكمة، التي عادة ما تخدم ملاك رؤوس الأموال.[9]
إذًا، فالمشكلة الأساسية طبقًا لنظرية الصراع في نسختها الكلاسيكية تتعلق بالصراع علي الموارد المحدودة، وأن الحل يرتبط من جانب بالتغيير الجذري، ومن جانب آخر بمدى قدرة العناصر المتنازعة علي الموارد علي إيجاد قنوات تفاهم مشتركة، هذا حسب فهم عالم النفس الاجتماعي مظفر شريف.
التفاعلية الرمزية (هربرت ميد، بلومر، جوفمان)
تتخذ أطروحات هربرت ميد، وبلومر، وجوفمان، من التفاعلات وصناعة المعاني والرموز “الأكواد الاجتماعية”، وفهم الأدوار والتوقعات، وفهم الآخر، وحدات أساسية لتحليل المجتمعات، وترى الاتجاهات المختلفة لمدرسة التفاعلية الرمزية أن المشكلات الاجتماعية تنشأ نتيجة لتفاعل الأفراد، أي أننا نحدد معايير السلوك من خلال التأثر بالآخرين، فيما تُعالج المشكلات الاجتماعية من خلال تصحيح بوصلة التفاعلات والمعاني والتصورات التي يشكلها المجتمع.[10]
كيف تفيدنا سوسيولوجيا المشكلات الاجتماعية في فهم ظاهرة الجريمة في واقع المجتمع المصري؟
كرست العديد من الكتابات العربية جهودها في محاولة لتفسير المشكلات الاجتماعية، فمثلًا هناك كتاب “سوسيولوجيا المشكلات الاجتماعية وأزمة علم الاجتماع المعاصر” للدكتورة شادية علي قناوي، التي قدمت فيه تفسيرات وحلولًا لمشكلات من الواقع الاجتماعي المصري، مثل الجريمة والعنف والمخدرات والأمية.[11]
يمكن تفكيك مشكلة الجريمة التي تحدث في المجتمع المصري بشكل دوري، وبدرجات عنف متفاوتة من منظورات مختلفة، علي مستوى العلاقات السببية، أي لماذا تحدث، وما السبب، وما النتيجة، وعلى مستوى اقتراح حلول كذلك، وهنا تكمن أهمية سوسيولوجيا المشكلات الاجتماعية.
تري أطروحات المدرسة الوظيفية أن عموم المشكلات الاجتماعية هي ضرورية كجزء من هيكل المجتمع الوظيفي، فكما أن المجتمع بحاجة إلى مؤسسة دينية فهو بحاجة إلي الجريمة باعتبارها مؤسسة لها وظيفة إيجابية.
بمعنى آخر، أن الجريمة لها وظائف إيجابية داخل المجتمع، وإذا نظرنا إلى تلك الوظائف التي من الممكن أن تقوم بها الجريمة داخل المجتمع المصري، مثالا نرى أن ارتفاع معدلات الجريمة يأتي تزامنًا مع تحسن حالة التضامن داخل المجتمع، أي بمعنى الوحدة داخل أطياف نفس الحي أو القرية أو المدينة من أجل منع مثل تلك الجرائم، وهذا ما كان واضحًا أثناء وبعد تظاهرات ثورة يناير 2011.
أما الوظيفة الأخرى التي يمكن مشاهدتها من خلال الكيفية التي تضبط بها تلك الجرائم قواعد الإحكام المجتمعي، أي أن الجرائم تتيح فرصًا عديدة لإعادة ضبط النفس الذاتي للمجتمع ومؤسسات الدولة، وبالأخص مؤسسة القانون، كما أن الوظيفة الأكثر شيوعًا، وهو ما نلحظه في السياق المصري أيضًا، أنه كيف للجرائم أن تنتج وظائف عمل جديدة مثل وظيفة رجل الأمن والمحاماة والقضاء والتأهيل النفسي، كما أن الجريمة تتيح للمجتمع قدرًا من التغيير اللازم من خلال إعادة تعريف القيم والقوانين لإعادة وضع حدود جديدة، وهذا ما يخدم طبيعة تطور الحياة البشرية بمعنى الحاجة للتغيير المستمر، وعليه، فإن قدراً محدودًا من الجرائم هو أمر حتمي، كما أنه قد يكون مفيدًا علي المدى البعيد في خدمة جوانب داخل المجتمع المصري كما ذكرنا آنفًا، ولعل الاستخلاص الأهم هو أن الوظيفية ترى أن الجرائم نتيجة طبيعية للتفاوتات الموجودة داخل أي مجتمع، ولذلك فالوظيفيين يرون أن وجود الجريمة في المجتمع المصري لا بأس به إن بقي محدودًا، فهناك دائمًا ميل للانحراف عن الطبيعي داخل كل المجتمعات، وإلا ما تشكلت الظواهر.
