“انظر لأحجار الدومينو واطرق واحدًا منها، وانظر ماذا سيحدث لآخر حجر دومينو بالتأكيد سيسقط بسرعة أكبر” الرئيس الأميركي الأسبق دوايت أيزنهاور
تُمثِّل تلك المقولة لأيزنهاور اختصارًا لما يسُمي بـ”نظرية الدومينو”؛ ففي شهر أبريل عام 1954 ردَّد الرئيس الأمريكي هذه المقولة خلال مؤتمر صحفي مُعبرًا عن النظرية دون أن يسميها، حيث كان يرى أن السيطرة الشيوعية على فيتنام ستؤدي إلى انتصارات شيوعية مماثلة في الدول المجاورة في جنوب شرق آسيا مثل لاوس وكمبوديا وتايلاند والهند واليابان والفلبين وإندونيسيا وصولًا حتى إلى أستراليا ونيوزيلندا، وكان صُنَّاع السياسة الخارجية للولايات المتحدة قد تبنُّوا سلفًا هذه الفكرة، ليُدرج مجلس الأمن القومي نظرية الدومينو في تقريره عن الهند الصينية عام 1952.
نشأة نظرية الدومينو وافتراضاتها
كانت الخلفية المباشرة التي أثَّرت في نشأة هذه النظرية، تعود إلى عاملين أساسيين: الأول؛ مصير انتصار القوى الثورية بقيادة ماو تسي تونغ في الحرب الأهلية الصينية، وتخوُّف بعض السياسيين الأميركيين عام 1947 من أن يكون سقوط الصين في يد ستالين بداية لسقوط آسيا بأكملها.
والثاني؛ نشوب الحرب الباردة بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي، في ظل صعوبة حسم الخلافات بين المعسكرين بقوة السلاح والمعارضة الشديدة لحرب عالمية جديدة، وإدراك طبيعة الدمار المتبادل الذي ستولِّده الحرب بعد تطوير الاتحاد السوفييتي للسلاح النووي عام 1949.[1]
وتفترض هذه النظرية وجود قوة خارجية قادرة على زعزعة حالة الاستقرار القائمة بين مجموعة متجاورة من الكيانات المنتظمة في ترتيب معين، وتفترض أنه بمجرد نجاح تلك القوة في زعزعة استقرار أيٍّ من تلك الكيانات؛ تبدأ موجة من عدم الاستقرار تمس كل عنصر من عناصر النظام، الواحد تلو الآخر، ولهذه الموجة سرعة في الانتشار تتأثَّر بمدى توافر قدرة ذاتية لدى العناصر التي تسقط أولًا على تعزيز انتشار أثر الموجة.
ومن شروط تحقُّق هذه النظرية أن تكون المسافة الفاصلة بين الكيانات المُكوِّنة للنظام متساوية، وأن تسقط بسرعة معينة، وأن يكون لدى تلك الكيانات استعدادا للتأثُّر بالموجة، وتُعلي هذه النظرية من أهمية العامل الخارجي لإحداث تغيير ما في دولةٍ ما، وقد استُخدمت هذه النظرية في مجال النظم السياسية المقارنة وتوصَّلت الدراسات التي استخدمتها إلى أن ارتفاع وانخفاض درجة الديموقراطية في دولة معينة؛ ينتشر ويعدي جيرانها من الدول، ومن ثمَّ فإن التغيير داخل دولة معينة يحدث تغييرًا مماثلًا في الدول المجاورة لها، بما يشبه أثر العدوى. [2]
وقد استخدمت الولايات المتحدة نظرية الدومينو لتبرير تدخلها في الحرب الفيتنامية في عهد جون كنيدي في ستينيات القرن العشرين، للحفاظ على فيتنام الجنوبية من السقوط في فخ الشيوعية، على اعتبار أن سقوطها سيؤدي إلى سقوط دول أخرى في الشيوعية، وبعد اغتيال جون كينيدي، استخدم الرئيس الأميركي ليندون جونسون كذلك نظرية الدومينو لتبرير تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في فيتنام من بضع آلاف لأكثر من نصف مليون جندي على مدى السنوات الخمس اللاحقة.
كما كانت هذه النظرية هي السبب الأساسي لوقوف الولايات المتحدة في مواجهة أي تغيير ديمقراطي في دول أميركا اللاتينية التي كانت تعتبرها فناءً خلفيًا لها، ووقفت في مواجهة التحولات الاجتماعية والسياسية في هذه الدول، بل وساندت انقلابات عسكرية فيها من أجل وقف تحول هذه الدول إلى الديمقراطية، ولعل أشهر هذه الانقلابات كان في غواتيمالا في خمسينيات القرن الماضي، ونفس الأمر حدث في جمهورية الدومينيكان ودول أخرى في القرن العشرين، منها بالطبع تشيلي في السبعينيات، والأرجنتين ونيكاراغوا وغيرها في عقود أخرى.
