تدفقت الجماهير إلى الشوارع في العديد من الدول العربية بداية من أواخر عام 2010، حيث اشتعلت أولى المحطات الثورية في تونس، ثم تلتها مصر في يناير 2011، لتتبعهما ليبيا في فبراير، ثم سوريا واليمن، فاهتزت عروش لم يكن يُظن أنها ستهتز يومًا، ورحل عن مقاعد السلطة رؤساء لبثوا في الحكم عقودًا طويلة، وأصيبت أجهزة الأمن المحلية، وأجهزة الاستخبارات الأجنبية بصدمة، في ظل سرعة تهاوي الأنظمة العربية العتيدة[1].
وقد لخص المؤرخ البريطاني روجر أوين في كتابه “الدولة والسلطة السياسية في الشرق الأوسط” مشاكل أغلب أنظمة الحكم العربية قائلا: أنها تتمثل في (حكم القلة، والتبعية للغرب، والحكم دون مساءلة)، ففئة محدودة هي التي تستأثر بالسلطة مع تهميشها لبقية المجتمع، وتستند في استبدادها لتمتعها بدعم خارجي في ظل رعايتها للمصالح الغربية، ومن ثم تحكم عادة دون التزام بقانون أو أعراف وتقاليد أو دين.
لماذا ثار المصريون؟
مرت هيمنة الجيش على الحكم في مصر منذ يوليو 1952 بعدة مراحل، فالنظام الناصري بدأ عهده فتيًا على يد شباب من صغار الضباط، فأعطى الفقراء مكتسبات عديدة مثل توزيع الأراضي على صغار الفلاحين، عقب صدور قوانين الإصلاح الزراعي، كما توسع في دعم القطاع العام وتعيين الموظفين به، فضلا عن تبنيه لخطاب إعلامي يدغدغ مشاعر الجماهير، ويركز على التحرر الوطني ومناهضة الاستعمار.
المكتسبات التي حازتها الجماهير فضلًا عن كاريزما عبد الناصر، مكنت النظام من امتلاك شعبية كبيرة غطت على سلبياته العديدة لسنوات، إلى أن ظهرت الحقيقة في حرب 1967، ثم فيما تلاها من صراع على السلطة بين ناصر ورفيقه عبد الحكيم عامر، لتنتهي تلك الحقبة بوفاة عامر الغامضة في مقر إقامته الجبرية، ووفاة ناصر المفاجئة بعدها بثلاث سنوات.
عندما وصل السادات للحكم؛ سرعان ما بطش بمجموعة مراكز القوى المرتبطة بعهد سلفه، وأفرج عن المعتقلين السياسيين في بداية عهده، واعتمد سياسة التقارب مع أمريكا باعتبار أن قواعد اللعبة السياسية في المنطقة بيدها، وعقد اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل، وواكب ذلك تبنيه للانفتاح الاقتصادي، فبدأ عصر القطط السمان، وتزاوج رأس المال مع السلطة[2]، كما انخرط الجيش في الأنشطة الاقتصادية، لكن يُحسب للسادات زيادته لرقعة الحريات، وسماحه بتأسيس أحزاب سياسية، بعد حقبة تجريم الأحزاب في العهد الناصري، لكن عندما حاول السادات العودة للقمع باعتقاله ما يزيد عن 1500 من الشخصيات العامة في سبتمبر 1981، دفع حياته ثمنًا لذلك في حادث المنصة.
خلف مبارك السادات في الحكم، وترك في بداية حكمه هامشًا من الحريات للأحزاب السياسية والجماعات الإسلامية، يسمح لها بالمساهمة في الشأن العام، بما لا يمثل خطرًا على استقرار نظامه، وذلك بالتوازي مع تعامله الاستئصالي مع الجماعات التي رفعت السلاح في وجه النظام.
عقب أحداث ١١ سبتمبر؛ اعتبرت واشنطن أن الاستبداد بالمنطقة هو السبب في تغذية مشاعر التطرف، فضغطت على حلفائها لزيادة رقعة الحريات، وحدثت بمصر تعديلات دستورية سمحت بإجراء انتخابات رئاسية لأول مرة في عام 2005، كما فاز أعضاء من جماعة الإخوان في ذات العام بثمانية وثمانين مقعدًا في انتخابات مجلس الشعب، وهو عدد غير مسبوق منذ بدء مشاركتهم بالانتخابات النيابية.
ولكن مع تراجع حدة الضغوط الأمريكية في عهد أوباما، وتصعيد جمال مبارك لواجهة المشهد السياسي، تزايدت وتيرة قمع النظام لمعارضيه، وتلاشت هوامش الحريات، وازداد تباين الفوارق الاجتماعية بين طبقة رجال الأعمال وكبار المسئولين من جهة؛ وبين عموم المواطنين من جهة أخرى، وتضاعفت معدلات الفقر، ووصلا لحالة الانسداد السياسي التي ترافق مع التزوير الفج لانتخابات مجلس الشعب عام 2010، فضلًا عن انتشار انتهاكات عنيفة من الشرطة ضد المواطنين، كما في حادثتي تعذيب وقتل الشابين خالد سعيد وسيد بلال، تأججت حالة الاحتقان المكتوم.