أما عن معالجة مشكلة الجريمة فترى الوظيفية في إعادة هيكلة المؤسسات أمرًا هامًا، وهو ما قد تقوم به الجريمة بنفسها من خلال إعادة صياغة بعض القوانين، ومواد الدستور المصري، تحت ضغط المجتمع المدني وأعضاء البرلمان، أو عبر زيادة فرص العمل للحد من جريمة السرقة، أو من خلال إعطاء قدرا أكبر لمراكز التأهيل النفسي، أو بتجهيز المؤسسة العقابية والسجون، بحيث تعيد إنتاج مواطنين صالحين.[12]
باستخدام مصطلحات نظرية الضغط، فإن الجريمة تأخذ منحنى تصاعديًا بسبب توقعات المجتمع المرتفعة التي تفوق قدرة وإمكانيات الأفراد في الظروف الطبيعية، فمثلًا، يلجأ الطلاب للغش في اختبارات الثانوية العامة بسبب الضغوطات الواقعة عليهم من قبل الأهل، ويلجأ البعض للسرقة بسبب ضغوطات المسؤولية الأسرية، ويذهب الرجل للقتل بسبب الضغوطات التي تتعلق بمسألة الشرف، ويذهب عائل الأسرة للانتحار كترجمة للضغوطات النفسية التي يعاني منها بسبب عدم القدرة علي كسب العيش.
أما إذا فسرت نظرية الخلل “عدم التنظيم” الاجتماعي بتعريف عالمي الاجتماع كليفورد ودي ماكي، فإن القدر الأكبر من الجرائم داخل المجتمع المصري يقع في الأحياء التي بها قدرًا أكبر من سوء التنظيم الديموغرافي، فمثلًا؛ دائمًا ما نرى قدرًا أكبر من الجرائم في الأحياء ذات مستويات التعليم الأقل، ومعدلات الإدمان الأعلى، بالإضافة لمعدلات الدخل المنخفضة.
لذلك، فإن هذه الفجوات التي تقع علي عاتق المؤسسات تؤدي إلى مزيد من الأفعال الإجرامية في حالة عدم معجالتها، وبنفس السياق، علي مستوى متوسط، فإن الخلل الأسري الناتج عن الهيكل الجيناتي يزيد من احتمالية إنتاج أبناء فقراء أو أبناء مجرمين، فتتوارث الأجيال الفقر أو السلوك الإجرامي، كحال الأحياء في ديناميكتها لإنتاج الجريمة، ولذلك فإن بعض الأحياء المصرية يتم وصفها بأحياء السلاح والجريمة مثل حي الزاوية الحمراء بالقاهرة، أو كوم امبو بأسوان، أو العزبة الغربية بالمنوفية، وبنفس الكيفية وعلى مستوى الأسرة، يتم وصم بعض العائلات بإمكاناتهم الإجرامية مثل عائلات تهريب، وتجارة المخدرات، وعائلات السلاح، وعائلات بطلجية الأسواق، الخ.