دومينو الثورات الإفريقية
بعد نجاح الثورات في عدة دول إفريقية، وسقوط عدد من الحكام المستبدين؛ عادت للواجهة من جديد نظرية الدومينو؛ حيث توافرت الشروط -السابق ذكرها-، فقامت ثورة شعبية في تونس أسقطت زين العابدين بن على، وتبعتها الثورة في مصر لتسقط حسنى مبارك، وتبعتهم ليبيا وبوركينا فاسو، ثم الجزائر والسودان ومالي، في تطبيق حرفي لنظرية الدومينو.
ويُمكن القول أن التأثير الأساسي الذي يُمكن أن يتعلق بنظرية الدومينو، فيما يخص الحالة الإفريقية وانتشار الاحتجاجات في أكثر من بلد إفريقي، هو أن نجاح الثورة التونسية على الرغم من وجود نظام تسلطي قمعي بوليسي، قد جعل المصريين يكسرون حاجز الخوف، ويدركون أن إسقاط مثل هذه النظم القمعية ممكن، لكنه يحتاج فقط إلى إرادة قوية ونفس طويل وتكاتف جماعي، وهو ما حدث في مصر، وعندما نجح التحول في مصر بما لها من دور مركزي عربي وإفريقي، وبما حظيت به من اهتمام عالمي وردود فعل دولية، أعاد الأمل إلى شعوب أخرى كانت تعاني من القمع وسيناريو توريث الحكم وفقدان الأمل في التغيير، وهو ما حدث فيما بعد في الدول الأخرى.[3]
وكان المؤرخ والمفكر البريطاني “إيريك هوبزباوم” قد أشار لهذا المعنى في التسعينيات؛ حيث عرَّف الثورة بأنها تحوُّل كبير في بنية المجتمع، وأشار إلى أربعة عناصر يجب الوقوف عليها عند الحديث عن الثورة، أولها؛ الخصوصية: حيث لكل ثورة خصوصيتها من حيث الزمان والمكان، وثانيها؛ النصر: ويعني انتصار منظومة جديدة على المنظومة القديمة، وثالثها؛ التراكمية: حيث يرجع تفجُّر الثورة إلى عوامل متراكمة عبر السنين، أحدثت ضغطًا على القاعدة فولَّدت الانفجار الذي يتمثَّل في حالة الثورة، ورابعها؛ البُعد الجغرافي للثورة “نظرية انتشار العدوى”:[4]
ويُعنى بأثر العدوى التقليد للتحول الديمقراطي الناجح من دولة إلى أخرى، حيث يُشجِّع ذلك على إحداث تحول ديمقراطي في دولة أخرى بنفس الطريقة، فالدول مثل الإنسان عادةً ما يسعى إلى تقليد غيره من الناجحين، والتقليد يشبه إلى حدٍّ كبير كرة الثلج التي يتزايد حجمها كلما تدحرجت.
ولعل من العوامل المساعدة على انتقال العدوى بصورة أكبر؛ ذلك التطور الهائل في نظم الاتصالات وشبكات الإذاعة المرئية والمسموعة وسهولة التقاطها في كل أنحاء العالم، رغم محاولة بعض الحكومات حجب وصول مثل هذه الأخبار إلى شعوبها، إلا أنها كانت تنتقل بأكثر من وسيلة إلى الشعوب مما أتاح فرصة للرأي العام العالمي للتأثير على شكل وبلورة الرأي العام الداخلي، إلى جانب هذا تلعب عوامل أخرى دورها في تحقيق أثر العدوى مثل التشابه الثقافي والحدود الجغرافية[5]، وكان المد الثوري للدول العربية والإفريقية تجسيدا وتطبيقا حقيقيا وفعليا على مدى تأثير وفاعلية عدوى التحول الديمقراطي كعامل مهم من عوامل التحول.
وفي القارة الإفريقية؛ لا تلبث أن تنتهي لعبة دومينو لتبدأ أخرى؛ فبينما شهدت دول القارة الإفريقية تراجعًا في معدل الانقلابات في حقبة الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن العشرين، ارتفعت معدلات الحروب الأهلية التي وصل مداها خلال منتصف التسعينيات، حيث بلغ عدد الحروب والصراعات الأهلية بالقارة نحو 15 حربًا، ومع مطلع الألفية الجديدة والقرن الحادي والعشرين خفتت حدة الحروب الأهلية، لكن سرعان ما عاودت ظاهرة الانقلابات العسكرية البروز من جديد، لاسيما كتحول لمسار الثورات الشعبية.
دومينو الانقلابات الإفريقية
مهَّدت مصر للانقلابات أيضًا كما مهَّدت للثورات، حدث ذلك بعد الانقلاب العسكري في مصر 2013، والذي تبعه انقلاب في بوركينا فاسو 2014، وخلال أقل من عامين، شهدت إفريقيا خمسة انقلابات عسكرية ناجحة اثنان في مالي وواحد في غينيا وواحد في السودان وواحد في بوركينافاسو.
