تناول إيمانويل ماركس Emanuel Marx في كتابه (البدو في جبال سيناء – Bedouin of Mount Sinai) نمط حياة القبائل البدوية ومعيشتهم من منظور أنثروبولوجي، وركز على الاقتصاد السياسي للمجتمع البدوي في سيناء، وعلى وجه الخصوص القبائل التي تسكن في وسط وجنوب سيناء كنموذج لدراسة سلوكهم.
إيمانويل ماركس هو عالم أنثروبولوجي ألماني المولد، لكنه يحمل الجنسية “الإسرائيلية”، حيث يعمل كأستاذ في قسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا بجامعة تل أبيب، يتميز إيمانويل في أبحاثه باعتماده على الدراسات الميدانية، إذ كانت رسالة الدكتوراه الخاصة به عن قبائل وبدو النقب جنوب فلسطين المحتلة، وقد عمل على دراستهم بشكل ميداني لمدة 18 شهرًا بين عامي 1960 و1963، وهو الأمر الذي أكسبه خبرة في فهم البدو بشكل عميق، كما عمل إيمانويل مع الإدارات الميدانية “الاسرائيلية” في الجنوب المحتل لتعزيز وضع السياسات المناسبة في التعامل مع البدو واللاجئين الفلسطينيين.
تردد إيمانويل على سيناء في زيارات متفرقة بعد احتلال “إسرائيل” لها، وذلك بين عامي 1972 – 1982، حيث أقام في سيناء نحو 12 شهرًا بشكل متقطع، وذلك لتطوير زاوية البحث والتي ركز فيها على الاقتصاد السياسي للبدو، خلص فيها إلى أن مفتاح فهم البدو يكمن في دراسة هجرة اليد العاملة.
وفي عام 2009 زار سانت كاترين وسط سيناء، وكانت زيارة مهمة، حيث قام بتدوين ملاحظات على التغيرات التي طرأت على بدو سيناء والتي وصفها بـ(التغيرات الدراماتيكية)، وكان يركز بشكل أساسي على دراسة انعكاس السياسات الاقتصادية العالمية والإقليمية على سلوك البدو، ودرس كذلك ممارسات الدولة وسياساتها في حكم البدو أو سوء إدارتهم، وكيف انعكس ذلك على اكتساب البدو لطرق وأساليب مختلفة لكسب رزقهم.
العيش على هامش الدولة
في السابق كانت قبائل سيناء تعتمد على ما تنتجه من اللحوم والصوف والمنتجات الحيوانية والزراعية المختلفة للمتاجرة بها، بجانب بعض المهن الرئيسية كنقل البضائع والسياح بالجمال، لكن مع دخول استثمارات الدولة المصرية أصبحت المدن التي اكتظت بالسكان تعتمد بشكل أكبر على موردين وتجار كبار من خارج سيناء، فيما أصبحت منتجات القبائل تذهب في إطار الاستخدام الشخصي والاكتفاء الذاتي الأسري، أو ضمن دائرة الاقتصاد الصغير خارج إطار الدولة والحكومة.
وبالرغم من إنتاج البدو إلا أنه لم يعد يكفيهم للاستغناء عن الدولة وخدماتها، فالمهن التي تعتمد عليها القبائل غير مستقرة لاعتبارات تتعلق بالمناخ والفصول الأربعة، والمحددات التي تضعها الدولة في سياساتها الاقتصادية بالمنطقة، والتي غالبًا ما تستثني القبائل منها، أو تضعهم في إطارات صغيرة ومحددة، وليس في هيئة تشاركية أو رئيسية، على سبيل المثال؛ عندما يتم بناء فندق كبير أو مصنع يتم الاعتماد بصورة رئيسية على عمال من محافظات من خارج سيناء، حيث يتوفر عندهم المهارة والخبرة والتدريب اللازمين لتشغيل المشروع، فيما تبقى بعض المهام والوظائف المحدودة لبدو سيناء.