علي جانب آخر، وعلى مستوى الأفراد، يمكن لنظرية التعلم الاجتماعي كأحد منتجات الخط التفاعلي الرمزي أن تفسر كيف أن السلوك الإجرامي هو نتاج تفاعلات وتأثر الأفراد ببعضهم البعض، أي أنها تفترض أن المجرم لا بد أنه تعلم سلوكه الإجرامي من مجرم آخر، أو من دائرة مجتمعه مثل الأسرة والأصدقاء، وهذه حصيلة رأس المال الاجتماعي “العلاقات التي تحفز السلوك الإجرامي” بتعبير بورديو.[13]، كما أننا نتعلم السلوك الإجرامي، فإننا بنفس الدرجة نتعلم تصوراتنا عن تلك السلوكيات الإجرامية، ونصنع معانٍ لها نستخلصها من المجتمع وتفاعلنا مع الآخرين، هذا بالإضافة إلي أننا نتعلم نظرة الآخر أيضا لتلك السلوكيات، فمثلا، كثيرا ما نرى جرائم قتل داخل المجتمع المصري حيث لا يرى المتهم فيها بالقتل مشكلة تجاه سلوكه، وهذا نابع من تصوره أن ما فعله ليس جريمة، وإنما حفاظ علي شرف أسرته، هذا علي مستوى تصورنا لدوافع الجريمة نفسها، أما المثال الأوضح علي تصورنا لنظرة الآخر لتلك الجريمة مثل تجارة الممنوعات، يمكن فهمه من خلال الكيفية التي يرفض بها بعض المجرمين عقوبات مؤسسات الأمن والقضاء، لكونهم يتصورون أن الذي يمتلك أدوات العقاب لا يملك الحق في تحديد معيار الصواب والخطأ، أو أن تلك المؤسسات شريكة في تلك الجرائم، وهذا يعتبر نوعا من رفض معايير السلطة.[14]، وبمفاهيم النظرية الصراعية في نسختها الماركسية الكلاسيكية، فإن الجريمة هي نتاج العلاقات الطبقية والصراع علي الموارد داخل المؤسسة الرأسمالية ذات الطبيعة التمييزية “الإجرامية بتعبير ريتشارد كويني”.[15]، ولذلك فإن بإسقاط ذلك الإطار النظري علي الحالة المصرية، فإننا نرى أنه تقع النسبة الأكبر من الجرائم والصدامات اللفظية والسلوكيات التعصبية أو الأحكام النمطية، والتحامل والتمييز داخل فئة المهمشين والعاطلين عن العمل، وساكني الأحياء الفقيرة، أو داخل المؤسسات التي بها فروقات مكانية رمزية واقتصادية شاسعة، إما بالصدام المباشر مع الطبقات الأكثر امتلاكًا للموارد مثل محتكري السوق من الشركات التابعة للجيش، أو بالصدام مع الطبقات الأقل امتلاكًا للموارد مثل طبقة المدراء ورواد الأعمال القريبين من دوائر صنع القرار.
أما عن الحل فيكمن في تعديلات هياكل المؤسسات الاقتصادية المصرية، بمعنى إتاحة الفرصة لمزيد من الحرية والتنافسية داخل السوق مع درجة أقل من الاحتكار، وتحسين السياسات العامة الاقتصادية والاجتماعية التي تتعلق بدولة الرفاه، ما يؤدي إلي درجة أفضل من توزيع وإعادة توزيع الثروات، ودرجة أقل من إنتاج وإعادة إنتاج الفقراء، وبدرجة قبول أقل داخل الجماعة العلمية السوسيولوجية، فإن الجريمة يمكن تفسيرها داخل المجتمع المصري كحال العديد من المجتمعات بمفاهيم “الخيار العقلاني”، أي أن المجرم يقوم بجريمته بناء علي حسبة المنافع والخسائر، والإرادة الحرة، مع تحييد عوامل التفاعل والمؤسسات، إلخ.
ومن خلال هذا نستطيع أن نفهم جملة تتوارثها الأجيال الكادحة، وهي “معنديش حاجة أخسرها” أو “علي الأقل في السجن هكون باكل وبشرب”، فنري أن الكثير من المجرمين يكونون من فئات قليلي الدخل، غير المتزوجين، ذوي العلاقات المجتمعية الهشة والروابط ودرجة الانسجام الضعيفة مع المؤسسات، ولذلك فإن الأقل امتلاكا لتلك المقومات الاجتماعية من أسرة ودخل وتفاعلات فعالة هم الأكثر عرضة للخوض في عمليات إجرامية، مثل القتل والسرقة والإغتصاب والعنف الجسدي.
عوائق وتحديات
تتلخص العوائق والتحديات التي تقع أمام علم الاجتماع في مستويين.
أولًا، علي مستوى منطلقات ونظرية العلم، كحال العديد من العلوم الاجتماعية، فإن علم الاجتماع ينطلق من منطلقات لها طابع “إثنو مركزي”، فبالرغم من التأثير الواضح لمدرسة فرانكفورت النقدية في علم الاجتماع، ونقدها لمنتجاب الحداثة والتفسيرات الكلاسيكية لعلم الاجتماع، وبالرغم من تأثير إبن خلدون الواضع في الجامعات العربية خاصة المغاربية، إلا إننا ما زلنا ننطلق من منطلقات أوروبية كلاسيكية فرنسية وألمانية، فمثلا ننطلق دائما لفهم اللامساواة والفقر من منطلقات ماركسية، وعندما نريد أن نفهم الانتحار نذهب مباشرة إلى المنطلق الدوركايمي، أما إذا أردنا أن نفهم البيروقراطية بمعناها الرشيد أو السلطة أو الفعل الاجتماعي، فإن المدخل يكون فيبري بحت، أرى أنه لا مجال للهروب من ذلك، فتاريخ أوروبا يشكل جزءا كبيرا من تاريخ العلوم الاجتماعية والإنسانية، ولكن لا بد من تطوير أدوات ونظريات تناسب خصوصية السياقات الداخلية الخاصة بشعوبنا العربية، وهو ما حاول فيه أساتذة علم الاجتماع العرب، ولكن المنطلق ما زال أوروبيا، وقد بدأت بالفعل حالة فكرية جديدة بعد انتفاضات الربيع العربي، حيث بدأت الجامعات العربية بتطوير ما يسمى “سوسيولوجيا الربيع العربي”، هذا إضافة للتوسع الحاصل في الكتابات باللغة العربية للتشابك مع المختصين بالعلم محليا، وباللغة الإنجليزية ولكن بعقول عربية للتشابك مع الجماعة العلمية عالميا.
