مع كل بداية عام يُضاف رقمٌ إلى تاريخ ميلاد الثورات العربية، أحد عشر عامًا مرت على الموجة الأولى لثورات المنطقة، وما يقرب من أربع سنوات على الموجة الثانية، ثم ينظر الرائي في الأحداث الجارية فيشهد ازدياد أعداد المعتقلين وضحايا النزاعات، ارتفاع لمعدلات الهجرة، تأزم للوضع الاقتصادي، احتكار لأدوات البناء الثقافي من قبل من هم في السلطة، استبداد النخب الحاكمة مع تخبط المجموعات الثورية، ومن ثم تأتي الشكوك بالمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحتى الدينية التي قد يرى الفرد أنها لم تستطع حل هذه الأزمات على المدى القصير، فينقلب عليها وتبدأ رحلة البحث عن أجوبة.
لم يكن الجميع يؤمن بالثورة من البداية، بل لم تكن الثورة كفكرة واضحة قبل قيامها، وحتى في السنوات التي تلتها وإنها لا تزال موضع بحث وفهم.
يقول ابن خلدون: “إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم وغلبهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول”[1].
إن رؤية ابن خلدون الجبرية عن حتمية التغيير واستمراريته وهرم الدولة الحتمي، يؤكد أن الثورة جزء لا يتجزأ من دائرة التطور، وهذا التغيير قد يقود في ظاهره إلى الأسوأ وقد يحمل في باطنه تغييرًا جذريًا يحتاج إلى المدى البعيد كي تتضح معالمه.
هذه المقالة تتناول نفس السؤال لكن بطرح مقارنة سريعة بين موجتين ثوريتين من أزمنة وأقطار مختلفة، وهما الثورات العربية حديثة العهد والثورات الأوروبية في القرن التاسع عشر، حيث أن تلك الثورات كانت جزءً من التطور الحضاري للقارة الأوروبية رغم فشل أغلبها إن لم يكن جميعها.
أوروبا قبل ثورات ١٨٤٨
عرفت القارة الأوروبية نظام الملكية المطلق والإمبراطوريات ذات القوميات المتعددة، وقد خلفت الثورة الصناعية التي بدأت في القرن الثامن عشر نموًا سكانيًا كبيرًا ما أدى إلى انتشار التعليم، واتساع الطبقة المتوسطة والتي كان أغلبها من الشباب.[2]، ولم تستطع الأراضي الزراعية تحقيق الاكتفاء الغذائي رغم زيادة إنتاجيتها بسبب صناعة الآلات الزراعية، ونتج عن ذلك التحول الصناعي الذي شهدته القارة أزمات اقتصادية ومالية، تزامن ذلك مع زحف إلى المدن، وازدياد في معدلات البطالة والأمراض، وتردي أوضاع العمال، بالإضافة لارتفاع معدلات التضخم.
لم تحاول النخب السياسية الأرستقراطية التخفيف من حدة الأزمات، فعلى سبيل المثال ظلت نسبة الضرائب الاستهلاكية كما هي، ولم تكن ثورة ١٧٨٩ في فرنسا بعيدة عن أذهان الوعي الجمعي الأوروبي، حيث بدأت تصورات سياسة جديدة تنتشر في القارة مثل الهوية القومية والليبرالية، وحق الشعوب في تحديد مصائرها، والمساوة بين المواطنين.
ربيع أوروبا
“الربيع الأوروبي” أو “ربيع الشعوب” بدأ في سنة ١٨٤٨ وانتهى في العامين التاليين، ثورات اجتاحت أكثر من خمسين كيانًا سياسيًا منفصلًا دون ترتيب أو تنسيق بين مشعليها.[3]
ففي يناير ١٨٤٨، انفجرت أول احتجاجات في إيطاليا والتي كانت منقسمة إلى ولايات منفصلة في ذلك الوقت، وتبعتها “ثورة فبراير” في فرنسا، ثم “ثورة مارس” في الولايات الألمانية، ثم انفجرت الثورة في فيينا قلب إمبراطورية هابسبورج النمساوية، ولحقت بهما الدنمارك والسويد في ذات الشهر.
في يونيو من نفس العام، اندلعت الاحتجاجات في الإمارات الرومانية -رومانيا وأوكرانيا ومولدوفا حاليًا- ضد الامبراطورية الروسية، تبعتها الثورة الأيرلندية الفتية في يوليو ضد الحكم البريطاني، والتي كانت قد بدأت بأشكال مختلفة منذ استحوذت بريطانيا على أيرلندا في ١٨٠١.
وعليه؛ فإن تأثير الدومينو الذي شهدته الثورات الأوروبية مشابه لذلك الذي وقع في المنطقة العربية بداية “بثورة الياسمين” في تونس والتي بدأت في ديسمبر ٢٠١٠، ثم ثورة الخامس والعشرين من يناير من العام التالي في مصر، وثورة ليبيا في فبراير وسوريا في منتصف مارس واليمن في سبتمبر وغيرها من الاحتجاجات ثم بلدان الموجة الثانية في ٢٠١٨ و٢٠١٩.