تسعى القبائل إلى توفير مصدر رزق ثابت تستطيع الاعتماد عليه، لذلك تعمل على إيجاد مصدر رزق يعوض حالة التهميش التي تعاني منها، وهو غالبًا ما يحدث خارج المنظومة الاقتصادية والتنموية التي تنشئها الدولة ورجال الأعمال، ويعد التهريب بشتى أنواعه أحد المصادر الرئيسية التي تعتمد عليها كمصدر دخل، يتبعها ما تنتجه المزارع والحيوانات والترابط الأسري والقبلي، والمقصود بالترابط الأسري هنا هو التكافل الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء داخل القبيلة وبطونها.
أشار إيمانويل إلى أن عدم توفير خدمات مناسبة وأساسية للبدو خلال سيطرة كلا من مصر و”اسرائيل” على المنطقة، جعل بدو سيناء يعيشون نمط حياة قاس، هذا بخلاف تأثير الحرب والصراعات المتكررة عليهم، فقد دفعت الحرب أفراد القبائل إلى الاعتماد الذاتي على مواردهم المحدودة، والعمل على تنميتها، مع تكاتف أفراد القبائل مع بعضهم البعض لتغطية الاحتياجات الأساسية لمن تضرر بشكل كبير، وغالبا ما يقوم بهذا الدور رجال الأعمال، أو التجار الكبار ضمن أفراد القبيلة.
امتهن بعض بدو جنوب سيناء مهنة التهريب والتجارة بالمخدرات منذ خمسينيات القرن الماضي، ثم توقفت أعمالهم بعد احتلال “اسرائيل” لسيناء، حيث كان التحرك والتنقل داخل سيناء خطيرًا للغاية، فضلًا عن الانتقال من سيناء إلى محافظات غرب قناة السويس، فخلال حرب الاستنزاف كان يتم تقييم أي تحركات غير اعتيادية باعتبارها هدفًا عسكريًا أو استخباريًا وليس هدفًا مدنيًا، لذلك عمل معظمهم في المشاريع التي أطلقتها “إسرائيل” في مدن جنوب سيناء كعمال، فيما انصرف بعضهم إلى الاعتماد على ما تنتجه مزارعه وبساتينه.[1]
أما في شمال سيناء فقد تعلم السكان الزراعة بالتنقيط وبناء المساكن بالطرق الحديثة من خلال عملهم مع “الإسرائيليين”، أو في مشارييعهم داخل فلسطين المحتلة، وهو ما ساهم في استيعاب مرحلي للقبائل في الفترة الممتدة من (1967 حتى 1982)، فيما أكسبهم ذلك مهارات مناسبة في التكيف مع الظروف القاسية، ومع ذلك يسهل تمييز البدو عن سكان المدن في سيناء، حيث يفتقر أغلبهم للتعليم العالي والتدريب المهني في ظل الغياب شبه التام للخدمات والبنى التحتية التي لا توفرها الدولة بشكل عام.
كما تحدث إيمانويل عن أهمية قطاع السياحة في تنمية الاقتصاد المحلي لبدو وقبائل سيناء، حيث دون العديد من ملاحظاته خلال استقراره في منطقة دير سانت كاترين، باعتباره موقعًا سياحيًا دوليًا يزوره يوميًا نحو ألف شخص من جميع أنحاء الشرق الأوسط وأوروبا، وأشار إلى أن الاعتماد على السياحة الخارجية هو العنصر الأهم، وذلك بعد توقف السياحة الداخلية بين القبائل التي كانت نمطًا هامًا في الحياة البدوية، ومصدرًا لاكتساب الرزق في السابق، حيث كانت تنظم قوافل “الحج القبلية”، وهي عبارة عن مزارات للقبور والقديسين والجدود، فيما اقتصرت حاليًا على رحلات شخصية محدودة وليست لها طابع جماعي كما في السابق، حيث كان بالإمكان تحقيق مكاسب تجارية منها.