من ناحية أخرى حدثت خلافات داخل دوائر السلطة حول قبول خلافة جمال مبارك لوالده، وكان الجيش ضمن الرافضين لهذا الخيار[3]، فاجتمعت دوافع سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية، جعلت الحراك الجماهيري ينفجر مطالبًا بالتغيير، وجاءت الثورة في تونس في ديسمبر 2010 لتبث الأمل في قلوب المصريين، وتشير إلى أن الشعب قادر على الفعل، فاندلعت ثورة يناير، وأطيح بمبارك ودائرته المقربة من مقاعد الحكم.
هل انتهت الحالة الثورية؟
في مواجهة ثورة يناير، تواطأت قوى محلية وإقليمية ودولية على الانقضاض على الثورة، والعودة بالبلاد إلى مربع أسوأ مما كان عليه الوضع في عهد مبارك، وذلك بهدف كي وعي الجماهير، وبث رسالة مفادها؛ أن الثورات والمطالبة بالتغيير تأتي دومًا بالأسوأ، لكن شواهد التاريخ تشير إلى أن الثورات الكبرى تعرضت لتراجعات شبيهة، مثلما حصل بعد الثورة الفرنسية التي لم تستأصل الملكية سوى بعد قرابة 60 عامًا من الصراع معها، والثورة الإيرانية التي استفادت مما حدث سابقا لحكومة مصدق قبل ربع قرن من الإطاحة بالشاه.
إن الرسالة الأساسية التي أرسلتها ثورات الربيع العربي، هي أن أنظمة الاستبداد الجاثمة فوق الصدور منذ حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لم تعد قادرة على تلبية احتياجات الجماهير، ولم يعد لديها ما تقدمه، فنظام السيسي خلال حكمه الممتد منذ 8 سنوات، تبنى أسلوب حكم يجمع بين الديكتاتورية في السياسة والتوجهات الليبرالية المتطرفة في الاقتصاد، والتي تصب في صالح القوات المسلحة!
حيث شن حربًا شرسة ضد الإسلاميين وحاضنتهم المجتمعية، ثم اتسع القمع ليشمل أي صوت معارض له، ولو من داخل المؤسسة العسكرية، مثلما حدث مع رئيس الأركان السابق الفريق سامي عنان، والعقيد أحمد قنصوة، كما قتل عدة آلاف، واعتقل مئات الآلاف من المصريين، ولم يسلم منه كبار رجال الأعمال مثل صفوان ثابت، وصلاح دياب، وسن قوانين قمعية غير مسبوقة، وقصف سيناء بالطائرات والمدافع، وهجر عشرات الآلاف من أهلها.
بالتوازي مع تبني سياسات اقتصادية تحطم الطبقة الوسطى، وتقضي على الفقراء بما يكفل انشغال المواطنين بتحصيل الضروري من معاشهم الدنيوي، وذلك ضمن عملية تحطيم بنية المجتمع المصري إنسانيًا واقتصاديًا وثقافيًا، لإجباره على الخضوع بشكل كامل، بالتزامن مع عدم السماح بأي هوامش قد تؤدي مستقبلًا لتشكل قوى مجتمعية منظمة، ربما تمثل خطرًا على وجود النظام، وتهديدًا لمستقبله.
لكن الإيغال في القمع وإغلاق هوامش الحريات، والانخراط في دوامة الديون التي تتضاعف كل بضعة سنوات، حتى تجاوز الدين الخارجي لمصر في عام 2021 مبلغ 137 مليار دولار بعد أن كان 40 مليار دولار في عام 2014[4]، بالتوازي مع وجود تحديات متعددة من أبرزها؛ وجود قرابة 70 مليون شاب تحت عمر الثلاثين، وعدم قدرة النظام على تلبية احتياجاتهم في مجالات التعليم والصحة والخدمات والتوظيف وغيرها، فضلًا عن اتساع الفوارق الطبقية، وكلها أمور تجتمع معا لتؤكد أن المطالب التي دفعت لحدوث ثورة يناير لم تتحقق، بل تزداد.
وفي مواجهة تلك المتطلبات لا تكفي القوة والبطش وحدهما في حكم الشعوب، فقد انهار النظام السوفيتي رغم قبضته الحديدية، وسقطت عشرات الأنظمة الديكتاتورية حول العالم في ظل عدم قدرتها على تلبية الاحتياجات الأساسية لمواطنيها، ولم تنفعها عندئذ قبضتها الأمنية والعسكرية، وذلك لأن الجمع بين الحرمان السياسي، والافتقار إلى العدالة الاجتماعية، والفرص الاقتصادية خلال فترة النمو السكاني المتفجر ما هو إلا قنبلة موقوتة[5].