اختلفت المطالب الثورية في الدول المذكورة كما اختلفت في ثورات المنطقة العربية، ولكن ظلت مظلة من المطالب تتشارك فيما بينها ومنها: المشاركة السياسية، وحقوق اقتصادية، وحرية الصحافة، وإنهاء حكم الملكية المطلق، وتأسيس دول قومية تقوم على المساواة بين مواطنيها.
ورغم أن الثورات لم تُصبغ بأيديولوجية محددة إلا أن القوى الثورية كانت منقسمة إلى فئات من الليبراليين والقوميين والعمال والفلاحين.[4]، اتحدت القوى الثورية ضد الحكم القديم ولعلها لذلك حققت نجاحاتها الأولية، كتنحي ملك فرنسا وإنشاء حكومة انتقالية، واستقالة الرجل القوي في إمبراطورية هابسبورغ النمساوية مترنيش، وإنشاء اتحادات للعمال، ووضع مسودات بعض الدساتير.
الثورات المضادة والشتاء الأوروبي
باءت جميع ثورات الربيع الأوروبي بالفشل، واستحال الربيع إلى شتاء، ونجحت الثورات المضادة بشكل حاسم وفي بعض الدول كان نجاحها عبر الانتخابات، فلم تستطع القوى الثورية الوفاء بوعودها، واستمر الاقتصاد في التأزم، وانقسمت القوى الثورية بين طبقة العمال والطبقة المتوسطة، وبين رؤى سياسية مختلفة.[5] ، وقعت مجازر في ثورات الربيع الأوروبي، وقُتل ما يقرب من مئة ألف في الإمبراطورية النمساوية، فضلًا عن آلاف آخرين في مناطق مختلفة، بجانب الاعتقالات والإعدامات والنفي، كما شهدت القارة فوضى وانقسامات بين القوى الثورية التي لم تستطع إيجاد عصبية تفوق كل العصبيات الكامنة في المجتمع، ولا عصبية النخبة الحاكمة[6]، ولم تتضح معالم نجاح الثورات إلا بعد ما يقرب من ربع قرن، والمفارقة أن هذا حدث بأيدي بعض أعداء ثورات ١٨٤٨.[7]
مرت ثورات أوروبا بمراحل مهمة بعد اندلاعها للوصول إلى التغيير الجذري الذي حدث في النسيج المجتمعي والنظام السياس،ي وأوجد عصبية جديدة أدت إلى اجتماع بشري استطاع الوصول في النهاية لمرحلة الدولة.
كما ساعدت الثورة الصناعية في انتشار الأفكار والمعلومات وبين ثلاثينيات القرن التاسع عشر وأربعينياته، حيث كان التلغراف قيد التطوير فساعد بدوره في نشر أخبار الثورات في القارة الأوروبية من دون رقابة النظم الحاكمة، يُذكر كيف أثر خبر تنحي الملك الفرنسي على المتظاهرين والنشطاء في ألمانيا والذي كان قد بعث عبر التليغراف.[8]
انتشرت الأفكار في السجون والمنافي، كما انتشرت مبادئ الاشتراكية بعد أن نُشر البيان الشيوعي لكارل ماركس وفريدريك إنجلز في ١٨٤٨، والذي كانت أفكاره تنتشر بعد الشتاء الأوروبي بشكل خاص بين أساتذة وطلاب الجامعات لما تحمله من حلم يوتوبيا لم تحققه الثورات.[9]
في ٢٠١١ ورغم رقابة الدول على القنوات الإخبارية المحلية خاصة في مطلع الثورات، لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا كبيرًا في انتشار أحداث الثورة والأفكار التي حملتها، ولا يزال المجال مفتوحًا في هذا الفضاء الذي لا تحتكره السلطة.
من العصبية إلى اجتماع بشري ومرحلة بناء الدولة
نجحت الثورات المضادة في تثبيت الحكم الملكي بعدما تعاونت فيما بينها، إلا أنها فشلت في لم شمل الشعوب تحت هوية واحدة، ورؤية سياسية واضحة، فضعفت عصبية من هم في الملك، وهرمت الإمبراطوريات، وظهرت القومية كشعار لاجتماع بشري جديد يؤسس لبناء دول أوروبية قائمة على هوية قومية، تستند للغة والثقافة والعادات والمواطنة[10]، ممهدة لما اصطلح عليه ابن خلدون تسلسل البناء الحضاري “عصبية – اجتماع بشري – عمران”[11].