التهريب وتجارة المخدرات
أشار إيمانويل إلى الدور المحوري الذي تلعبه تجارة المخدرات في ازدهار حياة بعض القبائل وسكان المدن مع تنامي البطالة وانعدام فرص العمل المناسبة للبدو، يبيع البدو “الحشيش” للمصريين فيما يبيعون أنواع أخرى للسياح ونزلاء الفنادق، وهو ما صرف جزءً من البدو عن رعاية قطعان الماعز، والاهتمام ببساتينهم في الجبال التي جف جزء كبير منها بسبب الإهمال، ورغم الحياة القاسية لا يزال جزء من البدو يهتم ببساتينه باعتبارها مصدرًا هامًا للغذاء، أو باعتبارها تقليدًا عائليًا متوارثًا، أو لتوقع بعض البدو المزيد من الاضطرابات الاقتصادية والسياسية، كما أثر هذا على نمط الحياة اليومية للرجل والمرأة حيث يقضون جزءً كبيرًا من وقتهم في المنزل، كما انعكس هذا التغيير في شكل أزيائهم في الأماكن العامة ومهارات التواصل.
استثمر العديد من تجار المخدرات ومهربيها في زراعة الخضروات والتبغ للتجارة البينية فيما بينهم، وكلما زادت القيوض المحلية والإقليمية في التجارة وحركة المخدرات أو تجدد الصراعات رجع البدو إلى زراعة ما يكفيهم من احتياجاتهم الأساسية كما حدث في التسعينيات، فيما لا يزال هناك عدد قليل ومحدود ممن يزرعون ليبيعوا منتجاتهم في جنوب سيناء، بينما الأصل هو أن يبيع البدو الفائض فقط من زراعتهم كالخضروات والفواكه للغير وهي كميات محدودة.
يعيش البدو في كثافة سكانية منخفضة، وفي ظروف اقتصادية وسياسية متقلبة بشكل كبير، أجبرت هذه الظروف البدو على التكيف باستمرار مع المتطلبات الجديدة، والتحول من مصدر رزق إلى آخر، ووصف إيمانويل حياة البدو بأنها عبارة عن “سلسلة لا نهاية لها من التكيف مع الظروف المتغيرة السريعة”، وهو ما يجعلهم يبذلون جهدًا كبيرًا للحفاظ على نظام معقد من الضمان والتكافل الاجتماعي.
ذكر إيمانويل أن بداية تهريب الحشيش والأفيون كانت في الخمسينيات من القرن الماضي، عندها بدأت تجارة المخدرات تساهم في اقتصاد البدو لتصبح أكثر أهمية من الناحية الاقتصادية، الأمر الذي خلق حوافز لرفع معايير الاستهلاك، فيما ازدادت هجرة اليد العاملة بشكل أكبر وقت الاحتلال “الإسرائيلي” لسيناء، وأشار إلى أن ذلك يرجع إلى أربع أسباب رئيسية في نظره،[2] وهي:
-
انخفاض تهريب المخدرات نتيجة المخاطر الكبيرة وقتها بسبب الحرب القائمة بين مصر وإسرائيل”.
-
توفر العمل في المنشآت النفطية ومجال البناء في سيناء، والذي كان في السابق حكرًا بشكل أساسي على العمالة المصرية القادمة من خارج سيناء.
-
المبادرات الاقتصادية الاستعمارية “الإسرائيلية” وما سببته من توفير فرص عمل جديدة في سيناء.
-
إغلاق السوق المصري أمام منتجات حدائق البدو، وبالتالي أصبح من الضروري عليهم البحث عن دخل بديل، على الرغم من العثور على عمل إلا أن التنقل لم يكن أمرًا سهلًا، وهو ما دفع البدو العاملين إلى العمل لمدة ستة إلى عشرة أسابيع ثم يقضون ما بين أسبوعين إلى أربعة أسابيع في المنزل.
قال إيمانويل أن تهريب الحشيش أصبح سمة رئيسية ودائمة لاقتصاد بدو جنوب سيناء في الخمسينيات والستينيات، ومرة أخرى في الثمانينيات، مفسرًا ذلك بأن البدو يعتبر تهريب الحشيش وغيره من المخدرات عملاً اقتصاديًا مشروعًا وليس نشاطًا إجراميًا بسبب عدم احترام الدولة نفسها للقوانين، ووصفه بـ”الاعتقاد الراسخ”، حيث يلاحظ البدو الذين ينتقلون إلى داخل المدن المصرية انتشار الحشيش وتعاطيه دون وجود قيود حازمة كافية.