ثانيا؛ علي مستوى المنهج، وهذا يعني أن الأدوات المنهجية لعلم الاجتماع لا بد أن تعمل متشابكة مع بعضها البعض لا متقابلة، أي أن الكيفي الذي يعتمد علي مقابلات واستكشافات وجلسات بؤرية وتحليل خطاب لا يتعارض مع الكمي الذي يعتمد علي الاستبيانات والتحليل الإحصائي، فموضعتهم بالشكل التقليدي أي كونهم متناقضين يفقد الأدوات قيمتها المنهجية، وإن تشابك تلك الأدوات في البحث يعمل علي كشف جوانب أعمق من المعرفة داخل المجتمعات.
أما بما يخص المنهجية التي يتبعها علم الاجتماع المصري، فهي لا تتبلور بشكل واضح في الكتابات الكلاسيكية لسيد عويس خاصة مؤلفيه “هتاف الصامتين”[16] و”حديث عن الثقافة”، بالإضافة إلي كتابات سعد الدين إبراهيم، وأحمد زايد وغيرهم، فيما كان التركيز الأكثر علي القضايا نفسها بغض النظر عن الكيفية التي تُدرس بها تلك القضايا، وتتكون بها السلوكيات التي تتحكم في الواقع الاجتماعي، بالإضافة إلي ذلك؛ فإن العلاقة الجدلية بين المعرفة والسلطة في ظل حكومات قمعية جعلت من شفافية الاحصائيات وحيادية المراكز التابعة لمؤسسات التعليم العالي المصرية محل شك كبير.
المصادر
[1] Ritzer, George. Sociological Theory (Eighth Edition. New York: McGraw-Hill, 2004), 12-35.
[2] Watson, Tony. Sociology, work and organisation (Seventh edition. NY: Routledge, 2017), 23-46.
[3] Abada, Teresa and Eric Y. Tenkorang.( “Pursuit of University Education Among the Children of Immigrants in Canada: The Roles of Parental Human Capital and Social Capital.” Journal of Youth Studies, 2009), 190–207.
[4] Kendall, Diana. (Social Problems in a Diverse Society, 6th Edition. Texas: Baylor University, 2013), 4-17.
[5] – Mills, Wright. (The sociological imagination. London, United Kingdom: Oxford University Press, 1959), 45-89.
[6] Ritzer, George. Sociological Theory (Eighth Edition. New York: McGraw-Hill, 2004), 77-98.
[7] Ibid, 77-98.
[8] Marx, Karl, & Engels.The communist manifesto. ( In Marx and Engels: Selected works (Vol. 2). Moscow, Russia: Foreign Language Publishing House, 1962.), 20–54.
[9] Hayes, Adam. Conflict Theory. (New York: Investopedia, 2020), full article.
[10] Blumer, Herbert. Symbolic Interactionism: Perspective and Method. (London: University of California Press, 1969), 20-245.
[11] شادية على قناوي، (سوسيولوجيا المشكلات الاجتماعية وأزمة علم الاجتماع المعاصر. (القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 2000)، 181-207.
[12] المرجع السابق، 95-120.
[13] (1994بورديو، بيير. العنف الرمزي بحث في أصول علم الاجتماع التربوي. ترجمة نظير جاهل. (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 35-57.
[14] Jensen, Gary. Social learning theory and the explanation of crime: a guide for the new century. (New Brunswick, N.J.: Transaction, 2003), FB.
[15] Quinney, Richard. Critique of legal order: crime control in capitalist society.(6th edition.Boston: Little, Brown, 1973), 75-96.
[16] سيد، عويس. هتاف الصامتين: ظاهرة الكتابة على هياكل المركبات في المجتمع المصري المعاصر. (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 2013)، 15-37.
تعليقات علي هذا المقال