فتوحدت كلٌ من ألمانيا وإيطاليا وضعفت الإمبراطوريات القائمة، بل إن الدولة القومية التي زُرعت بذرتها في القرن السابع عشر تبلورت بشكل واضح في أواخر القرن التاسع عشر، راسمة حدود الدول الأوروبية، وأحيت لغات كانت قد أوشكت على الاندثار، كما شجعت مأسسة الجيوش القومية[12]، ويعرف المؤرخ كريستوفر بايلي فترة ثورات ١٨٤٨ وما بعدها بأنها فترة بناء الأمة والدولة في الحداثة وتاريخ العالم.[13]
إن النظم المَلكية المطلقة في أوروبا لم تكن مقترنة فقط بالنظام السياسي، بل إنها كانت تستند إلى منظور اجتماعي يُعرف الفرد -بشكل أساسي- بنسبه والطبقة التي ينتمي إليها، بل ويحدد حق المِلكية كملكية الأراضي والقطاعات وهلم جرا على هذا الأساس، فلم يكن النظام الجمهوري الذي شهدته فرنسا والقومية مجرد حلم سياسي فقط، بل أيضا حلما اجتماعيا يعيد تسمية الفرد بالمواطن بدلا من كونه تابعا للملك، وبالمالك بدلا من المملوك.[14]
لم يكن نمط التغيير وسرعته موحدا بين الدول الأوروبية، فقد كانت المدن -المركز- أسرع وتيرة من المدن الصغرى والقرى -الأطراف- كما اتضحت معالم التغيير بشكل أسرع في غرب أوروبا ووسطها وشمالها عن شرقها وجنوبها.[15]
الخلاصة:
بدأت ثورات الربيع العربي بمجموعة من الشباب المتعلمين من الطبقة المتوسطة هي الأخرى، ونجحت في تحقيق مكاسب أولية ما لبثت أن فُقدت أمام الثورات المضادة، فلم تستطع القوى الثورية الالتحام وإيجاد عصبية أقوى من عصبية من هم في الحكم، بل إن الانقسامات في المنطقة تزايدت بين طائفية دينية واتجاهات أيديولوجية، وبين ليبراليين وإسلاميين ومناصرين للثورة وأتباع للثورات المضادة، حتى إن تونس التي كانت تُعتبر الاستثناء بين ثورات العالم العربي شهدت انقلابا على الديمقراطية في شهر يوليو من عام ٢٠٢١.
على مدى قرن أو أكثر مرت أغلب الدول العربية بمراحل ثلاث، وهي: الدولة الاستعمارية، ودول ما بعد الاستقلال، والدول الاستبدادية التي ظهرت في سياق الانقلابات العسكرية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، والتي عاشت مرحلة من الاستقرار منذ العام ١٩٧٠ وحتى الربيع العربي في ٢٠١١.”[16]
غير أن هذه النماذج جميعها لم تجب على أسئلة حول أزمة التكوين الاجتماعي والسياسي والمؤسسي للدولة التي انقسمت بين دولة قومية على النمط الغربي بآلياتها ومؤسساتها ونخبها التي ترى أنها تعبير عن المجتمعات العربية، وبين تصور مبهم للدولة في الثقافة الموروثة والذي هو في حاجة للكثير من التنظير لتتضح معالمه.
إن كان التاريخ يعيد نفسه، فالسؤال الذي يطرحه هذا المقال في النهاية: ما هي الأطروحات السياسية والفكرية لتكوين اجتماعي يصل إلى مرحلة الدولة والغلبة لبلدان الثورات العربية وللمنطقة ككل كما حدث بعد ثورات الربيع الأوروبي؟
المصادر :
[1] ابن خلدون (١٤٢٥)، المقدمة، ج١، ص٣٢١. استشهد به مصطفى غنيمات، الفكر الاجتماعي عند ابن خلدون، ٢٠٠٧
[2] Wilmot, E. (1991). The Great Powers 1814-1914, Nelson Thornes Ltd, p.66-85.
[3] Narayan, S. (2016). The Seeds of the “Springtime of the Peoples:” A Study in the Causes of the Revolutions of 1848, Inquiries Journal, Vol. 8.
[4] Anceau, É. (2020) 1848, the European People’s Spring, Digital Encyclopedia of European History.
[5] Wilmot, E. (1991). Ibid.
[6] علاء زهير الرواشدة، سوسيولوجيا الثورة في الفكر الخلدوني: دراسة معاصرة للربيع العربي في ضوء مقدمة ابن خلدون، الحوار المتوسطي، العدد السادس، صـ٣٣١ – ٣٣٢.
[7] Smith, P. (1952) Revolutions of 1848: A Social History, Princeton University Press, p. 3.
[8] Almond, M. (2012). The Arab Spring – Contemporary Revolutions in Historical Comparison”. All Azimuth: A Journal of Foreign Policy and Peace, Vol. 1: 35-53
[9] Narayan, S. (2016) Ibid.
[10] Narayan, S. (2016) Ibid.
[11] عصام عبدالشافي، (٢٨ أغسطس ٢٠١٨). الثورة والبناء الحضاري عند ابن خلدون، المعهد المصري للدراسات.
[12] Smith, P. (1952) Ibid, p. 6.
[13] Bayly, C. (2004). The Birth of the Modern World: 1780-1914, as cited in Narayan, S. Ibid.
[14] Sperber, J. (2017). Revolutionary Europe, 1780-1850. 2nd ed. London: Routledge, chapter 9.
[15] Sperber, J. Ibid, chapter 5.
[16]يزيد صايغ، أزمة الدولة القطرية العربية، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، نوفمبر ٢٠١٥
تعليقات علي هذا المقال