ويمكن تفسير ذلك لاعتبارات تتعلق بتعامل الدولة المصرية وأجهزتها مع البدو كمواطنين درجة ثانية، فيما يعتقد بعض البدو أن تعامل الدولة مع تجارة المخدرات بشكل حازم في بعض الفترات يرجع لأسباب سياسية وأمنية مرتبطة بعمليات التهريب مع قطاع غزة وليس من أجل منع تجارة المخدرات ذاتها.[3]
خاتمة
فرضت الطبيعة الأمنية للمنطقة التي يعيشها سكان وقبائل سيناء سمتًا وسلوكًا حادًا على طبائع البدو، تمتد بعض القبائل السيناوية إلى داخل قطاع غزة وفلسطين المحتلة، وهي حدود يغلب عليها طبيعة أمنية حساسة.
تميل الحكومات في التعامل مع القبائل (البدو الرحل) على أنها مشكلة اجتماعية، ويفسرون أسلوب حياتهم البدوي على أنه خالٍ من الالتزامات المدنية، مثل الخدمة العسكرية ودفع الضرائب، وهي مفاهيم لها ارتباط بالحكام الاستعماريين الأوروبيين والدول القومية الحديثة، ويعود هذا التحيز في المقام الأول إلى الصعوبات العملية في الإشراف المنتظم على السكان الرحل دون عنوان ثابت، حيث يسمح هذا التنقل لبعض البدو بالتنصل من التزاماتهم تجاه الدولة (على الأقل لفترة من الوقت)، ما يجعل الدولة تنظر لهم على أنهم مواطنون سيئون، أو أنهم غير منتجين، وبتفسير آخر وصفه إيمانويل بعبارة “أنهم لا يدخلون في العجلة الاقتصادية للدولة”،[4] لذا تتعامل معهم كمواطنين درجة ثانية، ولا تقدم لهم الخدمات كاملة حتى لا يستغلونها في تعزيز قوتهم، وهو ما يدفع الحكومات إلى معاملة البدو كما لو كانت مجموعات مستقلة، تتخيلهم الحكومة مجتمعًا مغلقًا.
وفي ظل تنامي الحساسيات الأمنية في منطقة سيناء تندفع الأجهزة الأمنية إلى تفسير هذا الاستقلال بأنه حالة من التمرد، وبأنه نمط حياة خارج الدولة يجب إدخاله وإخضاعه لنفوذ وسيطرة الدولة، والحقيقة هي أن نمط حياة البدو بهذا الشكل له عوامل خارجية مؤثرة أكبر من العوامل الداخلية المرتبطة بشكل أساسي بسياسات التنمية التي تنفذها الدولة في سيناء.
وكذلك الأمر بالنسبة لتطور نمط الصراعات المستمر دون توقف، حيث كثرة الحروب والصراعات في فلسطين وقطاع غزة التي غالبًا ما تكون سيناء بحكم موقعها الجغرافي طرفًا فيها، وهو ما جعل سكان سيناء وقبائلها يتأقلمون مع الظروف الصعبة والاستثنائية، لذلك فإن من الطبيعي أن نجد عندهم خاصيتين مهمتين في سلوكهم فيما يتعلق بالاقتصاد والمعيشة: الأول؛ تأقلمهم وتكيفهم مع التغيرات الصعبة، والثاني؛ استعدادهم لاستغلال الفرص مهما كانت خطورتها من أجل توفير دخل يكفي لفترات طويلة من الزمن.
المصادر
[1] Marx, Emanuel. Bedouin of Mount Sinai: An anthropological study of their political economy. Berghahn Books, 2013. P 38 – 46
[2] Marx, Emanuel. Bedouin of Mount Sinai: An anthropological study of their political economy. Berghahn Books, 2013. P 88
[3] Marx, Emanuel. Bedouin of Mount Sinai: An anthropological study of their political economy. Berghahn Books, 2013. P 103
[4] Marx, Emanuel. Bedouin of Mount Sinai: An anthropological study of their political economy. Berghahn Books, 2013. P 99 -101.
تعليقات علي هذا المقال