ورغم الإقرار بأن نظام السيسي يبدو حتى الآن منتصرًا في المعركة، ويوطد أركانه عامًا بعد الآخر، إلا أن نظامه في الحقيقة يستجمع كل مسببات الانفجار ضده، وعلى جهة أخرى، فالمنطقة العربية تعيش حالة سيولة كبيرة، حيث إن الوضع الإقليمي يٌعاد تشكيله، والنظام الدولي يمر باضطراب كبير في ظل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وتراجع أهمية الخليج العربي في منظور واشنطن، فضلًا عن تزايد التوترات بين أمريكا والصين، وحلف الناتو وروسيا.
دروس الموجة الأولى
تفادي الأخطاء السابقة يتطلب البناء على رصيد الخبرة المتراكم خلال السنوات الماضية، ومما يساعد في ذلك:
أولًا: العمل على تنمية شعور الفرد بذاته وقدرته على الفعل والإنجاز، فالعصر الذي نعيش فيه لم يعد عصر القوى العظمى، والدول القوية، والجماعات الكبيرة بمفردها، إنما دخل المشهد لاعبون جدد أصغر، لهم القدرة على التأثير بشكل كبير في الأحداث، بل وفرض أمر واقع على الكيانات الأكبر، سواء في الجوانب الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية أو الإعلامية، فنجد كمثال بسيط أن بعض البرامج على اليوتيوب تحوز مشاهدات أكثر من قنوات فضائية ذات ميزانيات ضخمة.
ثانيًا: تنسيق الجهود بين الراغبين في التغيير، فالواقع الحالي يبرهن على غياب أي إدارة مركزية للتغيير تقدم رؤية وتصيغ حلولًا ناجعة للأزمات، بينما الخصوم ينسقون جهودهم على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية، وهذه المفارقة يمكن حل معضلتها عبر مستويين:
-
محور رأسي يتعلق بالقيادات ذات الخط التغييري، يقوم على تنسيق أنشطتها، وتكميل بعضها لبعض، فهناك فئات وشخصيات نخبوية لديها رؤى وأفكار وتصورات متميزة، وهناك فئات أخرى لديها امتدادات مجتمعية، وفئات ثالثة لديها إمكانات مالية جيدة، وفئات رابعة لديها خبرات تقنية وإعلامية ..إلخ.
-
محور أفقي يتعلق بعموم الأفراد، يقوم على تأسيس أعمال لا تعتمد على الانتماء التنظيمي، وتهدف لتحفيز الأدوار الفردية والجماعية الصغيرة بالتوازي مع تصدير رموز جديدة في مواجهة حملات الاستئصال وتجفيف المنابع التي تتعرض لها الحالة الثورية منذ بدء موجة الثورات المضادة.
ثالثًا: تجاوز الكثير من القادة ممن تبين أنهم ليسوا على مستوى الأحداث، سواء لضعف لديهم في الرؤية المطلوبة للتوجيه السليم، أو لضعف وتكلس في الإرادة تمنعهم من حسن الإدارة في أجواء الصراع.
رابعًا: تحليل بنية النظام، ووضع تصورات لإعادة بناء مؤسسات الدولة عند حدوث التغيير المنشود، تجنبًا لحالة الشلل التي حدثت بعد ثورة يناير، حيث لم تبرز آنذاك خطط جادة لتفكيك أذرع النظام، وبناء مؤسسات جديدة تلبي طموحات الجماهير.
خامسًا: تبني مطالب الجماهير، وعدم الانفصال عنها بمطالب ذاتية أو سعيًا لمكتسبات تنظيمية ضيقة.
سادسًا: وأخيرًا تجنب جلد الذات، والرجوع إلى وضع وثق فيه العديد من الراغبين في التغيير بخصومهم، مثلما حدث تجاه الجيش قبل انقلاب 2013، وعدم المراهنة على الحلول القائمة على مطاردة السراب.
المصادر:
[1] انظر
Eyal Pascovich, (2013) Intelligence Assessment Regarding Social Developments: The Israeli Experience, International Journal of Intelligence and Counter intelligence, vol 26:1, p:1.
[2] للاطلاع حول حقبة السادات انظر: محمد حسنين هيكل، خريف الغضب: قصة بداية ونهاية عصر السادات. ط. مركز الأهرام للترجمة والنشر.
[3] للاطلاع حول هذه النقطة انظر : أحمد أبو الغيط، شهادتي، ط1 (القاهرة: دار نهضة مصر للنشر، 2013)، ص495.
[4] المركزي يعلن ارتفاع الدين الخارجي لمصر، أخبار اليوم، 16 أكتوبر 2021.
[5] Adel Abdel Ghafar, ‘Youth Unemployment in Egypt: A Ticking Time Bomb’, Brookings Institution, 28 July 2016.
تعليقات علي هذا المقال