وفي تونس انقلب الرئيس المُنتخب قيس سعيد على الحكومة والبرلمان؛ مُستأثرًا بمعظم السلطات في خطوة وُصفت بالانقلاب الناعم، يُضاف إلى ذلك محاولة انقلاب فاشلة في النيجر، ونقل تعسفي للسلطة في تشاد عقب اغتيال رئيسها إدريس ديبي، هذا كله بجانب عدد من المحاولات الانقلابية الفاشلة كان آخرها تلك التي قام بها الجنود في غينيا بيساو على حكم الرئيس عمارو سيسوكو إمبالو.
وتتعدَّد الأسباب والذرائع التي يبرر بها العسكريون انقلاباتهم، ولكن لوحظ أن العسكريين في الألفية الثالثة يقدمون الأسباب والمبررات ذاتها التي ساقها الجيل الذي سبقهم في سبعينيات القرن العشرين، وهي ثالوث الفساد والفقر وسوء الإدارة في الداخل، وتعارُض مصالح القوى الكبرى في الخارج، في مرحلة جديدة هي أشبه بالحرب البادرة في طريقة إدارة الصراعات الخفية بين القوى الغربية التقليدية والقوى الشرقية الجديدة كمنافس لها.
وإذا نظرنا إلى كيفية تعامل القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية مع الانقلابات في إفريقيا، فسنجد أنها تدينها، ولكنها في النهاية تقبلها باعتبارها أسلوبًا لانتقال الحكم في إفريقيا، وكذلك تفعل فرنسا، وهو تناقض فاضح بين فلسفة تعزيز الديمقراطية والقبول بالحكومات الانقلابية والتعامل معها.[6]
العامل الخارجي ونظرية الدومينو في إفريقيا
شهد العقد الأخير صعودًا للنفوذ الروسي في القارة على حساب التراجع الفرنسي، مع محاولات تركية للتوغل في منطقتي القرن والساحل الإفريقيين، وكذلك محاولات أميركية لاستعادة السيطرة في إفريقيا، حيث أضحت الاعتبارات الجيوسياسية هي الحاكمة في تعاملات القوى الكبرى مع إفريقيا، وقد أدَّى التكالب الدولي المتزايد على استغلال الموارد الإفريقية إلى نشوب صراعات بالوكالة ومن ثمَّ تصاعد التوترات التي تنتقل للدول المجاورة بطريقة أشبه ما تكون بحركات الدومينو.
وقد صاحب ذلك وجود اتجاهين رئيسيين: أولهما؛ يتمثل في تمدُّد الشبكات الإرهابية العابرة للحدود في الساحل وشرق إفريقيا بالمعنى الواسع، والذي يستند إلى وجود وفرة من المقاتلين الأجانب المتجولين، وثانيهما؛ يتمثَّل في انتشار القواعد العسكرية الأجنبية وسط التوترات الجيوسياسية الصينية الأميركية المتزايدة، وهكذا يلعب العامل الخارجي دورًا كبيرًا في مضاعفة تأثير الدومينو وإشاعة التوترات في دول القارة، والتي تصب في الأخير في فتح ثغرة لنفاذ القوى الخارجية للداخل الإفريقي وتحقيق مصالحها هناك.
الخُلاصة؛ شهدت القارة الإفريقية خلال العقد الأخير تحوُّلات دراماتيكية قلبت كل التوقعات، وأجهضت نضال الشعوب الإفريقية لتحقيق التحرر والنماء والبناء، حيث تحوَّل دومينو ثورات الربيع الإفريقي؛ إلى دومينو انقلابات ينذر بخريف القارة، والعودة لمربع الاستنزاف والصراعات التي لا نهاية لها، ومع تصدُّر الدول الإفريقية لمؤشر الدول الهشة لعام 2021؛ تزيد احتمالات حدوث الانقلابات في إفريقيا، وهو ما سيحرم القارة من فرص كثيرة كان يُمكن أن تسهم في نهضتها الاقتصادية والتنموية، ويفاقم الأوضاع المتردية بالأساس. وبقراءة سجالات القوى الدولية على المسرح الإفريقي، يُمكن القول بأن تلك القوى قد تسهم في مُفاقمة الفوضى إذا لزم الأمر حتى تُحقِّق مصالحها.
المصادر
[1] فيصل براء الميرعشي، “نظرية الدومينو – Domino Theory”، الموسوعة السياسية، متاح على الرابط: https://cutt.us/BC6lL
[2] نسرين الشحات الصباحى على، “نظرية الدومينو “الاختراق الناعم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا””، المركز الديمقراطي العربي، 9/7/2016. متاح على الرابط: https://cutt.us/L8bs9
[3] خالد السرجاني، “هل هي نظرية الدومينو؟”، البيان، 1/3/2011. متاح على الرابط: https://cutt.us/rgEnF
[4]Eric Hobsbawm, The Age of Revolution: 1789-1848, (London: Vintage Books, 1996), Pp. 2-17.
[5]على سعيد صميخ، التحول الديمقراطي في دولة قطر (1995-2004)، (رسالة دكتوراه مُقدمة إلى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2006).
[6] محمد صالح عمر، “عودة الانقلابات إلى الواجهة في إفريقيا.. من يوقف سقوط أحجار الدومينو؟”، الجزيرة نت، 5/2/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/SN0o3
تعليقات علي هذا المقال